شعرية مختلفة , تتدلّى من سماء سابعة , شعرية ممسوسة بالعرفان , لشاعر قادم من عصر الكلمات العالية , مجنون التلّ ,السالك الذي لا يكفّ عن إضرام نيران طقوسه بين بحر اللفظ ومرتفعات المعنى
في سدرة منتهى طَنْجَاه الشاهقة , متطهراً بأسطقسات النار قبل الماء…والتراب إثر الهواء ……لا غرو , وهو الوارد القديم الحادث
على أحواض شيوخها النقية , الناشئ على مشارب زواياها الرويّة….الشاعر المُدَرّس , الإعلاميّ المتمرس , صاحب الصوت البديع , والحرف السامي الرفيع , الأستاذ الألمعي عبد اللطيف بنيحيى , الأَشهَر من نارٍ على علم , هذا الكائن الخرافي الذي نذر نفسه للمُحال , ووهب روحه المُرهق للترحال , هذا المُحِلُّ في المقام , المقيم في الحال , التائه في أودية العطار السبعة, المتخلّي عن دنياه وسروره , المُتحلّي بمعارج النور وحبوره , المتجلي الساطع في ليل السؤال ضُمُوره.
عبد اللطيف بنيحيى الشاعر الشاطح ,
المهرول بين صفا الشوق ومروة الاشتياق ,
لم يفتأ يعيش على حدّ الوجود والاحتراق , بين بُعد أرضي وقرب سماوي , بين قبض مكاني وبسط زماني, هذا المُبحر الأبدي في بحر الأنوار ,والراكب الأزلي في نوفل الاسرار , يُطِلُّ علينا بسَلْسَلٍ من ماء المفردات النورانية, والأذواق العرفانية …..مستوفزاً مَرضاة المحبوب , مُزوّداً بقوت القلوب , سالكاً مُظَلَّلا بقيظ الياقوت , سابحاً في رحاب الملكوت ,يقتفي مسالك الموت بشوق لا يموت , وعطشٍ يسعى وراء رواء , أملا ًبوصلٍ ولقاء , وبقاء مستغرق في فناء.
“بيني وبينها
بحر وغابات صنوبر
وواحات نخيل.
ورعشة اشتياق
لعناق مستحيل
وشهقة باغتَتْها ذات شتاء
قبل أن تجمع زاد الرحيل”
” إن جوهر الألوهية هو الحب ولذلك كان حنين الصوفي للعودة إلى أصله الإلهي توقاً للذوبان في الحق كحقيقة أو كمبدأ كوني إن حب الألوهية يخفي في ذاته حبا للحب ما دام العمق الأصلي للألوهية هو الحب”
إذن ليس إلا الحب , الحب الإلهي فعَلَيْهِ ترتكز كل دعائم الوجود … في ديوانه (إشارات الياقوت) من تكون هذه الياقوت حقّاً إن لم تكن أنا المُريد وذاته في مرآة الحق؟ انها بالأحرى (الأنا) : أنا الصوفي الشاعرة , الحائرة بين الاتصال والانفصال. مصطلحين استطاع عبد اللطيف بن يحيى أن يُجسدّ رؤيته الشعرية من خلالهما بوصفهما مركزا في معرفة وادراك الوجود وكيفية التعامل معه , فضلاً عن اعتبارهما مَجلى من مجالي الأنا في علاقتها مع الله تعالى ( الحقيقة) وفي علاقتها مع العالم المتعيَّن الأرضي , وتحديد كينونة الانسان قبل وجوده في عالم الأشياء الأرضي .
ان لمصطلحي الاتصال والانفصال مكانة جليلة من التجربة الصوفية , إذ أنهما يشيران إلى كيفية انفصال الانسان عن عالمه السماوي غير المعروف او غير المرئي وغير المدرك الذي ُيُشار إليه بعالم الأمر , والاتصال بعالم التعيّن ,عالم الأشياء أي العالم الأرضي. ثم محاولة تحديد مسار تلك الرحلة المعرفية من انفصال واتصال , واتصال وانفصال على نحو متواز ومعاكس من خلال دائرية للزمن _- الماضي – الحاضر- المستقبل . هذا المستقبل الذي يتم إسقاط الماضي عليه ليكون الاتصال هو (الأعلى والأسمى) تارة هذا إذا اتصل بعالم الأمر حيث الموطن الأول الذي تنتمي النفس إليه, والذي انفصلت عنه قديماً , ليصبح عتبة للاتصال من جديد , والانفصال عن العالم الأرضي الذي نعيش فيه . وتارة ليكون الاتصال هو (الأدنى) إذا كان المقصود منه الاتصال بعالم الأشياء الأرضي , ليصبح الانفصال هو الاسمى لأنه انفصال عن عالم الامر السماوي:
لماذا خذلتني .. قالت وغطّتْ بجدائل شعرها شَجَنَه
لماذا قتلتني …قالتْ ..وبلّلت بدمعها كفنه
سيحملني هذا المساء النوفمبري
إلى حيث تركنا كوخنا الخشبي في أحراش الصنوبرات
يرقب عودتنا..
وتنتشي البحيرة الحالمة
بميلاد ملاك صغير….
ها نحن نرى ان للحب الإلهي عند بنيحيى حقيقتين : (حقيقة وجودية) : تتلخص في إدراك الأنا لانفصالها عن عالمها السماوي عن عالمها الروحي عالم الامر وهو العالم اللا زماني واللا مكاني لتتحول إلى حيِّز وجودي أخر مُتعيّن ( مرئي) في الواقع . و(حقيقة معرفية) تنمو من أيمان (الأنا ) الصوفية الشاعرة بأن وجودها الآني على الأرض وجود طارئ مؤقت بينما وجودها الحقيقي يكمن في عودة اتصالها بعالمها الأصل عالمها الأول عالم الأمر. الى حيث :”الكوخ الخشبي” الذي “يرقب عودتنا” الى حيث الفردوس المفقود لتبدأ حياة جديدة مفعمة بالبراءة والسعادة :”ميلاد ملاك صغير”:
أريد أن أستريح قليلا
من هذا المؤقت الذي يعبث بي
وأرتمي في حضن الأبد
أريد أن أغوص في عمق بحري
كي أتخلص من هذا الزبد
أريد سماء غير سمائي
وبلادا تأويني
غير هذا البلد
وأما لم تلد
ولم تولد”
ان أناه الشاعرة تتمزق بين عالمين متضاربين وزمنين مختلفين , انها أنا حائرة بين اتصال وانفصال من خلال زمنين إثنين : زمن ماضوي حافل بالجمال والسعادة عندما كانت الأرواح في موطنها الأول تنعم بقربها من الحبيب , وزمن حاضر تعيس حافل بالقلق منفصل عن المحبوب , وبما ان المحبوبة الياقوت ( المحبوبة التي تمثل الخالق) هي المصدر الذي يمدّ الأنا الشاعرة بالإلهام والعزم على المضي قدما بالتجربة تسعى هذه الأنا في حاضرها الآني : أي الحاضر المتمثل في (الانفصال) إلى استعادة هذا الزمن الماضي الجميل وبعثه حيّا من جديد في المستقبل عبر الحلم لكي تحقق ولو بالخيال معنى( الاتصال ) مرة أخرى بالسعادة وبعالم الامر لتجدد وتضمن بقاءها في المستقبل :
” اقترابك مني بذاتك اغتراب
وانفصال روحك عن ذاتك اقتراب”.
والقرب والبعد -من الاحوال الصوفية كالقبض والبسط والسكر والصحو والانس والشوق -تتجلى في حقول الإنتاج المعرفي كسِمة ذات قدرة على إخراج المعرفة من البطون إلى الظهور ومن وجودها بالإرادة الى وجودها بالفعل حيث يظلّ السالك مترددا بين القرب والبعد في اختباره لموضوع المحبة الذي يضمن له صله مع المحبوب وعلة للبقاء على تواصل به , حيث لا يتحقق هذا البقاء المنشود إلا من خلال الحاضر الذي يشكل منطلق المستقبل ودعائمه “فتوتر الحركة بين الحضور والغياب او القرب والبعد سيدفع إلى تأسيس علاقة مع المستقبل وسيكون باعثا على نشدانه باستمرار …لأن اللحظة الماضوية هي التي تغذي الحركة باتجاه المستقبل عندما يتم اسقاطها عليه واللحظتان كلتاهما تعمقان الإحساس بالحاضر الذي هو منطلق التجربة ومركز ثقلها وتوترها”:
“سئمتُ مني
وملَّ ساكني مني
فمتى يزورني مخلّصي من دائي
ويفكَّ القيد عني؟”
هنالك تضافر مستتر من خلف السطور لزمني الماضي والمستقبل الايجابيين المنشودين , في مقابل زمن حاضر سلبي مرفوض . هذا التضافر هو الذي يغذي الحركة الى الامام في التقدم بالتجربة الشعرية الصوفية حتى لا تخبو بل تتجلى كتوتر دائم بين زمن انتصار يحمله الماضي في زمن الاتصال السعيد بالموطن الأصل وبين زمن انكسار تعيشه الأنا في الحاضر المنفصل الكئيب
تُشكّل حال بنيحيى التجليّ الأمثل لدوران دائم في فلك الحيرة , كحال السالك الذي يعيش كميت في عالمه المنفصل , انها شعرية تسيطر عليها رؤية الاغتراب تعيش فيها الانا الصوفية الشاعرة غربتها الزمنية والمكانية باحثة مستقصية عن المحبوبة ( الحقيقة) بكل حنين وشوق ولوعة للقائها في رحلة باطنية الجهد روحية المذاق وهي مبحرة في متاهات السؤال حدّ الغرق :
“لا تكن طوق نجاتي
إذا تاه بي موج بحرك
وانتشِلني من غرقي
ليكون مرقدي
في قلبك”
ان هذا الإلحاح الدائم على الحنين واللوعة والاشتياق والأسى لفراق المحبوبة (الحقيقة) بمثابة تأكيد لرفض الصوفي للانفصال والنفي من عالمه المنشود الذي كان موطنه الأصل. فوجود الأنا في واقع محدود ما , واقع حسي هو قمة نفيها وذروة انفصالها , لكن عدم استسلامها لكثائف وجودها الحسي يدفعها على الدوام للسعي وراء زمن اتصالها الماضوي واستدعاءه وذلك بفضل ادراكها لوجودها الآني الطارئ الذي لن ينتهي الا عندما تحقق اتصالها بالزمن الماضوي السعيد.
” لم يبق متسع من ألم
ولا متسع لجرحك في حوصلة الناي
فاجمع ما تبقى من شظاياك قبل رحيلك
ولا تودع أحدا
فالبحر لن يكون لك
حتى يصير موج رحيلك زبدا…”
انها مجاهدة للنفس يقوم بها الصوفي لصرفها عن أهوائها , وتطهيرها من شوائب المادة حتى يدمن الألم, ليصبح الألم رفيقه في سفر دائم , في رحلة مستمرة نحو غاية تتمثل في الوصول إلى الفردوس المفقود ,لكن ما يجده من لذة في الألم, يحوّله عن غايته في الوصول ليصبح الألم والمعاناة في الرحلة هما الغاية :
“أنا الناطق حين لا أقول
وأنا السالك إلى
حيث لا وصول”
وحين يتطهر بوساطة المعاناة والمكابدة من أدران الجسد ويرتقي بتجربته نحو عالمه المنشود وموطنه الأول ,تنتشي الروح في لحظة وصلها بالحقيقة النورانية والاسرار الربانية. أسرار يحافظ السالك عليها بعدما انكشفت وزالت من أمامه الحجب فيقبض على جمر المعرفة حتى لا يفقدها:
” أنا الأعمى الذي
لا يبوح بما يرى”
كيف لا وهو يسمع الياقوت تقول:
“كن حجابا لسرِّي
ففي سرِّي انكشافي
وكُن لما أرتجي حرف نون
ليكتمل رجائي بكافي”
والشوق والاشتياق اللذان يتغنى بهما بنيحيى ما هما إلا تعبير عن الحب الإلهي , وهما اللذان يدفعان الصوفي نحو الحب للخالق المحبوب المتمثل في (الياقوت) إذ يقول إبراهيم النصر آباذي (ت 369) أن “الشوق هو ما كان لعموم الخلق بينما الاشتياق فهو حال خاص المخصوصين , والأصل في الشوق أن يكون لغائب , فإذا تمّ القرب واللقاء انتفى الشوق” . بينما يرى الغزالي ان الاشتياق هو الذي يزداد باللقاء وهو الذي يَسْتَعِر من جراء البعد الذي طرأ بعد ان تم القرب أي بعدما خبر الشاعر لذة النظر في وجه الحبيب ليكون “احتراق الحشاء وتلهب القلوب وتقطع الأكباد من البُعد بَعْدَ قرب”:
“رحيلي دنا
فمن تكون الياقوت …
ومن أكون أنا ؟
وهل أكون أنا من رحل ؟؟
حين أوهَمَتْني أنها رحلّتْ ؟
انها الأنا الصوفية الشاعرة بوصفها مركز الحدث والراوي له تحاول ان تستمر في حضورها الضمائري والمعنوي لتؤكد عنصري الاتصال والانفصال عبر نقل الصورة الروحية للحب الإلهي من تصورها الذهني وعبر تساؤل الانا عن كنهها مثلما تتبلور من خلال فكرة الاتحاد أو الفناء للمخلوق في الخالق , فقد وُجِد الانسان ليكتشف نفسه ويعرفها أملا في العودة الى نقطة البداية التي خلق منها وإليها سيعود. إن “رحيلي دنا” بمثابة تصريح لبنيحيى عن نضج تجربته الصوفية لتقوم أناه بالفعل الحقيقي كونها صاحبة التجربة من جهة , والمحرك الفعلي للحدث الشعري من حالة الضمور الى حالة الظهور , بل من حالة الالتباس والغموض الى حالة الوضوح من جهة أخرى .
ان الأنا الصوفية الشعرية جزءا جوهريا من التجربة وهي المركز والنواة التي تنبني عليها التجربة إذ لا حضور لذات الشاعر خارج الأنا الشعرية وذلك من خلال ضمير المتكلم الذي لا يفارق النصوص والذي يشهد على تبوأ الأنا بهو الصدارة فضلا عن حضور ياء المتكلم على نحو مكثف بالنصوص الامر الذي يكشف عن طبيعة الانا بالآخر سواء كان الآخر هو المريد ذاته ام الآخر (الحقيقة) لكن حضور الأنا لا ينحصر ضمن حضور الضمير او حضور ياء المتكلم فحسب بل هناك حضور أخر لها عبر (مرآة الأنا) . والمرآة بموجب تعريف محمود رجب هي ذلك المسطح الذي ” يعكس كل ما يقوم أمامه (…) وهذا الذي يقوم أمام المرآة يعرف باسم الأصل وأما الذي تعكسه فهو يعرف بالصورة أو الانعكاس”
وعين الانسان هي من أفضل المرائي كونها تقوم بوظيفة مزدوجة “تبطن الظاهر وتظهر الباطن” وبما ان الله سبحانه وتعالى هو الأصل وآدم هو الصورة التي تعكس الله في الوجود إذن من الممكن اعتبار الله هو مرآة الحق (الحقيقة)بالنسبة للإنسان حيث تتجلى فيه جميع الموجودات وهذا هو المفهوم الصوفي الذي يأخذ به أصحاب وحدة الوجود ووحدة الشهود. أي أن هنالك رؤية مزدوجة : الانسان يرى نفسه في الله ( أي انه مرآة الله في الوجود) والله يرى نفسه في الانسان( فالمحبوب يرى نفسه محبا في عين المحبوب).
“وهل يكون مرقد الياقوت مرقدي أنا؟
وأنني حين بكيت
لم أبكِ عليها
بل علي..؟”
تشي هذ السطور بفكرة ” الاتحاد” أو “الفناء” وهما دعامتا التجربة الصوفية التي تظهرها نصوص ينيحيى فالفناء هو ” الغيبة عن الأشياء” من خلاله تتشكل رؤيته للمرآة وعندما يخرج الشاعر من حالة الصحو المادي ويدخل في مرحلة المحو أو “الغياب” يطرأ تغيير على حالة الوعي فتنقلب الأشياء ومعانيها لأنها حالة تنطلق من الوعي ولكن لا تعود إليه انما هي بصدد مفارقته ,لذلك يصبح من الضروري ان تتغير آليات الوعي (ليكون الظاهر مرآة الباطن) وعلى مرآة الخارج تنعكس صورة , هي صورة تعكس للأنا حقيقة نفسها تمهيدا للوصول بها الى معرفة الأسمى والأعلى: (الخالق) أي الحقيقة , انها معرفة خاصة تتطلب آليات مختلفة , انها معرفة باطنية منغلقة على ذاتها ومنفتحة على ذوات الاخرين في آن ,حيث يكون هذا الاتصال بعالم الداخل من جهة , ووصله بالعالم الخارجي من جهة أخرى هما ما يكفلان للأنا وعيها الفارق بنفسها وسعيها وراء الفناء الحقيقي في الحق المطلق:
“كلما ابتَعدتُ عني
اقتربتُ منكَ أكثر
وكلما شربتُ من خمرتي
سكِرتَ أنتَ
وأتْلَفَنِي الصَّحْوُ عني وعنك”
فالفناء فناء النفس البشرية: التي تشكل مجمع اللذة الحسية لذا ففناءها لا يتحقق إلا بالمجاهدة أما البقاء فهو بقاء الروح في طي الغيب , والشاعر الكائن بين عالم البقاء وبين عالم الفناء يراوح بين رغبته في الفناء ليبقى , وبين رغبته في البقاء ليفنى, في حركية ديالكتيكية مستمرة :
“وقالت لي:
امنحني ألَمَكْ
واخرج من ألمي
وانتظر عودتي من عدمكْ
إلى عدمي
(يتبع)
شادية حامد: شاعرة من فلسطين