إذا كانت البلاغة في الواقع، بوصفها بحثا في المحتمل والمفضل في عالم غير يقيني، لم تختف أبدا من الخطاب السياسي، فقد غابت عن الأذهان مدة قرنين. لقد أرادت الحداثة بالفعل أن تُخضع السياسة للحقيقة وتُقْصي كل بلاغة من حقل الشؤون البشرية، لتعوضها بخطاب أخروي مُحَصَّنٍ باليقينيات؛ هذا المشروع المطبق على درجات مختلفة، ووفق جهات القول المتنوعة، دام طويلا. انهارت السياسات الشمولية التي كانت على رأس من كان يطالب بهذا المشروع. أما بالنسبة إلى خطابات تَقَدُّم الأنظمة الديموقراطية، فقد ذهبت مع الريح، وهي غارقة كما هي بفعل التأثيرات المنحرفة للاكتشافات التي تنفذها. إن إعادة اكتشاف الطابع غير المحدد للقضايا السياسية صاحبه وعي بأهمية البلاغة في توضيح الرهانات وتوجيه الاختيارات.
إن الخطاب السياسي هو النموذج الأعلى لما اصطلح عليه بالنوع الاستشاري. إنه يرتكز على الدفاع أو على نقد المشاريع والقرارات المتعلقة بجماعة، بناء على نفعها أو ضررها.
في الديموقراطيات النموذجية، تقدم البلاغة السياسية خاصية ذات قوة سجالية سواء أكان ذلك بسبب طبيعة القرارات السياسية، أم بسبب الفكرة الحديثة للسلطة.
لا نستطيع أن نحدد بطريقة علمية أو دوغمائية الاختيارات التي نقوم بها في مجال الشؤون البشرية. “لا يوجد الموضع الذي نجد فيه الخير مُدْرَكا ومحددا بطريقة مطلقة جدا بحيث يمكن اعتبار المجادلة منتهية؛ فالمجادلة السياسية تبقى بدون نهاية، على الرغم من أنها لا تكون من دون قرار.”[1] لكن هذا القرار يبقى قابلا للنزاع بطريقة لا تقبل الاختزال.
ومن جهة أخرى، تنتمي السيادة إلى الشعب؛ فهي ليست ملكية خاصة لأحد: لا أحد يستطيع أن يدَّعِيَ أنه مُخَوَّلٌ بالإرث وبالحق الإلهي أو الهبة اللدنية للاستئثار بالحكم. إن موضع السلطة يجب أن يبقى “فارغا”. ولأجل هذه الغاية، أي لأجل تجريد الحكام من نزعتهم الطبيعية لتقمص شخصية السلطان، تتكلف المعارضة بنشر انتقادات متواصلة ضد سياساتهم.
وفي الختام، إن الكلام السياسي مرتبط ارتباطا حميما بالفعل. فأن تمارس السياسة، يعني أن تتكلم، وتتصرَّف في مجال الشؤون العامة. إن البلاغة المدنية تتناول، قبل كل شيء، أسباب ونتائج الأفعال الجماعية. وبناء عليه، تحضر حجج السببية في الخطاب السياسي.
I-إطار الحجاج السياسي
أ-المستمعون
يواجه السياسي متلقيا ثلاثيا: جماعة الناخبين، والمعارضة، وحلفاءه. ويلزمه في الوقت نفسه أن يدحض خصومه، ويُرضي أنصاره، ويحمل الناخبين على الاقتناع بأن فعله ملائم.
1-جماعة الناخبين
جماعة الناخبين عريضة، ومتنوعة، ومتغيرة. يصعب حصرها. وتوضح الإحصائيات واستطلاعات الرأي تكوينها، واهتماماتها، وتخوفاتها، وتطلعاتها. إنها تمنح مؤشرات عن صورة الناخبين في رأي الأحزاب، والمترشحين، والسياسيين الخاضعين أو المقترحين.
ولمواجهة تنوع الناخبين غير القابل للاختزال، فإن الخطاب السياسي يسعى دائما إلى أن ينحاز إلى القاسم المشترك الأصغر ويلجأ إلى الغموض الذي يتيح تأويلات بقدر عدد المتلقين.
يلزم السياسي أن يتَلَعَّبَ بوضعيتين تجاه جماعة الناخبين. ويجب عليه، في الوقت نفسه، أن يظهر أنه قريب من مواطنيه، وأنه شبيه لهم، ويدلُّ على كفاءته التي تميزه عنهم وتجعل بينه وبينهم مسافة. فهو موجود دائما بين الهوية، والاختلاف، وبين القرب والبعد.
في الأنظمة المعاصرة، تحظى الحياة السياسية بأهمية أقل من الحياة الخاصة. وعلاوة على ذلك، فإن أفول الشيوعية في الديموقراطيات المعاصرة، قد اكتسح الحياة العامة وجَمَّدَ جزءا كبيرا من الناخبين المنخرطين في هذا الفريق أو ذاك. فبعد خصومة رؤيتين متعارضتين للعالم خلال أكثر من قرن من الزمن، هدأ الجدل السياسي. ومن ثم فقد جاذبيته. وتوحدت برامج الأحزاب. فالناخب، الذي لم يعد مهتما بالشأن السياسي كما كان من قبل، أخذ يبحث عن تشكيل رأي بسرعة ومن دون مجهود، للشكل أكثر من المضمون، وللطريقة التي يظهر ويعبر بها رجل السياسية ، أكثر مِـمَّا يقوله حقيقة. من هنا تظهر الأهمية التي يحتلها الإيطوس، وتتعاظم أكثر بواسطة التلفزة وهيمنة الصورة. ومن ثَمَّ فإن الحكم على الشخص يكاد يكون أكثر أهمية من الحكم على فعله نفسه.
ولما كانت جماعة الناخبين عريضة ومتنوعة وغير مسيسة، فإن هذه السمات تفسر المسعى الديماغوجي الذي يخضع له الخطاب السياسي باستمرار، وهو المسعى الذي يتعاظم أيضا بواسطة المواجهة الدائمة مع المعارضة.
2.الخصم
يخوض رجل السياسة عراكا مع خصم سياسي موجود في كل مكان، والذي تتمثل وظيفته المُؤَسَّسِيَّة في نقد المشاريع التي يقترحها والقرارات التي يتخذها.
وتعمل هذه المواجهة على تنمية الطابع السجالي للبلاغة السياسية، ومانويتها، وطابعها السفسطائي. كل هذا جيد للجم الخصم، وإيقاعه في الفخ بواسطة الكلمات، والحط من قيمته واعتباره بواسطة اتهامات مغرضة بواسطة المزج.
كلاهما يبحث عن اقتياد الخصم إلى ميدانه الخاص اعتمادا على الأحكام المسبقة، والبراهين ذات الحدَّين الخاطئة، والأسئلة المتعددة، والألفاظ الموحية، والمصادرة على المطلوب.
تجري المعركة خطوة خطوة، ولفظا بلفظ، لأن للألفاظ حمولة رمزية، فهي تترجم موقفا عقليا، وتعكس تصورات سياسية، وتَصْلُحُ لإضاءة الأفكار. على هذا النحو، تكلم خصوم التعليم الكاثوليكي عن المدرسة الخاصَّة، بينما أشاد الأنصار بالمدرسة الحُرَّة. كما أن اليسار فَضَّلَ استخدام لفظ الصرامة الذي يحيل إلى المعرفة، بدل لفظ التقشف الاقتصادي الذي حكم عليه بأنه أخلاقي جدا. وفي الختام، استبدل اليسار أيضا بلفظ الإعانة النقدية المخصصة لمد يد المساعدة للمسنين (وهو اللفظ الذي يفيد التبعية)، لفظ التعويض (وهو اللفظ الذي يفيد الاستقلالية) الأكثر إيجابية، الذي يحيل إلى الهدف الـمُحَرِّر، ولا يحيل مطلقا إلى السبب المعيق.
لكل لفظ مكانته واعتباره. وبناء عليه، يتطلب الكلام السياسي سيطرة محكمة. إن الخطاب السياسي خطاب ذو إكراهات.
ب- كلام مقيَّد
ليس رجل السياسية السيد الحاكم لخطابه. إذ يقتصر حقه في الكلام، في غالب الأحوال، على وجوب النطق بكلمات معينة متوقعة في مقام. وآية ذلك، خطابات التهاني، والترحيب، والافتتاح، والحزن، والاحتفال بذكرى.
وعلاوة على ذلك، يُبْنَى الخطاب السياسي، ويُعَلَّمُ بواسطة سلسلة من القيم والمواضع المشتركة المتمثلة في سيادة الشعب والحرية، والمساواة في الحق، والتسامح، والأمن.
وفي الختام، يجب على الرجل الذي يخاطب العامة أن يشحن حلفاءه، ويدحض الردود المضادة، وألَّا يثير الغضب إلا في حدود ضيقة. وفي مواجهة خصم متربص به، ومواجهة انتقادات متواصلة، تظل محاولة الاحتماء خلف لغة الخشب فوق طاقته. وعلى هذا النحو، يُفْرَغُ الكلام من كل مادة ليقدم مظهرا أملس، وسميكا، وغير قابل للهجوم.
وثمة عوامل أخرى تسهم في تحديد الكلام السياسي الحالي، وعلى رأسها وجوب التحكم، واللغة التقنوقراطية التي تترتب عليه.
1-وجوب التحكم واللغة التقنوقراطية
إن المحدد الأول للكلام السياسي، هو نمط النظام والفضاء العمومي، الديموقراطي أو السلطوي، وأيضا وسائل التواصل؛ إذ طوَّر التلفزيون الكلام السياسي. وسنرى في الفصول القادمة ما له ارتباط بالبلاغة المتطرفة وبتأثير التلفزيون على الخطاب السياسي.
إن الأنظمة الديموقراطية الحالية التي يطلق عليها “المُؤَسَّسَة بذاتها”، بالمعنى الذي لا يأتي تكوينها من الخارج، عن طريق التقليد أو الحق الإلهي، ولكن يأتي من مادتها نفسها، حيث يكون القرار النهائي للشعب.
فهذه الأنظمة يُفترض أنها تتحكم من جهة إلى أخرى في تنظيمها ومصيرها. وهذه السيادة تقتضي بالنسبة إلى المجتمعات الديموقراطية أن تملك معرفة معَمَّقَة بذواتها، وأن تكون على نحو ما شفافة مع ذاتها. من هنا لجوؤها إلى جهاز إحصائي جد متطور.
إن وجوب التحكم هذا، يؤثر في الحجاج مثلما يؤثر في المعجم السياسي. إنه يؤدي إلى مضاعفة “خطابات الاتهام”[2] التي يقيم الحاكم بواسطتها رابط السببية بين فعله والأحداث، بين ما قام به وبين ما هو قائم. ويشرح الوجوب ويُشَرِّعُ تواتر الإحالات إلى الأرقام وإلى الحروف الأولى من الكلمة وإلى الألفاظ المختصرة في الخطابات السياسية. إن هذا الانحراف التقنوقراطي يختزل حقائق بشرية إلى سيرورات مذكورة بألفاظ مجردة، ووظيفية، ذات الهيمنة الاقتصادية. لا يوجد خطاب لا يتكلم عن الخلل، واللا تموضع، وإعادة البناء، إلخ. ولنأخذ على سبيل المثال لفظ “اختلال الوظيفة”. إنه يفرغ بخاصيته الواقع الذي يفترض أنه يصفه. وبواسطة طابعه المجرد، فهو يقلل من الوضعيات البشرية التي يغطيها. خاصة وأنه يفيد أن الوقائع التي لا نرضى عنها بسببية تقنية خالصة تستطيع التقنية أن تعالجها ، مُخفية على هذا النحو مسؤولية المسؤولين.
[1] Paul Ricoeur, “Langage politique et rhétorique” in Lecture, I :Autour du politique, Paris, Le Seuil, 1991, p.167.
[2] Christian Le Bart, Le dicours politique,Paris, Puf, Que sais-je?, 1988.
د. عبد الواحد التهامي العلمي