تمهيد
تعددت الأقلام المغربية المبدعة المحررة للعقول البانية للنفوس، وتدفقت عطاء سخيا وإبداعا راقيا. رفدت الحياة العلمية، وحركت دواليب الفعل الثقافي تحصيلا وتدريسا وتأليفا، وخلفت للأجيال الجديدة ذخيرة عظيمة من المصنفات، وكنوزا ثمينة من الآثار الشاهدة والأعمال الخالدة، لكنها- مع كل الأسف والحسرة – عاشت في الظل مغمورة معزولة عن الأضواء، بعيدة عن المراكز والواجهة والمواقع الأمامية، لم تحفل بمنصب، ولم تسْع إلى مال أو جاه أو شهرة، ظلت طوال حياتها تعمل بصبر وفي صمت، تبني العقول بأدوات العلم وآلياته، وتهذب الأنفس والأذواق بمناهج التصوف وطقوسه، وتربي الصغار والكبار في مجالس الذكر وحلقاته. وبعدما أدت رسالتها في هذه الحياة، انسحبت عزيزة بهدوء، وودعت دنيا الناس بلا صخب ولا ضوضاء، تاركة ذكرا طيبا يضمن لها امتداد العمر بعد انقضاء الأجل، ويعطيها حياة جديدة في قلوب الأحبة والطلبة والصحب والأهل.
ذاك شأن العديد من رجال العلم والتصوف في وطننا، لم تنصفهم الأيام، ولم تحتف بهم الأقلام، وظلت جهودهم نسيا منسيا. ومن أبرز هذه الأسماء العلمية العريقة أبناء الأسرة الصديقية المغربية، وهم من العلماء الذين وشموا أسماءهم في سجل التاريخ الثقافي المعاصر، بما ساهموا به في ميادين البحث والتصنيف والتربية والوعظ، فصاروا بحق تراثا غنيا لهذه الأمة، وملكا مشرفا لها، ومكتسبا حضاريا لهذا الوطن.
لقد ساهمت هذه الأسرة العلمية بفضل جهود أبنائها في خلق حركة علمية حقيقية في شمال المغرب، ارتكزت على الاهتمام بالعلم الشرعي تحقيقا وتصنيفا وتدريسا. فنبغ العديد من أبناء هذه الأسرة بشكل خاص في علم الحديث، وكان لهم فيه التميز والريادة في المغرب. ونالوا بهذه الجهود الحديثية شهرة في بلاد المشرق، وأصبحوا مرجعا من المراجع الحديثة في هذا العلم.
أسست الأسرة الصديقية تيارا علميا أصيلا يجمع بين العلم والتصوف، وأنشأت مدرسة حديثية جديدة تضاهي المدارس المشرقية. وقد تميزت جهود العلماء الصديقيين بالجرأة في التحقيق والدقة في التوثيق، واكتسبوا منهجا خاصا في دراسة الحديث النبوي مكّنهم من الرد على كبار المحدّثين من القدماء والمعاصرين. فكان لهم مناظرات وردود وخصومات ذات طابع معرفي ومذهبي مع بعض العلماء على صفحات الجرائد والمجلات وفي مجالس العلم والإقراء.
والجدير بالذكر أن تميز هذه الأسرة العلمية في مجال علم الحديث حرّك شهية طلبة العلم من الداخل والخارج للتواصل مع هذه المدرسة، وللاستفادة من أعلامها. وهكذا تتلمذ عليهم نخبة من فقهاء المغرب ومن الأساتذة الجامعيين والخطباء والوعاظ والطلبة وسائر المهتمين بالعلوم الشرعية. وقد جعلوا من الزاوية الصديقية معهدا حقيقيا، تدرّس فيه مختلف المواد في الحلقات ومجالس الإقراء على النمط القديم. وقد عاش أغلبهم حياة زهد وتعفف وانقطاع عن ملذات الحياة، عاشوا بعيدين عن الأضواء، وتفرغوا للعلم والبحث والرحلة والتدريس والتأليف والتربية. ومن أبرز العلماء المحققين في هذه الأسرة:
- الشيخ محمد بن الصديق1
هو أحد كبار الحفاظ الذين عرفهم المغرب في العصور الأخيرة، وأحد رجال العلم والتصوف. عاش طفولته ببلاد غمارة بشمال المغرب، وخلال سنين صباه حفظ القرآن بروايتي ورش وحفص، فأغرم بعلم القراءات وأراد التبحر فيه، ولذلك أرسله والده نحو مدينة فاس ليزداد علما وتحصيلا. فحضر مجالس العلماء ودروس الشيوخ، وأخذ عنهم العديد من الفنون والمعارف. وهناك في فاس تعرف على التصوف، فانخرط في سلك الطريقة الدرقاوية الشاذلية. وأصبح من الملتزمين بها ومن الدعاة لها. وبعدما تحصّل نصيبا من العلم عاد إلى بلدته، ثم استقر بطنجة حيث أسس زاويته الصديقية. فباشر عملية نشر العلم في المسجد الأعظم، إذ كان يدرس القرآن والتفسير والحديث والفقه المالكي والسيرة واللغة. ومما ذكره عنه ولده الشيخ عبد الله بن الصديق، أنه كان يستغل دروسه ليحرض المغاربة على مقاومة المستعمر. بل كان يهاجمه في دروسه بشكل صريح. وإلى جانب اهتمامه بتدريس العلوم والخطابة، كان الشيخ ابن الصديق يتولى بنفسه تربية المريدين وفق الطريقة الدرقاوية. وكان أبناؤه لا يفارقون مجالسه، بحيث كان يتعهدهم منذ صغرهم ويلقنهم العلوم والتربية الصوفية ويحثهم على الطلب والتحصيل والبحث والمشاركة في التأليف والتصنيف. وعن جهوده العلمية يقول ولده الشيخ عبد العزيز:” كان والدي رضي الله عنه يتعهدني بالنصائح والإرشادات التي تضيء أمامي الطريق، وتكشف عن سبيل السير فيما ينفعني في ديني ويقرب لي طريق التعلم…. لم يكن يمر عليّ يوم دون أن أذاكره وأسأله في شتى العلوم والفنون المختلفة، فكان يعطيني رحمه الله ورضي عنه في كل موضوع أسأله عنه، قواعد عامة تكفيني وتغنيني عن كثير من البحث والمطالعة، فنفعني ذلك جدا. فكان رحمه الله يسر بذلك ويحثني على الاستزادة من البحث والمعرفة”2
ويحكي عنه ولده الشيخ عبد الله أنه كان مفتي زمانه على المذاهب الفقهية الأربعة. وكان أعلم أهل وقته وأحد المجتهدين ذوي الكفاءة في استنباط الأحكام الفقهية. ولهذه المكانة العلمية الرفيعة قصده الطلبة من المغرب ومن خارجه، إذ تتلمذ عليه علماء من المغرب والجزائر. وكان أحد العلماء المشاركين في المؤتمر العلمي الذي نظمته الأزهر حول الخلافة. وكان لحضوره دور في انفتاحه على الحياة العلمية بالبلاد المصرية، وفي ربط الاتصال مع علماء الأزهر وعلماء البلاد الإسلامية. عاش حياته بين العلم والتصوف، ينشر السنة ويحارب البدع ويربي الأجيال على سلامة القلب وطاعة الله ومحبة الخير إلى أن لقي ربه سنة1354هـ.
- الشيخ أحمد بن الصديق3، المكنى بأبي الفيض:
هو أكبر إخوته ومؤسس التيار الحديثي في الزاوية. ويمثل الأب الثاني للعلماء الصديقيين بعد والدهم الفقيه الجليل الشيخ محمد بن الصديق. فبعد تتلمذهم على والدهم، وأخذهم عنه أصول التربية الدينية الصوفية، وحفظهم القرآن بروايتي ورش وحفص، وتلقيهم دروس النحو وعلوم اللغة والحديث والمنطق، جلسوا إلى أخيهم الأكبر، ونهلوا من معارفه وعلومه. بحيث أصبح الشيخ أحمد بن الصديق خليفة والده ونائبه والراعي الأول لشؤون الأسرة والزاوية. ولد سنة1320هـ، وتعهده والده بالتربية والتعليم إلى أن أصبح نموذجا للمثقف المغربي بمفهومه التقليدي. فبعدما حفظ القرآن على والده، انقطع لدراسة العلوم. فجالس العلماء وأخذ عنهم. ولما نال من العلم نصيبا، بدأ يفكر في الرحلة على عادة الطلبة المغاربة. لكنه فضل التوجه نحو المشرق. فقصد بلاد مصر والشام والحجاز. وهناك تعمقت مداركه، وتنوعت معارفه، واتسعت نظرته إلى العلم وفنونه. تعلق بعلوم الحديث ومناهجه، الشيء الذي دفعه إلى التخصص في هذا العلم والمشاركة فيه والتصنيف في مناهجه ورجاله وآلياته. بحيث تجاوزت مصنفاته مائة وعشرين كتابا، من أشهرها:
– (المداوي لعلل المناوي) ويقع في ستة مجلدات ضخمة.
– (هداية الرشد في تخريج أحاديث ابن رشد) يقع في مجلدين. و(المستخرج على الشمائل).
– وترجم لنفسه في كتاب (البحر العميق في مرويات ابن الصديق).
– وترجم لوالده في كتاب (سبحة العقيق في مناقب ابن الصديق).
وله مجموعة من الفهارس وغيرها من المصنفات. فصار بذلك أحد كبار المجتهدين وخاتمة الحفاظ في العصر الحديث. ونظرا لتألقه وذيوع صيته، لحق به إخوته بعدما قرر الإقامة بمصر، وتتلمذوا عليه مع من لازمه من علماء مصر وغيرها من البلاد المشرقية. وظل هناك يمارس التدريس والتلقين والتأليف إلى أن وافته المنية بالقاهرة سنة1380هـ.
- الشيخ عبد الله بن الصديق4، المكنى بأبي الفضل
هو أحد كبار الحفاظ المحدثين في البلاد المغربية، وأحد علماء الأزهر. تربى في أحضان الزاوية الصديقية، ينهل من معينها صنوف العلوم والمعارف. حفظ القرآن على يد والده، ولما أكمل الحفظ بروايتي ورش وحفص، كما حفظ على يده بعض المتون، والدروس الأولى في اللغة والحديث والفقه من خلال بعض الشروح. ثم تاقت نفسه إلى الرحلة العلمية في ربوع المغرب، وقد شجعه والده على ذلك، فقصد مدينة فاس كوجهة علمية أولى في مساره الدراسي. وفيها التقى بعلماء القرويين، وتلقى عليهم علوما شتى، وقرأ مصنفات متنوعة كالحديث والفقه واللغة والفرائض والتصوف والمنطق. وبعدما نال حظا وافرا من العلم عاد إلى الزاوية الصديقية بمدينة طنجة، ليتهيأ لمرحلة جديدة في مسيرته العلمية، وهي مرحلة نحو الديار المشرقية للالتحاق بأخيه الشيخ أحمد بن الصديق، وذلك سنة1349هـ، وهناك في مصر كان له طموح كبير، حيث تفرغ لدراسة الفقه الشافعي، وتتلمذ على كبار علماء الأزهر، وحضر مجالسهم وحلقات الإقراء، فنال الإجازات منهم، لما لمسوا فيه من نبوغ وتحقيق وهمة عالية ومشاركة موسوعية. وقد تمكن من حذق اثني عشر علما، الشيء الذي مكّنه من الحصول على شهادة العالمية التي تمنحها الأزهر للطلبة الغرباء سنة 1350هـ. ومنذ ذلك الحين لمع نجمه وذاع صيته، وأصبح من رموز العلماء في مصر، يقصده الطلبة ويترددون على مجالسه ويلتفون حوله لينهلوا من علومه. وفي مصر قضى معظم حياته. وعن معارفه يقول:” عرفت بفضل الله عدة علوم، منها ما تلقيته عن شيوخي بالقرويين والأزهر، وهو علم العربية والفقه المالكي والشافعي والأصول والمنطق والتفسير والحديث والمصطلح والتوحيد والمقولات وعلم الوضع وآداب البحث والمناظرة والفرائض. ومنها ما لم أتلقه على أحد، وهو: علوم البلاغة والتجويد والترقيم. ومعرفتي لهذه العلوم ليست بدرجة متساوية، بل منها ما أنا قوي فيه، كالنحو والأصول والمنطق والحديث والتفسير. ومنها ما أنا فيه متوسط كالفقه والمقولات والوضع وآداب المناظرة. ومنها ما أنا فيه دون المتوسط، وهو علم الفرائض.”5
لقد كان الشيخ مدمنا على التأليف والتصنيف، فلم يترك مسألة من مسائل العلوم إلا وصنف فيها. وقد تنوعت مضامين كتبه بين العقائد والتفسير وتخريج الأحاديث والتحقيق في المتون والأسانيد والردود على بعض العلماء، وخصوصا ردوده الكثيرة على الشيخ الألباني في بعض المسائل العلمية6، وإبداء الرأي في المسائل والقضايا الخلافية وتصنيف كتب التراجم والمناقب… ومن بين مؤلفاته:
- الأربعون حديثًا الغمارية في شكر النعم
- الأربعون حديثًا الصديقيّة في مسائل اجتماعية
- خواطر دينيّة (في ثلاث مجلدات)
- الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي
- تخريج أحاديث لمع أبي إسحاق الشيرازي في الأصول.
- عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان.
- الإحسان في تعقيب الإتقان في علوم القرءان.
- القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع.
وبعد ما كسب شهرة واسعة في بلاد المشرق وتخرج عليه نخبة من رجال العلم، عاد إلى موطنه سنة 1389هـ، لمواصلة مسيرة التدريس والتأليف في رحاب الزاوية الصديقية وفي فناء بيته، فأقام الدروس العلمية، وتحلق حوله نخبة من الأساتذة الجامعيين والطلبة والمثقفين، واستفاد منه خلق كثير. وظل على هذه الحال يعمل في صمت، زاهدا في الدنيا ومتاعها، إلى أن لبى نداء ربه بطنجة سنة 1413هـ.
د. محمد شداد الحراق