لقد غزا الإشهار حياتنا. فهو يشحن متخيلنا، ويثير رغباتنا ويوجهها، ويضبط سلوكنا ويسهم في بناء هويتنا.
إن الإشهار يحمل ويُلَقِّحُ القيم ومُثُلَ المجتمعات الجماهيرية: كالفردانية، ومذهب المتعة، وسيادة الأشياء. إن له سلطة معيارية: فرسائله الموجزة، وملصقاته هي تأكيدات لما هو صالح وحسن، ولما هو مرغوب ومطابق. ومن وجوده في كل مكان، ومن التأثير الذي يمارسه على القيم والسلوك، يمكن أن نرى فيه “مُرَبِّيَّة”، وصيغة للمثاقفة في عالمنا.
ويضاف إلى هذا أن الخطاب الإشهاري قد نقل العدوى إلى الخطابات العمومية الأخرى، وفي مقدمتها الخطاب السياسي. لقد عوض الخطاب الإشهاري جزئيا الخطابات المهيمنة في الأزمنة الماضية؛ كخطابات الكنيسة وخطابات الجمهورية، التي كانت تمنح معنى للعالَم وهوية للبشر.
وحصل هذا التأثير المهيمن بواسطة التقنيات البلاغية الناجعة جدا. وتعد دراستها خطوة أولى للسيطرة عليها.
I.الخطاب الإشهاري
يهدف الخطاب الإشهاري إلى الرفع من قيمة منتوج لتسهيل بيعه. وهكذا فهو يتعلق بجنسين بلاغيين كبيرين من ضمن الأجناس البلاغية الثلاثة: الخطاب الاستشاري الذي ينصح، والخطاب الإشهاري الذي يمدح.
إن التشكيل البلاغي هنا بصفة خاصة جاحد: إن كل رسالة إشهارية غارقة في عدد وافر من الرسائل الأخرى، وتواجه متلقيا لا مباليا. يستجيب الإشهار لهذا التحدي المضاعف بواسطة محو المتَلَفِّظ، والتكيف النسقي مع المتلقي، والاحتفال بالمنتوج من دون إظهار الفروق الدقيقة.
أ.الإيطوس. من المتكلم؟
الغُفْلِيَّة L’anonymat
يُجْهَلُ صاحب الشعارات الإشهارية. فالصانع لا يظهر بشخصه لإطراء صفات سلعته. فهذا المحو للمتلفظ له تأثير مقنع ملحوظ.[1]
1/ أولا، إنه يمنح طابعا موضوعيا للرسالة، ويمنحها نوعا من البداهة والصلاحية الكونية. وبما أنها لا تكون مؤكدة بصفة خاصة من أي شخص، فإنه يمكن أن يتكلف بها جميع الناس.
2/ ثم إنه يكون أقل عرضة للاعتراض. فهل نمنح من الثقة كذلك لهذه الشعارات الإشهارية إذا شاهدنا من يذيعها؟ ربما، لا. فـعبارة “هو من يقول ذلك” ستكون الرد المباشر.
3/ وفضلا عن ذلك، يساعد على الحلم ويسهم في خلق عالم مبتهج: باختفائه يمحو الصانع الإحالة إلى الواقع ويِقَنِّعُ ابتذال الإنتاج الصناعي.
4/ وأخير، يجعل من المتلقين مشاركين في صناعة الرسالة. أمثلة: التلفزة الفرنسية. فلنمنح الخيال لصورنا؛ أو هذا الإشهار لمجلة National Geographic: وأخيرا، في فرنسا! من يتكلم؟ وإلى من يتوجه بكلامه؟ إنه كلام بلا متكلم، إذا أردنا تحديدا أفضل للمرسل والمتلقي.
2.خطاب ذو المعنى الوحيد
ينشئ الإشهار تواصلا ذا معنى وحيد، من دون جواب فعَّال وممكن. ولأجل العمل على نسيان هذا الكلام الأحادي الجانب المفروض، يلجأ الإشهار إلى تضليلات متنوعة.
1/فهو مثلا، يدرج حوارا خياليا لكي يجعل المتلقي جزءا مندمجا في الرسالة. إن مظهر هذا الحوار يضفي على تواصل الجماهير طابع تواصل خاص ويوهم بتفاعل مشخص .interaction personnalisée
2/ ولأجل خلق التطابق، فإن الإشهار يجسد، أحيانا، أشخاصا مجهولين يُعربون عن رضاهم نحو المنتوج. إن إشهارا لفهرس البيع La Redoute بوساطة المراسلة، يبرز عددا من الأفراد المبتهجين بالشعار: لقد التقينا في الحفل الراقص La Redoute. إن الفهرس المرَكَّب على طباعة الصورة بشفافية، يؤطر شخصين من بين عدة أشخاص ليبين أن الحفل الراقص La redoute يرضي كثيرا رغباتهما بحيث يتقمص المتلقي شخصية المتلفظ وكأنه يقول: La Redoute، هو نحن!
3/ وغالبا ما يستدعي الإشهار، لأجل رعاية منتوجاته، شخصيات مشهورة وذات حظوة عند الجمهور. إنه يعتمد في هذه الحال على حجة السلطة التي يفترض أن المتلقي يسلم بها. إن الأمثلة كثيرة: لا توجد سلعة ذات علامة تجارية جيدة من دون مشاهير مرتبطين بها. في اليوم التالي لفوز فرنسا في بطولات أروبا لكرة القدم، في سنة 2000، ظهر نجمنا العالمي زين الدين زيدان، في ملصق، جنب قنينة ماء معدني، نشر في ربوع البلد.
4/ وأخيرا، يعمل الإشهار أحيانا بواسطة التجسيد و التشخيص مانحا الكلام للمنتوج.
ب. المتلقي
- طبائعه
وسواء أكان الإشهار بواسطة الملصقات العمومية، أم في صفحات الجرائد، أم في الوصلات الإشهارية الموجزة التي تبثها التلفزة، فإنه يتوجه إلى جمهور عريض ومجهول. ولأجل جلب انتباهه، فهو يعمل وكأنه يتوجه إلى كل فرد من أفراد هذا الجمهور شخصيا.
- متلق متنوع يصعب ضبطه
يُضبط المتلقي بطريقة إحصائية. وتبذل شركات الإشهار جهدا في رسم خرائط المظاهر العامة للاستهلاك.
ولقد أقام مركز التواصل المتقدم “أوروكوم” ما يسميه العائلات الكبرى لـ” الأساليب الاجتماعية”. وقد انتهى إلى التمييز الذي أقيم في سنة 1988 إلى ما يأتي:
-المتطرفون (11% من السكان)، ينزعون نحو الحجاج العملي، والمنتقى، وغير المسبوق؛
-الماديون (23%)،وهم المنشغلون بالأمن والمنفعة، ينزعون نحو الحجاج المبتذل والتبسيطي ويلحون على الوظيفية ومصداقية المنتوجات؛
-المتحجرون (20%)، وهم محافظون، ينزعون إلى حجاج سلطوي وأخلاقي مبني بناء جيدا؛
-المنعزلون (لا يتجاوزون 40 سنة، ويمثلون 24%)، فهم فردانيون، ومقاومون للأعراف، ومناصرون لمذهب المتعة، ومنفتحون على الحجاج الفكاهي والجمالي؛
-المتمركزون حول ذواتهم (هم شباب من الأوساط الشعبية، 22%)، تثيرهم الحجج المهيجة، والمذهلة، والعاطفية؛
إن سلطة التنبؤ بأساليب العيش على استهلاك منتوج ما تبقى مع ذلك محدودة.
ب- متلق قليل الاهتمام
إن المستهلك لا يذهب من تلقاء نفسه نحو الإشهار؛ وأكثر من ذلك هل يقبل أن يترك الإشهار يأتي إليه. إنه لا يبذل أي مجهود للقبض عليه. إن 5% بالكاد من الأشخاص الذين عرض عليهم إعلان ما يقومون بقراءته قراءة كاملة. هذه اللامبالاة تفسر طابعين مهمين للخطاب الإشهاري. فهو خطاب لَغْوِي يبحث قبل كل شيء عن إقامة اتصال، وهو خطاب مُسَلِّ ومُغْر.
وغالبا ما يكون الخطاب مع ذلك غائباً. فالقراءة تتطلب مجهودا أكبر. ويُختزل الإشهار في صورة، مع شعار علامة تجارية لنوع المنتوج. وليس “الكسل” وحده هو السبب. فكل علامة تجارية من بين علامات أخرى غارقة بحيث يعمل الإشهار على إبرازها، فلا قرار بوجودها، وإظهار حضورها، من ملاعب كرة القدم إلى معارض الفن التشكيلي، لأجل خلق حميمية وانجذاب نحو كل واحدة منها. في عالم الوفرة، المشبع بالمنتوجات، يُشَكِّلُ الحضور حجة في حد ذاتها، بعيدا عن أي خطاب.
ج) متلق يبحث عن الهوية
تستند نجاعة الإشهار إلى استعداد المتلقي. ولن تكون أبدا إجرائية إذا كانت اختيارات الجمهور قد حُددت من قبل. فالفرد المعاصر لم يعد محصورا في أطر جغرافية، واجتماعية، وثقافية، التي كانت تمنحه في الماضي هوية، وعادات في الحيـاة والاستهلاك. ولكونه منفصلا عن هذه التحديدات القديمة، فإنه في بحث دائم عن ذاته و”حُرٌّ” في اختيار منتوجاته. بناء على هذا البحث عن الهوية يؤسس الإشهار إمبراطوريته. فمثل هذا المنتوج المقرون بمثل هذه القيمة، ستمنحك مثل هذه الهوية؛ هوية بالطبع، ليست هذه الهوية أبدا سوى إظهار ذاتك الباطنة، وكيانك الحقيقي…
والأمثلة كثيرة
– “في ديفرنوا، أجد نفسي” ؛ EN Devernois, je suis moi ؛
“مرهمي، هو أنا؛ وكورْسَتي هي أنا كليا (سيارات أوبيل)؛
Ma crème, c’est moi, Ma Corsa c’est tout moi (automobiles opel )
“كن مختلفا، وفكر في بيبسي” (مشروب)؛ Soyez différent; pensez
Pepsi (boisson)؛
كن “ديم” إلى النهاية (لصاق)؛ Etre Dim jusqu’au bout (collants).
-“كن ما كنت عليه” ، Deviens ce que tu es، هو إشهار لعلامة تجارية للأقمصة الرياضية Lacoste الذي يُظهر شخصا ينظر إلينا، وهو يرتدي قميصا رياضيا من هذه العلامة.
-“أنا أعرف إذن أنا موجود”، je suis Je sais donc، كما يثبت إشهار شبكة الأخبار CNN الذي يُفَصِّلُ بأحرف صغيرة جدا، الاستدلال الذي من المفروض أن يؤسس شعار: أنا حصيلة تجاربي. كلما أحاول، أفهم أكثر.
-يُظهر الإشهار لعطر Poême de Lancôme وجه ممثلة، وقارورة العطر، وهذه الكلمات: أن نقول كل شيء من دون أي كلمة. هاهو العطر الذي يمنحكم الهوية إلى درجة عالية بحيث لن يحوجكم الكلام للإفصاح عنها.
-يقوم الإشهار للسيارات كثيرا على مواضع الهوية في المتخيَّل الجمعي، عن شخصية مالكها، وتعلن حرفيا عن من تكون. ويوضح شعار العلامة التجارية للسيارة الأمريكية “بويك” Buick جيدا هذه الهوية: إنها تمنحكم الشعور أنكم الرجل الذي تمثلونه بالفعل.
ها هو مثال أخير دال بشكل خاص. لكي تقوم بالدعاية لعطرها الجديد Allure””، نشرت Chanel سنة 1996 “كتيبا أسمر فاتحا”، يحكي قصة قارئته:
“تذكري. أنك كنت طفلة صغيرة. كان يُقال لك : تعلمي كيف ترتبين شعرك، وكيف تلبسين، وكيف تتكلمين وتمشين، وكيف تقولين صباح الخير. وكانت حركاتك، وكلامك، وذاتك موجهة من الكبار (…) ثم، طبيعيا، كبرت (…) لقد بحثت عن هوية: عن دور للتعبير عن نفسك (…) واليوم، فجأة، تتذكرين أن الأناقة) l’allure) موجودة (…) هناك مفتاح للأناقة (l’allure) (…) إنه العطر (…) واليوم، ولأول مرة، أصبح Allure عطرا.”
[1] Selon la thèse américaine du sleeper effect, ou effet hypnogène, un message est d’autant mieux reçu et accepté qu’on ignore son auteur.
د. عبد الواحد التهمي العلمي