حلم.. لكن!
نظر إلي شزرا.. قالها متوجسا خيفة: كنت منتظرا قدوم هذا اليوم. أنت لا تخبرينني بشيء أجهله.. دفن ما تبقى من الأكل في فمه، مفضلا صمتا. أضحت وجبة العشاء كئيبة حالكة حلكة سماء تلك الليلة.. ظللت أسأل نفسي: أين هي التضحيات التي كان يرددها على مسمعي؟ أينها اليوم؟ هل هي مجرد كلمات تفوه بها باسم الحب أم إن فكرة العيش متباعدين لفترة محددة باتت تؤرقه؟ تعالت ضحكات الممثلين في فيلم أجنبي كان يشاهده. انشغلت بمطالعة صور في هاتفي. وجوه محتشدة في مقطع صغير.. أفَقْتُ من تأملي برهة، طالعته قليلا، ثم عاودت التأمل.
بداية نهاية..
توالت الأيام وتوالت معها صراعات فازدادت الفجوة اتساعا، حلم صغير. انقلب إلى كابوس، بل أضحى بداية لنهاية حتمية..
كنت الشخصية الوحيدة التي ملأت أول صفحتين من صفحات حياة زوجي، كلماته مازالت تتردد على مسْمَعي: أنتِ النفَس الذي أتنفسه كل يوم. انقطع الشريان الذي كان يسري فيه ذلك النفس..؟ انحشرت الكلمات في فمي قليلا، ثم بادرته:
ـ مباراة الولوج إلى التعليم على الأبواب، لم يتبق سوى شهرين. ماذا سنفعل؟ هل ستسمح لي بخوضها؟ أم سأظل رهينة قطاع خاص.
ضحك بازدراء وأجابني بنبرة متهالكة:
هل يعقل أن تكون كلماتي مبهمة بالنسبة لك أم هو تجاهل منك لما قلناه وما عنيته؟. لقد خُضنا حوارات عديدة من قبل، كان موقفي واضحا جليا. بلغنا ذِرْوَة حب وسعادة وفرح. لماذا تريدين هدم سقف أحلامنا وبتر محبة؟ ألا تدركين أن رحيلك سيدمرني بل سيدمر جميلا بيننا؟.
اغرورقت عيناي وانهمرت دمعة أحرقت وجنتي المتوهجتين. لم تستطع شفتاي نطقا. لم أكن مستعدة لأخسر حبي. لكن، مابه الآن يتغير؟ ماذا لو كان هذا الأخير سيلون حياتنا ويدفعها إلى أمام؟ هو زوجي، قرة عيني.
لكن ماالعيب أن أحقق أحلامي التي جاهدت في سبيلها؟ لم لا يحبذ أن أغيير عملي وأحقق استقلاليتي نحوالأفضل؟
مرت ساعات كأننا في جو جنائزي. ظل يحتسي قديسته السوداء المعتادة، يرتشف مرارتها بِلْتِذَاذ محاولا نسيان ما فات. أظل أتخبط في حسرتي.
نقطة أفاضت الكأس..
حل اليوم الموعود، أخبرت زوجي برغبتي في الالتحاق بدورة تكوينية خاصة بالأساتذة المقبلين على ولوج التعليم بالتعاقد، وأن الأمر واقع.. وأنني مازلت متشبثة بحبه، راجية منه إعادة التفكير والتأني قبل اتخاذ أي قرار ينهي ما قطعنا له وعودا ويهدم ما قمنا ببنائه. جاء الرد سريعا مثل صاروخ مدمر.. توجب علي اختيار أحد أمرين؛ إما بيتي وسعادتي، أو عملي وحلمي! يا ألله: كيف لهذا أن يكون قدري؟ كيف لهاته الحياة أن تكون قاسية معي؟
ظلت أمي شاردة ، وظلت تستمع لي باهتمام وحزن، كنت قد طلبت مشورتها بعد أن يئست من إيجاد حل وسط يرضينا. ظللت في مكاني غير مرتاحة، تارة أجلس معتدلة ثم أنهض لأقطع الغرفة جيئة وذهابا. تارة أجمد مكاني، أنظر إلى أمي، أنتظر جوابها في لهفة، وتحترق في دواخلي؛ كأنني أقول لها: عجلي يا أماه برد.
عدلت من جلستها. أشارت إلي بالجلوس، قالت بنبرة تشوبها حكمة: ـ هناك مقولة نتداولها منذ زمن بعيد هي: واللين باللين، والود بالود، والبادىء باللطف تألفه الروح وتهواه.
مرت دقائق وأنا فاغرة فاهي أحاول ترتيب كلماتها وفهمها، ماذا تعني بذلك؟ قلت لها:
ـ لم أفهم شيئا من كلامك يا أماه، لكن عتابي له شديد؛ لكونه لم يحاول أن يفهم ويتفهم دوافعي ورغبتي في تحقيق مبتغاي. أجابتني ضاحكة:
ـ من أتى بعد العتاب يا ابنتي ليس بعاشق، بل العاشق هو الكريم الرحيم الذي يحن قلبه ويشفق. قلت لها بنبرة عصبية:
ـ من حن قلبه وأشفق أبى أن يتنازل عما يخصه.
غادرتها دون إجابة شافية، فلا أمي أشارت علي بحل يناسب وضعيتي ولا أنا جزمت قطعيا لما أريد.
أعرف يا أمي أن بعض ما أفعله سيء وأني لا أعيش الحياة كما تريدين، لكن دعائك ـ بعد الله ـ يقيني من عثراتي .دمت لي جمالا لا ينتهي.
قرار..
“اللهم إني أسألك لطفا قريبا عاجلا”.
مع اقتراب توقيت المباراة تزايد يأسي وتفاقَمت سلبياتي واستوطَنَت كياني، وبِتُّ خائرة القوى، حائرة لا أستوعب ما يدور حولي..
التقيت مع صديقتي المقربة في مكان هادئ لطيف. جاءنا النادل، كعادته في زيه الرسمي الأنيق، مبتسما حليق الذقن، رطب الشعر، تتهاوى بعض خصلاته على جبينه فيزيحها ببطىء ولطف. ينتظر طلباتنا..
قالت صديقتي: ورسائله؟
قلت لها: لم أعد أنتظرها. لكوني لا أميل إلى ضعف، حتى ولو تبعثرت وكسرت، فأنا بخير.
نظرت إلي صديقتي نظرة حانية تعبر عن حسرة وشفقة. توادعنا بعناق حار.
تجمدت يداي، أخرجت مفاتيح منزلي، فإذا بالمنزل خاليا، باردا، كئيبا، بعد أن غادره زوجي.. لم يكن قراري سهلا، وهو قرار سيبعدني عن أهلي و مدينتي وأحبائي وكل عزيز على قلبي.. تذكرت كل كلمة قالها لي وهو في حال مغادرة:
ـ عندما تكونين في بالغ حزنك، اهتمي بأناقتك جيدا، فهي الكفيلة بحمايتك من شفقة الآخرين. وتذكري محبتي لك، محبتي لك جزء من ماضيك..
عادت مقلتايَ إلى الاحمرار ، فانهمرت عبراتي..
أيام تلو أيام، ليلة تلو أخرى، وأنا مُلتَاعَة بشعور انقباض روحي.. تائهة هائمة.. أنظر إلى المرآة وأهمس قائلة:
كَانَ فِي عَيْنَيْكِ شَيْءٌ..
لاَ يَخُونُ
لَسْتُ أَدْرِي!
كَيْفَ خَانَ؟!
رحيل..
حل رحيلي. تركت ورائي جميل ذكريات.. تركت رسالة أخيرة، هذا محتواها:
رفيقي:
لن أنتظرك لتحادثني، سأحادثك إن اشتقت إليك، سأغيب عنك.. سأنام عندما يَكِلّ تفكيري..هي ذي دنيانا.. كبرنا فيها..كبرت فيها أشياؤنا.. فقدنا أحبة، وسنفقد مزيدا منهم؛ لأن الفقد ليس له ميقات معلوم.
رفيقي:
تنفس النقاء، عش صفاءا كي ترتاح..
كل منا له ظرف خاص، زمانا ومكانا..
سنغيب لكننا نتذكر أحبابنا في الصباحات وفي المساءات وفي الحروف، وفي كل الأشياء العالقة بذاكرتنا. لكن ليس كل من نحب سيبادلنا الحب ذاته.
رفيقتك.
د.ة: زينب البلغيتي