إقليم شفشاون إلى أين؟ !
في ظل استفحال الأزمة و الجفاف والهجرة..
و أنا أفكر في ضغط موضوع الهجرة القروية على المحكي الجماعي بإقليم شفشاون، ربما كانت مشاهدتي بالصدفة للوثائقي الذي يبث في القناة الفرنسية حول الواحات في منطقة تافيلالت والجفاف و الهجرة و ندرة الماء و إشكالية تدبيره في ظل التراجع الخطير لدور الخطارات كتقنية عجيبة متوارثة تنم عن ذكاء و خبرة و قدرة على التكيف مع الطبيعة والمناخ، حافزا لي على الكتابة عن هذا الموضوع المؤرق المرتبط بالتغيرات المناخية و كذا بالتحولات الديموغرافية و الاجتماعية و الاقتصادية..
الهجرة القروية ليست ظاهرة جديدة فقد عرفتها مناطق عديدة في المغرب بحكم التقلبات المناخية و تواتر سنوات الجفاف، كما أنها ظاهرة تخترق معظم بلدان العالم لتزايد الدور الاقتصادي للمدن و الحاجة إلى اليد العاملة، ثم بحث البشر عن شروط أحسن للعيش وللارتقاء الاجتماعي…
في الشمال مازالت هجرة الريف حاضرة بقوة في الذاكرة الجماعية، كما أن الهجرة بالمناطق الأخرى لم تتوقف إلا أن وتيرتها لم تكن ملفتة للنظر، بل إن سنوات ازدهار زراعة القنب الهندي و ما فتحته من أبواب جديدة للدخل شجعت الكثيرين على الهجرة العكسية إن لم يكن توزيع العيش بين البادية والحاضرة..
كل من له ارتباط بالبادية يعي أشد الوعي ما يحتله الماء من أولوية في الحياة والاستقرار، ولعل مأساة الطفل الشهيد ريان التي لم تبرح الأذهان بعد، دالة في هذا الباب إذ إنه في غياب أو ندرة المياه السطحية من عيون و وديان..، تدفع الحاجة إلى هذه المادة الحيوية البحث في أعماق الأرض، وكلما تضاعف الاستغلال والإفراط واشتد النزيف، بالإضافة إلى تراجع مساحات الغابات وتدهور الغطاء النباتي…، تضاعف العطش و جفاف الأرض سطحا وأعماقا، و زاد تعميق البحث..
قال صديقي الذي له اطلاع على وضع البادية أكثر مني، فأنا هجرتني منذ يفاعتي دون سبب واضح و إن كان الحنين إليها يلازمني:
- النوع الدخيل من القنب الهندي يتطلب ماء كثيرا لا يقدر على توفيره و جمعه إلا ذوو النفوذ من أصحاب الأحواض الاصطناعية…التي تكاثرت في المنطقة كالفطر.
قلت مستغربا:
- كيف حدث ذلك؟
أجابني بثقة العارف:
- النوع الأصيل لم يبق مطلوبا في السوق…
تدخل صديق آخر قائلا بتهكم حزين:
- هذا ما جرته براقش على نفسها..
استرجعت شريط كيف دخلت المنطقة في مسار جديد شيئا فشيئا إلى أن تمكن منها اقتصاد القنب الهندي بكل مغرياته و فنونه و فتنته وبحبوته وعنفه وجنونه..
و إن كنت قد توجست من هذا المسار غير الطبيعي منذ بدايته و ما أحدثه، من بعد، من رجات اجتماعية وقيمية، و كذا على مستوى الوعي الجماعي، فإنني لا أحبذ أحكام القيمة و النظر بتعال لواقع الناس الذي تتفاعل فيه عوامل داخلية و خارجية متشابكة لا يمكن التحكم فيها أو على الأقل توجيهها إلا بوجود إرادة جماعية قوية للدولة والمجتمع المدني و المواطن و المجتمعات المحلية..
من الواضح الآن أن الجفاف اجتمع وشح الماء مع الأزمة و بوار اقتصاد القنب الهندي، فأحدث رجة اجتماعية في بوادينا وقرانا التي انتقلت من وضعية الوفرة و الرخاء والاستقرار إلى حالة الندرة و الهشاشة و الاضطراب..
“كم من مركبة 207 متعددة الاستخدامات تتجه بمتاع الأسر المهاجرة من البادية إلى المدن الأخرى، خاصة طنجة !” يحكى هذا على ألسن متعددة، لكن المجهول هو طبيعة هذه الهجرة؛ هل هي ظرفية أم دائمة؛ وهذا يضع على عاتق مدبري المدن المستقبلة للمهاجرين على المستوى القريب والمتوسط رهانات ثقيلة، فقد يستبدل عنف الجفاف و كساد تجارة القنب الهندي والأزمة بعنف المدينة الغارقة في مشاكلها، و قساوة الإقصاء والهشاشة و الاغتراب..
الاتجاه استمر منذ عقود نحو ترجيح كفة سكان المدن على البادية؛ و جهتنا لا تستثنى من ذلك، و سيبقى السؤال المؤرق هو: هل المدن مستعدة لاستقبال عدد هائل من المهاجرين إذا استمر وضع البادية على ما هو عليه، في حين نرى أن كل هذه المدن تتشكل حولها ،بسرعة وقوة، أحزمة التهميش و الفقر و الهشاشة…؟.
لقد تجمدت مؤقتا، كما يبدو، التنبؤات بعودة الألق إلى البوادي والقرى بعد محنة وباء كوفيد، لكن المؤمل هو أن تثمر مجهودات الدولة المستقبلية مسندة بالإرادة الجماعية السياسية والمدنية في صنع التحولات المجالية، البشرية و الاقتصادية التي تساعد على الإنتاج والاستقرار و العيش الكريم على الأقل لمن يثق في حلم أن البادية هي مستقبل العالم.
و في انتظار أن يرحمنا الرحيم بالغيث النافع، فإن للضرورة أحكام و لكل أزمة أحكامها علينا نحن البشر!!
عبدالحي مفتاح