قال لي بغضب: حينما أسمع كلمة تقاعد أتحسس قلبي؛ أشعر بشيء من المرارة، فالتقاعد اقترن عامة بقرب نهاية مشوار الحياة، رغم أن الأعمار بيد الله، وأن أمد الحياة، كما تخبرنا الدراسات، ارتفع نسبيا بسبب عدة عوامل ومنها تقدم الطب و تحسن مستوى العيش و العناية الصحية…
ومن سخرية الأقدار أن الحديث عن إصلاح التقاعد عندنا يتزامن مع الحديث عنه لدى الدولة التي استعمرتنا؛ وتبا للاستعمار متى كان و أينما كان !، ورغم مستوى الطب و النظام الصحي عندهم الذي يعتبر بشهادة العديد من الخبراء من أرقى الأنظمة في العالم، وإن كان بدأ يشهد بعض التراجعات في العقدين الأخيرين على مستوى القطاع الأساسي وهو القطاع العام، فإن استطلاعات الرأي تسجل رفض أغلبية الفرنسيين تمديد سن التقاعد إلى 65 سنة.
في ظل هذا النقاش المحتدم حول أنظمة التقاعد و طبيعتها (التوزيع، الرأسملة…) وقواعد تدبيرها وسبل استدامتها…، يتسلل، بالموازاة و دون هوادة نقاش آخر حول طبيعة العمل و مدته، والحق في الراحة و الترفيه و في ممارسة الأنشطة الموازية، وكذا الحق في الحماية الاجتماعية و التمتع بظروف إنسانية ما أمكن في نهاية الحياة أو في مرحلة التقاعد…؛ وهو نقاش حيوي يثيره مفكرون و تيارات اجتماعية وسياسية…، خاصة تلك القريبة من الخضر و اليسار، والأحزاب ذات التوجه الاجتماعي بصفة عامة.
قبل إصلاحات التسعينات التي مست صندوق المغربي للتقاعد و قاعدته الحسابية؛ و كلنا يتذكر أن السواد الأعظم للعاملين في القطاع العام يجهدون أنفسهم حتى التقتير من أجل الادخار و ” الاقتصاد نصف المعيشة كما كان يقال” لامتلاك سكن(ى) و أكثر قليلا، أحيانا، استشرافا لمجابهة الواقع المرير المنتظر(دواير الزمان) بعد الإحالة على التقاعد؛ فقد كان معروفا، والمنتظر بقلق، أن الراتب ينزل إلى مستويات أدنى؛ شحيحة ومتعبة، حينما يتحول إلى معاش للتقاعد، فلا يكفي لتغطية تكاليف الحياة، خاصة إذا كان المعني بالأمر قد أحيل على التقاعد و أفراد الأسرة مازال أمامهم قطع مراحل و صعود عقبات، قد تطول أو تقصر، في المسار الدراسي بابتدائييه وثانوييه وعاليه، أو كانوا فريسة لشبح البطالة الذي يخنق أبناء الفقراء والأسر المتوسطة أكثر من غيرهم.
و مع ذلك لا بد من الإشارة أن التقاعد قد شكل مكسبا بل امتيازا لم يفكر فيه كورش أو يشرع في تعميمه و توسيع قاعدة المستفيدين من خدماته و حسناته بجدية إلا في السنوات الأخيرة، وقد أظهرت أزمة كوفيد بوضوح تام الهشاشة التي يعاني منها أغلب من يشتغلون في غير القطاع العام ببلادنا.
قبل ذلك هز الإصلاح المقياسي للصندوق المغربي للتقاعد في سنة 2016 أركان الوظيفة العمومية بثالوثه الثقيل على القلوب، ورغم أن معظم العاملين بالوظيفة العمومية، وخاصة الجدد، ثم من هم في نصف الطريق، قد تجرعوا على مضض هذا التراجع الخطير، الحارق الذي جاء ولم تمض إلا أقل من ثلاثة عقود على “تنفس من سبقوهم الصعداء”…، فها هي أنباء مخيفة منتشرة، تنبئ، حاليا، بتراجعات قادمة أعظم خطورة و حرقة يحملها معه” إصلاح مقياسي ثان” قبل انصرام 6 سنوات من الإصلاح المقياسي الأول(وهي أقل من ربع المدة السابقة بين إصلاحين سابقين (1990-2016)…؟؟؟
كثيرة هي الأسئلة التي تتداول الآن في أجواء الترقب و الانتظار، ومنها:
-ماذا سيكون موقف النقابات المناضلة و الأكثر تمثيلية؟، و ماذا أعدت هذه لرص الصفوف و منع فيروس الانقسامات و التنبه و التنبيه ضد تسرب أوهام التفتيت والفتات؟، و ماذا شحذت من أسلحة لوقف النزيف و الاستماثة في الدفاع عن المكتسبات التي تحققت بعد سنوات من الكفاح في الحماية الاجتماعية، و على رأسها التقاعد في الوظيفة العمومية، مع تحسين ما يتطلب التحسين، في الصناديق و الأنظمة، و الدفع بورش التعميم والكرامة ؟.
-هل ستمرر الحكومة الحالية لعزيز أخنوش هذا “الإصلاح”، عنوة دون أدنى مراعاة لاقتراحات الشركاء الاجتماعيين كما مررت حكومة عبدالإله بن كيران ما قبله؛ و تكون بذلك أشد قسوة من سابقتها في ليبراليتها فتجهز على ما تبقى من نسيج هذا التقاعد و من بريق الوظيفة العمومية التي تشكل مشغلا أساسيا لأبناء الفقراء و الفئات الوسطى الباحثين عن الحد الأدنى من الكرامة، أم ستخلق، المفاجأة، بأسلوبها و طرحها المبتكر، لتراعي و تحفظ المكتسبات التاريخية للموظفين و توسع من قاعدة الفئات الوسطى حامية الديموقراطية والحداثة…مع المضي قدما، بتوازن شديد، في ورش الحماية الاجتماعية الذي لا أحد يشك في راهنيته و أهميته القصوى كأحد أوراش الكرامة الأساسية ببلادنا؟.
عبدالحي مفتاح