تعد حرية التنقل والإقامة من الحريات الشخصية اللصيقة بالإنسان بموجب المواثيق الدولية والإقليمية، أي حقه في التنقل من مكان إلى آخر حسب ما يريد وفي أي وقت يريد وبالوسيلة التي يريد. وعلى الجانب الآخر يمكن القول أنه إذا كانت حرية التنقل والإقامة من الحريات الأساسية للإنسان، فإن هذه الحرية ليست مطلقة في المواثيق الدولية والتشريعات الوضعية وإنما تخضع للتنظيم بما يسمح لكل دولة بالحفاظ على سيادتها وسلامتها وأمنها، ويترتب على ذلك أن أصبح لكل دولة الحق في إبعاد كل أجنبي ترى في بقائه بإقليمها تهديدا لسلامتها بالرغم من عدم انقضاء مدة الإقامة المصرح له فيها.
ورغم السماح بقيود معينة على حرية التنقل بموجب القانون الدولي، بما في ذلك لأسباب أمنية، فإن هذه القيود يجب أن تكون ضرورية للغاية ومتناسبة وغير تمييزية، وفي هذا السياق عملت بعض الدول على سن تشريعات تحد بشكل من الأشكال من حرية التنقل إليها، من خلال فرض بعض الشروط على دول أخرى، كما هو الشأن بالنسبة لاتفاقية شنغن التي وقعتها بعض الدول الاوربية، والتي تسمح بإلغاء عمليات المراقبة على الحدود بين البلدان المشاركة كما تتضمن أحكاما بشأن سياسة مشتركة للدخول المؤقت للأشخاص (بما فيها تأشيرة شنغن)، ومواءمة مراقبة الحدود الخارجية، والشرطة عبر الحدود مع الدول غير المشاركة فيها.
سنحاول أن نتناول في البداية أهم المبادئ التي جاءت بها اتفاقية شنغن لتكريس حرية التنقل من خلال النقطة الأولى، ثم نتطرق لمقاربة القيود التي تفرضها في مواجهة الحق في حرية التنقل في النقطة الثانية.
1. تكريس حرية التنقل في اتفاقية شنغن.
اتفاقية شنغن هي معاهدة وقعت في 14 يونيو 1985 بالقرب من بلدة شنغنبالوكسومبرغ بين خمسة من عشرة أعضاء في التجمع الاقتصادي الأوروبي: وهي ألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا ولكسمبورغ. واستكملت بمبادرة تطبيق اتفاقية شنغن بعد خمس سنوات من توقيع المعاهدة، لتأسيس منطقة شنغن لإلغاء الحدود الأوربية، لجعلها كدولة واحدة فيما يخص السفر عبر الحدود الدولية للمسافرين من وإلى المنطقة، لكن بدون أي مراقبة على الحدود الداخلية.
وتضم منطقة شنغن حاليا 26 دولة، 22 منها أعضاء في الاتحاد الأوروبي، و4 لا تنتمي إليها هي سويسرا وأيسلندا والنرويج ولختنشتاين.
وقبل هذا عدلت معاهدة لشبونة، الموقعة في 13 ديسمبر 2007، القواعد القانونية المنظمة لفضاء شنغن بما سمح بتعاون أمني وقضائي أكبر بين الدول المشاركة في هذا الفضاء سواء تعلق الأمر بالتأشيرات أو بالهجرة أو باللجوء السياسي.
السبب وراء تطبيق اتفاقية شنغن بمعزل عن مسار الوحدة الأوربية هو عدم إجماع الدول الأوربية عليها، في الوقت الذي لم تكن فيه دول أخرى تريد تعطيل الاتفاقية لحين إجماع أعضاء الاتحاد الاوربي عليها، فضلا عن أن بعض الدول لم تكن مستعدة لتطبيقها.
قبل اتفاقية شنغن، كانت هناك دول أوربية تتمتع بإمكانية انتقال مواطنيها إلى دول أخرى عن طريق إظهار بطاقة الهوية أو جواز السفر عند الحدود، ولكن كان على مواطني بعض الدول إظهار تأشيرة دخول عند دول أخرى، أما الآن فالدخول ببطاقة الهوية و بجواز السفر، سواء برا أو بحرا أو جوا.
فور التوقيع على الاتفاقية تمت إزالة النقاط الحدودية وتم هدم المواقع والحواجز الأمنية الواقعة على الحدود، لدرجة عدم وجود ما يحدد مكان حدود دولة مع أخرى سوى لافتة صغيرة على الطريق أشبه بلافتات المرور العادية تحمل اسم الدولة الاولى والدولة الثانية على الحدود. وأزالت اتفاقية شنغن جميع أشكال التفتيش الحدودي بين الدول الأعضاء، ولكن تبقى على سلطات كل دولة فحص بطاقة الهوية أو جواز السفر فقط.
وتوجب الاتفاقية أن تتبادل الدول الأعضاء في الاتفاقية المعلومات الشخصية والأمنية مع بعضها البعض عبر ما يسمى بنظام شنغن المعلوماتي، وهو ما يعني سهولة القبض على أي شخص غير مرغوب فيه في أي دولة، مادامت البيانات المتوافرة عن هذا الشخص تقول ذلك، وكان هذا الشخص غير المرغوب فيه يصبح آمنا لو انتقل إلى دولة أخرى، لأن شرطة الدولة الأخرى لن تستطيع العثور عليه من جديد.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فشرطة دولة ما يمكنها الدخول إلى ما بعد حدود الدولة الأخرى العضو في الاتفاقية لتعقب مجرم أو شخص ما لمسافة تصل إلى 30 كيلومترا، ويستطيع أفراد الشرطة الدخول بملابسهم المميزة أو بسيارات توضح أنها من الشرطة، وبالأسلحة بشرط عدم استخدامها سوى للدفاع عن النفس.
كما تشارك فنادق الدول الأعضاء في شنغن في عملية السيطرة الأمنية عن طريق معرفة وكتابة اسم الزائر ورقم بطاقة هويته وجواز سفره لدى نزوله في الفندق.
كما أن كافة أشكال التفتيش الجمركي انتهت تماما بين الدول الأعضاء في الاتفاقية ولكنها مازالت موجودة بين دولة موقعة على الاتفاقية والدولة العضو في الاتحاد الاوربي التي لم تنضم بعد إلى الاتفاقية الأوربية.
2. القيود المفروضة على حرية التنقل من خلال اتفاقية شنغن.
إذا كانت اتفاقية شنغن قد أزالت الحواجز الأمنية فيما بينها وعملت على تكريس الحق في حرية التنقل بين مواطني هذه الدول، فإنها في المقابل نجدها قد حدت من ممارسة هذا الحق في مواجهة الدول غير الأعضاء فيها، حيث فرضت على باقي الدول مجموعة من القيود وفي مقدمتها “تأشيرة شنغن” وهي تأشيرة تمنحها الدول التي تطبق معاهدة شنغن تخول لحاملها اجتياز حدود أي دولة من البلدان التي تكون فضاء شنغن والتجول بكل حرية داخل هذا الفضاء، دون أن يكونوا ملزمين بالحصول على تأشيرة مستقلة لكل بلد يعتزمون زيارته.
ويتطلب الحصول على تأشيرة شنغن زيارة القنصلية أو البعثة الدبلوماسية التي يقع بدائرة سكنى طالب التأشيرة بشكل شخصي، وعند تقديم طلب التأشيرة يجب أداء الرسم المحدد لأجل ذلك وهو 85 أورو بشكل عام دون إمكانية إرجاع هذا المبلغ إلى صاحبه في حالة رفض الطلب، أما بالنسبة للشروط فهي تتغير حسب دوافع السفر والبلد الأصلي لصاحب الطلب بالإضافة إلى الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمعني بالأمر.
والمفارقة هنا أن الحصول على التأشيرة لا يضمن بالضرورة عبور الحدود، ذلك أن المادة 6 من القانون التنظيمي للاتحاد الاوربي 2016/399 المتعلق بالبرلمان الأوربي وبالمجلس تفرض مجموعة من الوثائق الداعمة لموضوع وشروط الإقامة وهي بالتحديد أربع شروط:
ـ تأمين خاص بالسفر.
ـ تذكرة العود إلى البلد المنشأ.
ـ حجز فندق مؤكد أو بطاقة دعوة.
ـ مبلغ مالي كافي يغطي فترة الإقامة في منظومة شنغن.
وهذه الشروط هي نفسها التي يتم تقديمها عند طلب التأشيرة في البداية، الأمر الذي يعتبر تقييدا لحق الإنسان في حرية التنقل، ذلك أن دخول المسافرين إلى منطقة شنغن قد يكون مرفوضا من قبل المصالح المكلفة بمراقبة الحدود في حالة عدم إحضار هذه الوثائق الأربعة، الأمر الذي يترتب عنه مجموعة من الأضرار النفسية والمادية للشخص المعني وضياع مجموعة من الحقوق المرتبطة بالحق في التنقل، فقد يكون للشخص المعني موعد محدد من أجل القيام بعميلة جراحية أو موعد لإبرام صفقة تجارية وبالتالي تفويت الفرصة عليه.
من خلال كل ما سبق يتبين لنا مدى أهمية الحق في حرية التنقل في تعزيز وممارسة باقي الحقوق الأخرى، وأن تقييده بمجموعة من المعيقات المادية والقانونية ينعكس بشكل سلبي ومباشر على فئة كبيرة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، كما أنه يجب التفكير في خلق مرصد وطني لمتابعة حالات الإبعاد من منطقة شنغن التي تمس بعض الأشخاص ومصاحبتها واتخاذ جميع الإجراءات القانونية ضدها سواء لدى المحكمة الأوربية أو مجلس حقوق الإنسان.
يوسف مدني