لقاءات حوارية، في حلقات متسلسلة، مع شخصيات مؤثرة في المجال العمومي المغربي والعربي والإنساني بمختلف تعبيراته، تسائلها حول تجربتها في الحياة الخاصة والعامة، وترحل بها عبر تذكرة سفر معنوية وروحية إلى الماضي وإلى المستقبل.
تذكرة السفرالثالثة مع الإعلامية ثريا الصواف، أحد أبرز الوجوه التلفزيونية المغربية ما بين مرحلة الثمانينيات والتسعينيات أغنت المشاهدة التلفزية المغربية بتجربتها المؤكدة، وطبعتها بالعديد من الإنجازات الفارقة وقتها، فقد حاورت المرأة بشجاعة نادرة كبار الشخصيات السياسية والثقافية العالمية من رؤساء الدول والحكومات، وكانت أول إعلامية مغربية استطاعت أن تلج إلى عوالم القصر الملكي المغربي في مهمة إعلامية لم تكن سهلة على الإطلاق.
- ـ يحضر الأستاذ الإعلامية ثريا الصواف في الذاكرة المرئية للمغاربة بصورة المرأة القوية المتحكمة باحترافية في أدائها المهني، والمتقنة للمهمة المنوطة بها بها سواء في محاورتها ضيوفها، أو تقديم بعض النشرات، وبالمرأة المميزة في هيأتها الشكلية من خلال أناقتها وظهورها الجالب للإنتباه على الشاشة.
- قبل أن نأخذ في حديثنا عن أهم ما طبع هذه التمفصلات في مشوار حياتك الإعلامية، أريد أن أبدأ معك من النقط الأصولية الأولى التي تفجرت منها هذه الشخصية التي التف حولها المشاهدون للتلفزة المغربية.
- ماذا تستحضر ثريا الصواف على وجه الخصوص من بداياتك الأولى، ومن طفولتك على وجه التحديد؟
أنا من مواليد طنجة، ازددت بالضبط بحي يسمى”بني مكادة”، حيث كان يوجد وقتها مركز بريدي صغير كان والدي يشتغل مسؤولا به. غير أنني عشت بمدن مغربية متعددة، لأننا ونحن صغار كنا مرتبطين بالمصير المعيشي للأسرة، بما أن والدي عرف من ناحية عمله عدة تنقلات مرتبطة بترقيته المهنية. وهكذا عشت بمدينة “أزرو” مقر عمل والدي الثاني، وقضيت بها جزء صغيرا من حياتي كطفلة صغيرة جدا، بعدها أيضا انتقل والدي للعمل من جديد بمدينة “وزان” فانتقلنا معه طبيعيا، وأخيرا استقر بنا الأمر لأربع سنوات بمراكش وكان عمري وقتها تسع سنوات، ودائما في إطار تحركات والدي المهنية.
ويدور الزمن دورته الطبيعية ونعود إلى الاستقرار من جديد بمدينتي الأصلية طنجة.
بداية تلقيت جزء صغيرا من دراستي الابتدائية بمدرسة “renoire” بمراكش، ولدى عودتنا إلى طنجة استأنفت تعليمي الابتدائي بمدرسة “berger”، وتدرجت إلى أن انتقلت للدراسة الثانوية بثانوية “rengneau”، أنا وجميع إخوتي.أقمنا بالسكن الوظيفي التابع لمكتب البريد المركزي الموجود بـ “boulvard” بطنجة.طفولتي بطنجة غنية جدا من خلال حجم الذكريات المتعلقة بالطفلة والمراهقة وبريعان الشباب.
ذاكرة الصداقة مزدحمة بأسماء كثيرة من رفقاء الطفولة كان أغلبهم أبناء أصدقاء والدي، غير أنني ارتبطت بصديقة حميمة طالت العلاقة بيننا إلى درجة أننا كنا نتقاسم تفاصيل حميمة جدا، ثم فرقت بيننا ملابسات الحياة حيث انتقلت للعيش بالولايات المتحدة الأمريكية، وكنت أُمَنِّي نفسي كثيرا بالالتقاء بها مجددا بعدما كبرنا، غير أن الموت للأسف اختطفها ولم يتحقق اللقاء ، وكم حزنت للأمر.
والأجمل في طنجة هو أن شبكة صداقاتنا الطفولية المدرسية كانت من مختلف الأجناس البشرية، من إسبانيا والهند وإيطاليا وفرنسا. ومن هنا تلقيت ثقافة الانفتاح والبعد الإنساني والكوني.
بصمة طنجة استثنائية في حياتي. فما أزال أتذكر تلك الأجواء الحياتية الرائعة حيث كنا نخرج بكامل أناقتنا للتجول المسائي ببولفار طنجة الرئيسي الراقي جدا، وحيث أيضا كنا نقضي أجمل أوقات مرحنا بـ “البلايا” “playa” للسباحة وممارسة مختلف الرياضات بشاطئها. لكني ما أزال منبهرة بتلك الروح المتمدنة لأهالي طنجة، ما تزال منطبعة في ذهني وذاكرتي تلك الصورة لمختلف شرائح المجتمع وهي تتجه من بداية “البولفار” إلى الشاطئ متردين لباس البحر دون أن يثير ذلك أي تحفظ أو استنكار لدى أحد.
كانت لدي عمة تسكن بباب المرصى، وكانت امرأة رائعة جدا بحنوها وعطفها، ومن بيتها كنت أحظى برؤية رهيبة لمنظر طنجة من جهة البحر.
وضروري أن أعترف أن طنجة قد استعادت الكثير من رونقها في الآونة الأخيرة من خلال التهيئة الحضرية الحديثة التي شهدتها.
عموما عشت طفولتي ومراهقتي وعز شبابي في مدينة كوسموبوليتية، فلقد أقامت بها مختلف الأجناس بتعايش منقطع النظير، وأقام بها العديد من الكتاب والفنانين العالميين مثل بول بولز وبربرا ويتون وتينيسي وليامز وغيرهم.مدينة طنجة الآن تشسعت في الأعداد وفي العادات، وفي المساحات.ولست ادري إن كان ذلك على حساب رونقها وخصوصياتها وسحرها.
ما أزال أذكر جيدا بعض الطرائف والتي لم تكن تخلو من حلاوة العيش وعفويتها وبساطتها وتلقائيتها الآسرة، فقد كان يحدث أن ينقطع التدفق المائي عن المدينة لساعات طويلة وربما لأيام بسبب بنية التجهيز التحتية الضعيفة وقتها، وكنا وقتها نضطر لملء كل الأواني المنزلية الممكنة (الطناجر والبانيوات )، ونوزع بالتقسيط ما ندخره من ماء على أيام ممتدة. أتخيل أننا الىن سنكون عاجزين على الاستمرار في الحياة لو انقطع عنا الماء ولو لساعات قليلة.
من ذكرات طفولتي أبضا بطنجة أنني كنت، لحسن حظي ربما، أحظى بحياة صغيرة ضاجة بالأنشطة الموازية، خصوصا في ثانوية “regneau، فقد كنت نشيطة رياضيا، فقد كنت أشارك باستمرار في الدوريات الرياضية خصوصا رياضة كرة السلة، وفي رياضة القفز العلوي والأفقي.
من جانب آخر حضر المسرح أيضا في حياة الشابة التي كنتها وقتها، فقد كنت أتلقى حصصا تدريسية جيدة في المسرح بالمدرسة الخاصة. دون أن أنسى طبعا تعلقي الجنوني بعالم المكتبات التي كنت أرتادها بانتظام للإطلاع على ما جد في العالم السحري للكتب.
كنت مشدودة عموما لمعرفة حياة الآخرين، سواء في العالم الواقعي، أو العالم التخييلي للكتب..كنت أرغب، بتعلق كبير، في معرفة مثلا كيف يعيش الهنود، وما هي خصوصياتهم وعاداتهم في الأكل في الباس في المسكن، وفي طقوسهم الدينية أيضا، وفي الحياة بشكل عام.
- ـ دعني أستوضحك، بشكل عابر، في “عنصر تكويني” لربما له صلة بشخصيتك القوية، ويتعلق الأمر بالزخم الثقافي والمعرفي الذي ميزك في حضورك بالتلفزيون
- ماهي المصادر والمرجعيات الأولى التي استمدت منها ثريا الصواف هذه الغزارة المعرفية ؟
نحن أسرة مكثرة، فقد كنا نتشكل عدديا من تسعة إخوة وأخوات، وكانت تفصل بين كل واحد منا سنتان من ناحية العمر. كان بيتنا يضج بالحياة، وكم كنا سعداء بذلك لأنه كان يمنحنا بهجة ودفئا أسريين استثنائيا. وكم أتخيل الآن كم كانت جميلة تلك البهرجة.
لكن بالنسبة لي كنت ميالة إلى العزلة، وغالبا ما كنت أجد في غرفتي ملجأ روحيا يمنحني متعة الانفراد الذاتي. وكنت أجد في كتب الأدب المهرب الروحي إلى عالم بشساعة خيالية لا يمكن تخيلها. وهكذا أقبلت على قراءة الكتب بنهم غريب.
طبعا أولى كتبي كانت القصص المصورة المقترنة بالشخصيات الخيالية العجائبية التي كانت تشدني إليها بشد. وبدافع الفضول الشديد أيضا أقبلت على كل ما كان يقع بين يدي من كتب الأطفال، المكتبة الوردية، وعلى وجه الخصوص مغامرات المحققين المثيرة لنادي 5 من المكتبة الخضراء. هكذا، كما يتبين، كان قد تولد لدي شغف القراءة منذ الأعوام الأولى من حياتي.
وبعد مرور سنوات الطفولة المدهشة والجالبة لمخيالي الصغير، اكتشفت عالما آخر في مجال القراءة أكثر افتتانا وإثارة يتعلق بالكتاب الكبار، وبالعناوين التي لم يكن بوسعي تفاديها في مجال الأدب الفرنسي. روايات، مجموعات شعرية، أعمال تاريخية، بل وأجناس أدبية أخرى اكتشفت فيها متعة لا تضاهى، منحتني قدرة خيالية على التحليق بسعادة في سموات جديدة لم أعهدها من قبل.
كنت حقا أهرب، بكل ما تعنيه الكلمة، إلى هذه السعادة الحالمة، من خلال الانفتاح على عالم آخر تهيئه كتب الأدب. تعمقت معرفتي من الآخرين ومن حياتهم، وتعمقت أكثر من الحالة الإنسانية، ومن تاريخ البشرية.
رواية “ذهب مع الريح” للروائية الإنجليزية العظيمة “مارغريت ميتشيل” كانت الطريق الممهدة الأولى لي من خلال 1250 صفحة طالعتها وأعدت مطالعتها مرارا.
أخذتني هذه الرواية إلى عالم سحري تتسامى فيه الحياة، قبل حرب الانفصال الرهيبة التي تذكر بالواقع القاسي للحياة على الأرض.
أما فيما يتعالم بالمدرسة فلا أذكر أنني كنت أتألق بكل الجدارة المفترضة أوالمطلوبة. فإذا كنت، في الحقيقة، تميزت بإتقاني جيد للغة الفرنسية فالفضل في ذلك يعود إلى المطالعة الشديدة التي كنت شغوفة بها، وإلى الشره الذي تعاطيت به مع المؤلفات المكتوبة باللغة الفرنسية. والحال عليه فإنني فقط كنت أصارع وأجاهد نفسي فيما يتعلق بالمواد الدراسية الأخرى.
نتائجي الدراسية كانت غير متوازنة، إذا صحت الكلمة، أو غير منتظمة. فقد كان يحصل أن أبدو جيدة في سنة دراسية، وأبدو هزيلة ضعيفة في السنة الموالية.
غير أني دائمًا ما كنت حريصة بكل الهوس على القراءة، حتى أصبحت الكتب هوايتي المفضلة، ومتعتي الأبدية، وأنشطتي التي أغتني بها.
منذ ذلك الحين، هيأ لي الأدب تكوينا عقليا مؤسسا، وعمل على تطوير حساسيتي نحو الأفضل، وسمح لي بفهم أعمق للوضعية الإنسانية.
ما أروع أن تتاح لك فرصة وقدرة القراءة.
- س1 ـ الآن دعني أنتقل بك إلى الحديث عن التماس الأول الذي تم بينك وبين عالم الإعلام.
- كيف ومن أين أتت ثورية الصواف إلى الصحافة؟ ودعنا نتحدث عن تجربتك براديو”ميدي1″ وقتها؟
هكذا، بعد هذه المراحل التكوينية الابتدائية في مساري، استسلمت خطواتي في الحياة، على ما يبدو، للقدر يقودها بأسلوبه وتقديراته الخاصين، والتي لم يكن أمامي إلا الإذعان لسريانها المرسوم. أحيانا يكون حكم القدر أقوى وأنفد.
هناك منعرجات في حياتنا نخوضها دون أن نكون قد منحنا لأنفسنا ما يلزم من الوقت والتفكير للتدقيق في جدواها ومآلاتها.
في سن مبكرة جدا خضت تجربة الزواج، وعلى ما أعتقد في سن السابعة عشر. وكخطوة أولى كان علي وقتها أن أنتقل رفقة زوجي للإقامة بمدينة القنيطرة، أول مدينة سأسكنها بإحساس المرأة الملتزمة أُسريا، وليس بإحساس الشابة الحيوية المنفتحة، ولربما المنطلقة. دام ذلك أربع سنوات ذقت خلالها معنى الاستقرار إلى جانب زوجي وأسرتي.
كان قد سبق لي من قبل أن قمت بسفريات غنية متعددة ومتنوعة مع والدي وإخوتي لمدن مغربية كثيرة، ولذلك لم تشكل القنيطرة أي دهشة استثنائية بالنسبة لي، ماعدا طبعا، أنني كنت معنية باكتشافها كفضاء جغرافي، وبمعرفة طبائع أهلها وأمزجتهم وخصوصياتهم في العيش، ومعنية أيضا باكتساب صداقاتهم و”جيرتهم”. عموما، في القنيطرة كنت معنية بكل ما سيمنحني الانسجام اللازم مع مدينة توجد في الجنوب أتت إليها شابة يافعة من الشمال.
مواليا، سيرسم لي القدر خطوة ثانية، ودائما كزوجة، وسأنتقل للعيش بمدينة الدار البيضاء. ومع تعاقب الاستقرار بهذه المدينة، ولكي أمنح حياتي بعض الدينامية والحيوية، وللتغلب على روتين أجواء البيت وضجره، فكرت في الخروج لولوج عالم الشغل. وهكذا سأشتعل، كتجربة أولى، في مؤسسة بنكية استأنست خلالها بعالم الأرقام والعمولات، واستمتعت بمقابلة الناس وجها لوجه. كانت حقا تجربة مثمرة من جانب التواصل المباشر والاحتكاك الواقعي اليومي.
لا أذكر جيدا المدة التي قضيتها بالمؤسسة البنكية، غير أنني، ولظروف مزاجية عادية جدا، غيرت طبيعة العمل، واشتغلت بوكالة للتأمين قضيت بها سنوات
قبل أن يعدني القدر بما هو أجمل، وبما سيناسب موهبتي، قبل أن يعدني بما سيجعلني أشعر أني في حقا جلدي.
وللتذكير فقط، أني كنت بداية قد اشتغلت بطنجة مدة سنتين بمنظمة إفريقية تسمى.”le cafret”.
وليس معنى ذلك سوى إمكانية القول بأنني كنت قد راكمت خبرة عمومية جيدة على مستوى الاحتكاك بالناس والتواصل معهم.
إذ على الرغم من أن المؤسسات هذه التي اشتغلت بها لم تكن توائم ما كنت منذورة له، إلا أنها شكلت، في مشواري، مصادر حقيقية للتزود بالتجارب الانسانية،
مصادر حقيقية للتزود بمعرفة ميدانية حول كيفية التعامل مع مختلف الشرائح والأصناف البشرية.
- على ما ييفهم من حديثك لحد الآن أنه لم تكن الصحافة والإعلام واردين في تطلعاتك.
حصل الأمر بإرادة تلقائية جدا يصعب علي إدراك كيف تم تدبيرها، حصل مع بداية 1981.
الأمر كان أشبه بضربة قدر إلهية عظيمة استقصدتني. فخلال عطلة كنت أقضيها بمدينتي الأصلية طنجة، دعتني صديقة حميمة لي كي أرافقها لزيارة ابنة عمها كانت تشتغل بمحطة راديو “ميدي1″، وطبعا كنت سعيدة بالدعوة، وكنت سعيدة أكثر بزيارة هذه الإذاعة العظيمة الرائدة. لكني لم أكن أتوقع، على الإطلاق، أن حياتي ستتغير جذريا في لحظة بمجرد ما ستطأ قدمي مقر هذه البناية.
كنا عند بهو الإذاعة نتجاذب أطراف الحديث، أنا وصديقتي وابنة عمها، وحصل أن مر صدفة جنبنا مدير أخبار القناة، وبفجائية كاملة توقف عندنا وانخرط معنا بلطافة يشاركنا ما كنا نتحادث في شأنه.
فهمت بعدها أن الرجل إنما توقف بسبب خامة صوتي التي كانت قد أثارت شغفه واهتمامه.
طرح علي بداية بعض الأسئلة العابرة، والتي لم تكن ذات صلة وطيدة بالإذاعة أو بمهنة الإعلام. إلا أن الرجل، وهو يغادرنا، اقترح علي أن أزوره في أقرب وقت ممكن، مع تلميح نبيل منه على أن الأمر يهمني جدا، تلميح مرفق بإشارة نصر يدوية.
غادرت المبنى بطعم مغاير اختلطت فيه أحاسيس الفرح بالاضطراب. طبعا مع ما اقتضاه الأمر من سيل في الأسئلة المقلقة التي راودتني حول طبيعة أهمية الأمر هذا الذي يريدني الرجل أن أزوره من أجله. ولا أخفي أن تأويلاتي ذهبت بعيدة جدا. ولا أخفي أيضا أني اكتشفت أن طبيعتي من النوع الذي يقهره الانتظار.
عموما غادرت بالخفة التي كانت ترفعني إلى مستوى الفرشات المحلقة بانتشاء، وإلى الدرجة التي لم ألتقت معها إلى الكيفية الخارقة التي قطعت بها المسافة الفاصلة بين بناية الإذاعة والبيت.
في أول لقاء بيننا، وبعدما تحدثنا طويلا عن الإعلام وأهميته في المجتمعات المعاصرة، وعن بعض التجارب الإعلامية الرائدة في العالم، وعن الدور المفصلي الذي تضطلع به خصوصية الصوت والشكل في ممارسة هذه المهنة، وعن طبيعة صوتي المميزة، اقترح علي بسرعة فائقة موعدا في اليوم الموالي للقيام باختبارات الأداء في الأستوديو.
ـ يا إلهي !..ما الذي يحصل؟
أسبوعا واحدا كان كافيا بعدها ليتم توظيفي مباشرة بالإذاعة، ولأتحول إلى واحدة من رائدات التنشيط الإذاعي بالقناة الدولية “ميدي1”.
ـ واااو.
أكيد أنه كان امتيازا كبيرا جدا، وأكيد أن صوتي المميز ساعدني في ذلك، غير أنني يجب أن أعترف ان المهمة لم تكن تخلو من صعوبات شتى، وأن عملي الجديد هذا لم يكن سهلا كما قد نتوقع للوهلة الأولى.
تَعَلُّمُ أصول المهنة واكتسابها وإتقانها كان طويلا وشاقا بالنسبة لي. كان علي أن أشتغل أكثر على خامة صوتي بالرغم من أنه كان مميزا جدا وجالبا للانتباه ، وكان علي أن أتغلب على الخجل الذي كان يطبعه، وعلى الاضطراب، أحيانا، الذي كان ينتابه بسبب التوتر أمام الميكروفون.
وهكذا خضت بعض التمرينات التي لم تكن سهلة مطلقا. كان على المبتدئين مثلي أن يجتازوا مشوارا أوليا قاسيا، أن يمروا لزاما ببرامج التوقيتات الصباحية جدا، وكان عليهم أن يعتادوا على الاستيقاظ يوميا على الساعة الخامسة صباحا، التي لا مفر منها، استعدادا لانطلاق البرامج.
تمريناتي الأولى تمت تحت العناية الرائعة والجيدة للأستاذ المكاوي، أحد أكبر الاحترافيين في مجال الراديو. فعلى يديه تمدرست، إذا صح التعبير، فقد تعهدني الرجل بصبر وتسامح كبيرين، وكان صوته الرخيم الدافئ يلهمني أكثر ويحثني على التفاعل مع تدخلاته الممنهجة في تدريبي. التباين كان صارخا بيننا طبعا، فقد كنت أشعر أني بوزن الريشة بصوتي الخجول المتلعثم أمامه، غير أني، مع هذا الخبير العتيد بالأمواج الإذاعية شعرت أني مودعة بين يدين أمينتين.
تواصلت التداريب على يديه إلى اليوم الذي تمكنت فيه من التحليق بمفردي وبإمكانياتي التي تطورت بشكل رفيع جدا. فبالرغم من الأشهر العديدة التي قضيتها رفقة هذا المايسترو، ظل على عاتقي أن أنحت بصمتي الخاصة بي في الأداء، وأن أختط نمطي الذاتي الملائم لطبيعة صوتي وشخصيتي.
كان عملا يوميا دؤوبا انخرطت فيه بكل جوارحي وعواطفي وقواي الباطنية، انخرطت فيه بإصرار وبعزم لأنني لم أكن لأقبل بالفشل.
سنة واحدة من بعد انطلاقتي الإذاعية، أتت مجهوداتي أُكلها، فقد أسندت إلي، وخلال أوقات الذروة، من 12h إلى 15h، مهمة تنشيط برنامج موسيقي “carrefour”، تتخلله نشرتين إخباريين رئيسيتين.
ولإنجاح برنامج موسيقي كان علي الاهتمام بمعلوماتي في مجال الأغنية والألحان، بل والاطلاع على كل ما يجد في هذا المجال. باختصار كان علي تعلم الكثير عن عالم كنت أجهله تقريبا.
كانت قناة “ميدي1” قد اكتسبت سمعة وصدى كبيرين، وحظيت بانتشار واسع منقطع النظير في جميع أنحاء المغرب، بل وفي جميع أرجاء بلاد المغرب العربي المترامية الأطراف.
كانت نسبة المتابعة مذهلة ومشجعة على مزيد من التفكير في تجويد الأداء بكل المهارات الممكنة.
وحيدة داخل الأستوديو وجها لوجه مع الميكروفون كنت قد نسجت، مع مرور الأيام، شبكة من العلاقات القوية الافتراضية مع المستمعين، تطبعها روح المشاركة المباشرة المؤثرة. كنت أحس أني قريبة منهم ومن اهتماماتهم، وكان ذلك يمنحني دفء إنسانيا استثنائيا بالغا، وسعادة روحية لا تتصور، لكوني أساهم بتجاوبي وبإنصاتي وبتفاعلي، أساهم في التخفيف من وطأة حياتهم اليومية وقسوتها عليهم، وبالتخفيف من عزلتهم، وبجعلهم طيلة وقت البرنامج منزاحين عن مكاره الحياة، بعيدين عن آلامها وتقلباتها.
لم تكن حياتي تشكل استثناء إنسانيا، فقد كنت مثل جميع خلق الله أتعرض لمثل ما يتعرضون له من اهتزازات في الحياة، وأواجه مثلهم أيضا صعوبات وإكراهات من كل المنعطفات. وكانت هناك أياما يحصل فيها أن أتأثر أمام الحالات التي أواجهها فيفقد فيها صوتي نضارته وحيويته، وينطبع بنبرة الألم، غير أن الاحترافية والمسؤولية كانت تقتضي، بمجرد ما ينفتح الميكروفون أمامي، أن أجعل الظلمة القابعة بداخلي تتوارى إلى الخلف، وأن أظل محتفظة بربطة الجأش، وبالدور الذي يفترض أن أضطلع به كإعلامية واجبها الأول أن تقدم النموذج الأقوى والأسمى للاحتذاء به في مواجهة المآسي، وأن تظهر بصيغة المعضد والمساند والمبشر بالآمال.
كان كل هذا يحصل بالصوت، ولذلك فما أكثر المرات التي كنت أشغل فيها خيالاتي لتصور وجوه الذين كنت أحادثهم. ما أكثر المرات التي كنت أخترع لهم فيها ملامح من أعماقي الإنسانية المتأثرة بتدخلاتهم.
دامت تجربة “ميدي1” من 1981 إلى 1985 راكمت خلالها خبرة فتحت أمامي
آفاقا أكثر رحابة وإثارة كانت آتية لامحالة في، آتية من المركز.
حاورها عبد الإله المويسي