… و يمضي بنا الليل و نحن نيام ، فيُسدَلُ الستار على عالمنا ، لنستيقظ غداً في عالم آخر . بوضع لا يٌفهم له معنى ، إذ الليل نائمٌ في “ووهان” ، بالصين وقد أصبح للناس حلوق جافة و التنفس زفير و الشفاه ظامئة و السُعالُ شديدٌ . أعراض تقصف بحياة الإنسان لمن ارتمى في أحضان “فيروس كورونا” . فالحائط الصيني لم يعدْ حصناً .
أضحى الجمال و المال لا يساوي شيئاً ، و لن يستطيع أنْ يمنح لبني البشر جرعة من الأكسيجين ، بل وُضع الأناسي في قفص كالعصافير (منازلهم) ، و حُرموا من القبلات و الأحضان التي أصبحتْ سلاحاً فتاكاً و مُعدياً ، من جرّاء كائنات صغيرة بمقياس (10نمو متر) . مُنعتْ الزيارات للآباء و الأبناء و الأصدقاء ، و تحوَّلتْ إلى الهواتف النقالة . صار الإنسان ضيفاً على الأرض . أقفلتْ الكنائس و الدير و المساجد و بيت الله الحرام ، و مسجد رسول لله (ص) . باتتْ شعوب الأرض ، ليستْ ضرورية ، و ليتذكروا أنهم ضيوف . لم يعدْ للإنسان مكانٌ تحت الشمس . فغداً يكون اليوم مشمساً و القمر بازغاً . و تستمرُّ الحياة .. فقد ابتلاهم الله ليعافيهم . هموا العباد الذين بغوا في الأرض .
و قد يصعب على الإنسان فهم و استيعاب الحدث الذي يعتقدُهُ شراً بل هو خيراً له . كلُّ من كان يبدو شرّاً ، يصرفه الله عن الإنسان دون أنْ يُدْرك الحكمة من وراء ذلك . و رغم فراره من القدَر ، فلن يستطيع الصبر عليه ، إلا بقوة الإيمان بالله ، لشرّ يراه فيحسبه كذلك ، ليكشفَ الله له أنه كان خيراً .. فكيف يبينُ عالم الغيب ، العليم الخبير ، له بعد حين ناموس الحياة ؟
جاء في محكم كتاب الله جلَّ في علاه ، عند سورة الكهف ، و قد جاء القدَرُ على لسان العبد الصالح سيدنا الخضر ، في حوار مع النبي موسى عليه السلام عند مجمع البحرين . لبيان فضل الأحداث الثلاث كعبر لما عُرفَ ب”فيروس كورونا” ، الشرّير ظاهرياً فقط . و لفهم المتناقضات بين الشرّ النسبي و الخير المطلق ، (ليس هناك شرٌّ مُطلق) . نلجأ إلى ثلاثية أحداث سورة الكهف بذهن صافي ، لإدراك معنى امتلاء الكوْن بالمآسي . فكان هذا اللقاء الرباني بين نبيّ من أولي العزْم و عبد صالح ، الذي قال الله في حقه : فوجدا عبداً من عبادنا ، آتيناه رحمة من عندنا و علمناهُ من لدُنا علماً..صدق الله العظيم (سورة الكهف، الآية 65) . فيجيب موسى عليه السلام : قال له موسى ، هل اتَّبعكَ على أنْ تعلمني ممّا علمتَ رُشداً ..صدق الله العظيم ، (س،الكهف الآية 66) . فاستجاب الخضر لموسي قائلا : إنَّك لن تستطيع معي صبراً ، و كيف تصبر على ما لم تحط به خبراً..صدق الله العظيم (الكهف 67) . فامتثل موسى عليه السلام مجيباً : ستجدني إنْ شاء الله صابراً و لا أعصي لك أمراً. صدق الله العظيم .(الكهف،69). ثمَّ انصاع له الخضر بقوله : فإن اتَّبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أُحدثَ لك منه ذكراً .. صدق الله العظيم (الكهف،70) . و ينتقل بهما الحديث إلى الفعل : فانطلقا حتى ركبا في السفينة خرَقها (الخضر)، قال (موسى) أخرقتها لتغرقَ أهلها ، لقد جئتَ شيئاً إمراً ..صدق الله العظيم ، (الكهف،71) . و كيف أنَّ دَوْر القدَر هنا ، و إنْ كان شكله شرّاً فجوهره خيراً ، و يظهر الأمر جلياً في الآية الكريمة : أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردْتُ أنْ أعيبها (الخضر) ، و كان ورائهم ملك يأخذ كلَّ سفينة غصباً ..صدق الله العظيم ، (الكهف،79) . و قبل أنْ يطرُق السمع ذاك السؤال أتى هنا الجواب ، لكي يعرف الأمر و يكبر قدَرهُ . فانطلق الخضر ثانية بصحبة النبي موسى عليه السلام ، لقول الله جلَّ و علا : فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله(الخضر) ، قال (موسى) أقتلتَ نفسا زكية بغير نفس ، لقد جئتَ شيئا نكراً..صدق الله العظيم ،(الكهف،73) . و ليرفعَ الحجاب لبيان الحكمة عن ذلك القدَر ، جاءت هذه الآية من آيات الله : أمّا الغلام فكان أبواهُ مؤمنين فخشينا أنْ يرْهقهما طغياناً و كفراً..صدق الله العظيم، (الكهف،70) . وهو (الخضر) الذي أطلعه الله تعالى على الغيب . و كم من آيات ليدرْك الإنسان الغاية من قدَر الله . في ثالثة حادثة ، لإدراك الحكمة و العبرة ، لكل حادث حديث ، بين العبد الصالح و نبي الله موسى عليه السلام فانطلاقا بعد المرَّتين الأوليين ، و هي الأخيرة ، لقول الحق سبحانه : فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أنْ يضيفوهما ، فوجدا فيها جداراً يريد أنْ ينقضَّ فأقامه ، قال(موسى) لو شئتَ لاتخذتَ عليه أجراً ..صدق الله العظيم ،(س.الكهف ،الآية77) .
بل كان الأمرُ من أجل يتيمين ، و ليستوقف القارئ قيمة الإيمان بالله ، جزاءًا لأبويهما الصالحين المؤمنين ، الذيْن تركا لهما كنز تحت جدار ، فأراد ربهما أنْ يستخرجاه منحة منه جلَّ في علاه . وقد أخذ العبد الصالح(الخضر) بالأسباب ، عند قوله تعالى : فأمَّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما ، و كان أبوهما صالحا فأراد ربُّك أنْ يبلغا أشدَّهما و يستخرجا كنزهما رحمة من ربّك ، و ما فعلته عن أمري ، ذلك ما لم تسطع عليه صبراً ..صدق الله العظيم ، ( سورة الكهف ، الآية 82) . و الكنز ، و الله أعلم ، قيل عنه ، فيه علم أو صحف علم أو لوح من ذهب كتبتْ فيه البسملة . وقد رُفع الحجاب لبيان الحكمة من ذلك . الله جلَّ شأنه يداوي عباده بأدوية المحنة و الابتلاء . و القدَرُ هنا في ثلاثية الأحداث في سورة الكهف ، إيقاظا للغافلين ، و من هنا جاءت جائحة وباء “فيروس كورونا” كرسالة للعالم أجمع للانتقال إلى حضارة المستقبل بتربية الروح لشفائها من الذغائن و الأحقاد ، و بما تحمد عواقبه ..إذ بها عبر و دروس لآيات تبحث عن الضوْء، في عالم ظلمات الحروب و الطغيان .. و قد نعجبُ لمن يتيقن من الموت و كيف يفرح ، و لمن يعرف مصائب الدنيا و يطمئن إليها ، و ذلك هو الإيمان بالله تعالى .. لقوله جلَّ و علا : و كان الله على كلّ شيء مقتدراً ..صدق الله العظيم ، سورة الكهف ، الآية 45) ..
عبد المجيد الإدريسي .