وقفنا في الحلقتين السابقتين على مجمل المباحث العامة التي تهمّم بها الفقيه محمد المرير في كتابه النعيم المقيم، وخاصة مباحث الفقه المالكي والاعتقاد الأشعري، بعدما عرّفنا ببعض كتاباته في هذين المبحثين سواء أكانت رسائل مستقلة، أو فصولا خاصة من نعيمه.. وسنختتمها بهذه الحلقة للحديث عن طريقه الصوفي السني.
فالفقيه المرير كان كغيره من علماء البلاد يسير على طريق التصوف السني المغربي الذي امتاز به جلة علماء المغرب وفقهاؤه، جامعين في ذلك بين الفقه المالكي والاعتقاد الأشعري والسلوك الجنيدي، بعيدا عن الطرقية وبدع العادات، على الرغم من نشأته بين أحضان الطريقة الدرقاوية؛ حيث كان مقدما بالزواية العجيبية، وتربى في الزاوية الحراقية بتطوان على وجه الخصوص، وكتابه عن القطب الكبير مولاي عبد السلام ابن مشيش يعطي صورة واضحة للروح الصوفية التي كان يتحلى بها، فقد كان من العلماء الذين ينكرون البدع والخرافات والأضاليل، جاء على لسانه في هذه المسألة: (ولهذا جعلت وجهتي إلى التلقي من الكتاب والسنة وتوكّف الاقتداء والهداية من كتب أهل الولاية الذين لهم البشرى في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى، وجعلت من هجيراي من كتب أهل التصوف: الرسالة القشيرية وعوارف المعارف للسهروردي وإحياء الغزالي والفتوحات لمحيي الدين..)/النعيم المقيم.
وقد ألف المرير في باب التصوف كتابه الشهير عن القطب الكبير مولاي عبد السلام ابن مشيش المسمى: “العقود الأبريزية على طرر الصلاة المشيشية” مصدَّر بترجمة واسعة للشيخ عبد السلام بن مشيش في جزء واحد تخريج أحمد بن محمد المرير ومراجعة جعفر ابن الحاج السلمي (منشورات جمعية تطوان أسمير)، وله قصيدة في مدح ابن عربي الحاتمي وفتوحاته جادت بها قريحته أثناء قراءته لفتوحات ابن عربي.
هذا بالإضافة إلى ما امتاز به الجزء الأول من النعيم المقيم الذي تناول فيه مواضيع متعددة من عالم التصوف، فقد خصص هذا الجزء للوقوف على سير أهم شيوخ الطرق الصوفية بالحاضرة التطوانية ونواحيها، أمثال: الشيخ سيدي أحمد بنعجيبة شيخ الطريقة الدرقاوية بها وابنه سيدي عبد القادر بنعجيبة، والشيخ محمد الحراق شيخ الزاوية الحراقية، والشيخ علي بن ريسون شيخ الزاوية الريسونية، وما تفرع عن ذلك من قضايا كبرى تتعلق بالولاية والتربية على يد الشيخ والحديث عن الكرامة بين الأنبياء والأولياء، هذا بالإضافة إلى التركيز على الصراع الواضح الذي كانت تطوان مسرحا له بين فقهاء الوقت وشيوخ هذه الزوايا، وما تفرع عنه من قضايا ونوازل.
يقول الفقيه المرير: (فالأصل في هذه الطريق هو روح الشريعة من إخلاص العبادة لله والتوجه إليه في كل حال وإسناد الأمر كله إليه مع الاعتصام بالكتاب والسنة وعدم اتباع المحدثات. وهذه هي سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة التابعين وتابعي التابعين) /النعيم المقيم.
وذكر كذلك ما امتاز به التصوف وطريقة المتصوفين فقال: (ولكن بعد أن امتازت هذه الطائفة واختصت بطريقها الذي مبناه على الزهد الكلي في هذا العرض الفاني وإيثار الاستعداد للأخرى، وإدمان العبادة وصرف العناية لإصلاح الباطن افترق الناس إلى فرقتين: أهل الظاهر ويعنون بذلك الفقهاء الحارسين لحدود الشريعة وأحكامها الصارفين أوقاتهم في أصولها وفروعها. وأهل الباطن وهم الذين وجهوا وجهتهم إلى عبادة مولاهم وصرفهم العناية إلى ما يصلح باطنهم أي مع القيام بالواجبات الشرعية الظاهرة..)/النعيم المقيم
لكن الفقيه المرير لم يسلم العنان لأهل التصوف في كل ما قالوا به، وإنما كان حريصا على عرض آرائهم وأقوالهم، بله سلوكهم، على الكتاب والسنة. فما وافقها فنعما به، وما خالفها يضرب به عرض الحائط. يقول المرير في مسألة اختلاط كلام المتصوفة على عموم الناس وإنكار الفقهاء ذلك عليهم تحت عنوان: (إنكار أكابر علماء التصوف إطلاق الكلام الموهم المنافي للعقائد المعبر عنه بالشطح): (ثم إن هذا النوع من الكلام الموهم الموقع الجاهل في اعتقاده ما لا يليق بالباري جل جلاله وينافي العقائد المقررة في علم التوحيد، وإن وقع من أهل التحقيق في الحقائق من أهل التصوف، فإن أكابر علمائهم لا يرضونه، بل أنكروه ورأوه عظيم الضرر يأتي على الديانة بالخطر، وهذا النوع يعبرون عنه بالشطح..) /النعيم المقيم. ويضيف: (وجماع القول في هذا المقام كما أشرنا إليه مرارا؛ أن من ثبت جده واجتهاده وصح في الله قصده واعتقاده ولم يخرق للشريعة سياجا ولم يتخذ للتسلل منها منهاجا وصدرت منه الشطحات المعبر عنها بالرموز والإشارات، فإنها تحمل محملا جميلا ولا يبادر بالطعن في كلامه تكفيرا وتضليلا..).
ونفس الأمر نجده في مسألة الكلام الموهم، يقول الفقيه المرير: (والحق في هذا المبحث (تأويل كلام من ثبت صلاحه وتواتر حسن مقصده من أهل التصوف) هو أن من ثبت صلاحه من أهل التصوف وتواتر حسن مقصده وصفاء عقيدته ووقع في كلامه ما وقع في تائية ابن الفارض وتائية الشيخ الحراق من العبارات التي بظاهرها تفيد الاتحاد والحلول فإنها تقبل منهم وتصرف عن ظاهرها بتأويل مناسب لمقاصدهم وإلا فيرمى بها عرض الحائط..)/النعيم المقيم.
كما ساير كلام الفقهاء في مسألة إنكار العلماء لبس المرقعة للفقراء- موردا رأي ابن الجوزي في ذلك- فيقول: (واعلم أن إنكار لبس المرقعات وثياب الصوف وما يشبههما من الخرق والرقاع ليس على إطلاقه، بل لابد في ذلك من النظر إلى قصد اللابس الذي يعرف بقرائن الأحوال، فإن كانت حال اللابس حسنة وأعماله مستقيمة وسلوكه مؤسسا على الشريعة، فلا ينكر عليه ذلك لأن النبي عليه السلام لم يكن يتقيد بلباس؛ إذ لبس الحسن الرفيع ولبس الخشن الوضيع… فإن كان الوجه في الإنكار هو مخالفة العادة، فإنا نقول: إنه بعد ثبوت أصل ذلك في الشريعة فإن مخالفة العادة لا توجب الإنكار، وإلزام مخالفها بالرجوع إليها، ولاسيما مع ثبوت دين أهلها وصلاحهم وفضلهم وورعهم… فإن كان لبس الخشن والمرقعات لا بهذه النية بل بقصد الشهرة واصطياد النفوس واختلاس الفلوس فهذا في لبسه العليل أشد كبرا وإعجابا من لابس التاج والإكليل..) /النعيم المقيم.
ونفس الأمر نجده في القول في التفسير الإشاري، يقول الأستاذ المرير: (أما التفسير بالإشارة الذي اعتنى به جماعة من علماء التصوف فربما أغرق بعضهم في ذلك، وربما تغالوا حتى صرحوا أنه هو المقصود بالآيات القرآنية، وجعلوا ذلك هو الحق وهو التفسير الذي ينور القلوب، ونظروا على تفسير أهل الظاهر الذين سلكوا فيه مسلك السلف من اتباع النقل والجري على ما تقتضيه لغة العرب التي نزل بها القرآن. وهذه الطائفة إن صرحت بأن ذلك هو مدلول آيات القرآن وهو المقصود منها، فإن هذا خرج عن الصراط المستقيم وقد حكم عليه أئمتنا بالإلحاد والخروج بالقرآن عن المراد.. أما التفسير بالإشارة المقبولة فهي التي تنكشف لأهل التحقيق من أهل التصوف بعد إقرار النصوص على ظواهرها وإجرائها على ما ثبت في تفسيرها من الآثار أو مما دلت عليه من حيث العربية، وتلك الإشارة لا تنافي ما تفيده تلك الظواهر، بل تكون تابعة لمعاني الآيات لا الآيات تابعة لها وتكون من قبيل الفهم الذي يؤتيه الله الراسخين من أهل العلوم والمعارف. ولهذه الإشارات الصحيحة شواهد وردت عن الصحابة وغيرهم..). وقد أشار المرير في هذا الصدد إلى ما كان يقدمه لطلبة العلم من دروس في التفسير التي أشار فيها إلى المعنى الإشاري المقبول من تفاسير الصوفية، وذكر ذلك في نعيمه فقال: (على أني قد أفضت المقال ووسعت المجال في هذا المقام في مقدمة التفسير التي صدرت بها الدروس التي ألقيتها في المعهد العالي بتطوان في دراسة كتاب الأحكام لابن العربي، ولخصت القول في ذلك تلخيصا وخلصت ما في ذلك من القول الحق تخليصا فليراجع هناك).
هذه بعض المسائل التي نظر فيها الفقيه المرير في باب التصوف وفق ما يسمح به المقام هنا، وإلا فكتابات الرجل زاخرة في هذا الباب تنبينا عن حسن تدبره لها بعقلية رجل الدين المتشبع بروح التسامح والفقيه المتمرس القادر على تصريف الأمور وفق ما تقره الشريعة من أحكام. وقد عرض المرير لجملة من المباحث الأخرى في هذا الباب، وخاصة ما اشتمل عليه الجزء الأول والثالث من “النعيم المقيم” من الوقوف على سيرة أهم شيوخ الطرق الصوفية بتطوان والنواحي، أمثال: الشيخ سيدي أحمد بنعجيبة شيخ الطريقة الدرقاوية بها وابنه سيدي عبد القادر بنعجيبة، والشيخ محمد الحراق وأشعاره ومواجيده، والشيخ علي بن ريسون وما نشأ من خلاف له في ذلك، وما تفرع عن كل ذلك من قضايا كبرى تتعلق بالولاية والتربية على يد الشيخ، والكرامة وغيرها، والذكر بالاسم المفرد، واتختذ الشيخ للتربية.. هذا بالإضافة إلى التركيز على الصراع الواضح الذي كانت تطوان مسرحا له بين فقهاء الوقت وشيوخ هذه الزوايا، وما تفرع عنه من قضايا ونوازل.
وبهذه الوريقات ننهي تطوافنا في ترجمة الفقيه المرير وبسط آرائه في التدين المغربي الجامع بين الاعتقاد الأشعري والفقه المالكي والتصوف الجنيدي بشكل مقتضب ومبسط، وإن كان الأمر يتطلب مزيد تفصيل وبيان قد تغنيه دراسات وبحوث جامعية في قابل الأيام. رحم الله هذا الرجل المعطاء وجعل ذكراه في عليين بما أفاد به البلاد والعباد، بما شهد له بها جل من عاشره أو أرخ له مما وجدناه في حفل تأبينه من شهادات واعترافات بفضله وعلمه.
منتصر الخطيب