الوجوه الرئيسة للبلاغة السياسية
تحتل الصور مكانة أساس في الخطاب السياسي. وتمنح بعدا عاطفيا للمفاهيم المجردة، كما تمنح للأفكار دورا تعبيريا ولافتا. إن لها وزنا وأهمية عظمى في الإقناع بحيث إن الزمن القصير الممنوح للخطاب السياسي في وسائل الإعلام وعدم الاهتمام النسبي للمواطنين بالشأن العام يقودان إلى الإعلاء من شأن الجملة الصغيرة، والصياغة الموجزة، والشعار.
أ.الاستعارة
1. دور أساس
تضطلع الاستعارة بدور أساس في الخطاب السياسي. إنها تكثف برنامجا، ورؤية، ومثلا أعلى. ومن ذلك استعارة “الحدود الجديدة” (new frontier) للرئيس جون فيتزجيرالد كينيدي Jhon Fitzgerald Kennedy، التي منحت برنامجه في المجال الاجتماعي المتمثل في تربية ومساعدة بلدان العالم الثالث، القوة، والوضوح، للحلقة المؤسسة للولايات المتحدة الأمريكية: وهي غزو الغرب، وتراجع الحدود نحو الأطلسي، رمز انتصار الحضارة على الحالة البدائية.
توضح الاستعارة سلطة الكلمات على الواقع. إنها تقبض على الحدث في جوهره وتضيئه. إن استعارة “الستار الحديدي” “rideau de fer“، التي استعملها وينستون شورشيل Winston Churchill في خطابه في فولطون Fulton بتاريخ 5 مارس 1946، تثير الوعي بقوة، بأهمية اتساع التقسيم إلى شرق وغرب الذي يرتسم ويسهم في جعل الولايات المتحدة تقرر خلق ميثاق الحلف الأطلسي.
إن الاستعارة إبداعية في جوهرها. إنها تمنح معنى وإشراقا لوقائع ما زالت غير واضحة، وتفرض عليها تشكيل عبارتها وقوة مفهومها. وعلى سبيل المثال، استعارة “الانشطار الاجتماعي”، تسلط الضوء على واقع مؤلم، يشعر به الجميع بشكل غير واضح: فتشكيل الشر في حد ذاته يعد خطوة نحو استئصاله.
1. الموضوعات
إن الاستعارات السياسية مستقاة إما من الموضوعات المألوفة لدى المتلقي، وإما من الميدان العسكري بسبب قربها من المعركة السياسية، وإما أيضا من الطبائع المهيمنة في العصر(على سبيل المثال، أولوية العلم والتقنية في الوقت الراهن).
يُذَكِّر دومينيك لابِّي[1] Dominique Labbé أن أجزاء السيارة هو من بين الموضوعات المستعملة بكثرة: كالفرامل، والحصارات، ودوَّاسة السرعة، والتغييرات في السرعة، والغمازات، والمحولات، والوقود، وكلها تفسح المجال لعدد من الاستعارات التي توضح صراعات الأنصار والحياة الاقتصادية والاجتماعية. وهناك سجل آخر مألوف هو سجل الرياضات الشعبية (مثل: كرة القدم، ورياضة الدراجات، والعدو الريفي)، التي تأتي لتبرر التضامن والمجهود الجماعي.
أما بالنسبة إلى الاستعارات العسكرية، فهي متداولة كثيرا بحيث تند عن الانتباه. والأمثلة كثيرة. نبين خصوصا[2]: من قبيل الاستراتيجيات، والتكتيكات، وقيادة المعركة، واقتحام المعركة، وتحمل قصف متواتر من الانتقادات، والتراجع إلى الخلف، ونصب كمائن، والزحف نحو ميدان ملغم، والقضاء عل العدو بالنيران، وأعمال الهجوم المـُضَلِّل، والتسميم، وحرب المواقع، والخنادق، الخ…
لا تكتفي الاستعارات بجعل الخطاب أكثر تعبيرا. إنها تترجم تصورا للعالم. ولنأخذ تلك الاستعارات المستمدة من الطبيعة، على سبيل المثال. إنها تنزع إلى تبرير حقيقة معرضة للنقد. إنها تجعلها طبيعية، وتبرئها، وتجعلها مسلما بها، فهي تقي من الخصومة وتنزع كل إرادة للتدخل التصحيحي. فهذه الاستعارات تصدق على الظواهر الاقتصادية والاجتماعية التي من أجلها نجد تعابير مثل: العواصف المالية، وتعضيل الاقتصاد، وتخسيس المقاولات، ومرض البطالة، إلخ. إذا كان ما يحدث طبيعيا، فلم يعد هناك شيء يمكن القيام به، فالإنسان منزوع من أي مسؤولية، ومن أي التزام بالعمل.
يلجأ المحافظون عادة إلى الاستعارات المستقاة من البيولوجيا، ويلجأ الماركسيون إلى الدينامية وإلى الكيمياء، وتلجأ الليبرالية إلى الرياضيات وإلى ميكانيكا نيوتن.
وقريبا من الاستعارات الطبيعية، نجد الاستعارات الطبية، ومن بينها استعارة الكسر الاجتماعي، التي استعملها جاك شيراك Jacques Chirac أثناء الحملة في الانتخابات الرئاسية لسنة 1995. إن المجتمع السياسي في الغرب غالبا ما كان يُفَكَّرُ فيه استعاريا مثل جسم، ومثل عضو حي. ويتمثل الابتداع في استعارة “الكسر الاجتماعي” بتمثيل الجسم الاجتماعي بهيكل عظمي. وانتقالا من الجسم إلى الهيكل العظمي، يتغير المنظور: ذلك أن المخاطر التي تضغط على الجسد يمكن أن تكون داخلية أو تأتي من الخارج، أما التي تضغط على الهيكل العظمي فهي خارجية بالضرورة. وعلاوة على ذلك، إذا استطاع الجسد أن يحدد ذاته، فإن الهيكل العظمي يحتاج إلى تدخل خارجي. وتفيد استعارة الكسر الاجتماعي ما يأتي: 1) أن ضواحي المدينة المهمشة تكون سلبية في مواجهة مشاكلها.2) إن تنظيم هاته الأحياء يتعلق فقط بتدخل الدولة وليس بأن تتكفل هذه الأحياء المهمشة بذاتها.
2. استعارات دوجول، وجيسكار ديستان، وفرانسوا ميتيران
أ) الجنيرال دو جول
تغترف استعارات الجنيرال دوجول[3] أساسا من سجلَّين اثنين: التقابل بين الأعلى والأسفل من جهة، والبحر والإبحار من جهة ثانية.
الصنف الأول يُوَضَّحُ بتعابير مثل: “الإنعاش الوطني” و “تقويم البلاد” وخاصة “القمة“: إن انتخاب الرئيس في الاقتراع العام “يهدف إلى تأسيس الاستمرارية، والصرامة، والنجاعة في قمة الدولة” (26 أكتوبر 1962).
ويعد السجل الثاني مصدرا للاستعارات الممتدة مثل: إن الشعب محيط، والتاريخ بحر تعبره العواصف، والرجل السياسي بحار، وربان للمجتمع الذي يجب أن يقوده إلى المرفإ الآمن. فهو يمسك بالمقود، ويقود سفينته بين أمواج الأحداث وبين التيارات التي تثير الجمهور. وفيما يأتي توضيح لهذا الموضوع البحري مقتطف من مذكرات الحرب، يصف تحرير مدينة باريس:
“مرورا بين حاجزين من الرَّايات والناس يصيحون: “عاش دوجول!” لقد أحسست أنني منساق بنوع من نهر الفرح. (…) في كل البلدات والقرى التي مررت بها، كان يتوجب علي أن أتوقف أمام تدفق الولاء الشعبي…
“ما أكثر الناس، في الطريق، الذين كانوا يترصدون موكبي! (…) في مدخل أورليان Orléans، وقريبا منها كان الناس يلاحقونني مرهقين، إنه ابتهاج البحر في مده وجزره (…)
“أمامي حقول الإيليزي! les Champs –Elysées آه، إنه البحر!
“جمهور غفير يحتشد على الرصيف هنا وهنالك. كتل بشرية معلقة على السلالم، وعلى الأعمدة، وعلى الفوانيس. وعلى قدر ما يحتمل نظري عن بعد، لم تكن سوى أمواج صاخبة حية، وسط الشمس، تحت الألوان الثلاثية (…)
“كنت أسير إذن، متأثرا وهادئا، وسط ابتهاج الجمهور الذي يعجز عنه الوصف، وتحت عاصفة من الأصوات التي تدوي باسمي، كنت ساعيا بمقدار، أن أضع نظراتي على كل موجة من هذا البحر الهائج في مده وجزره حتى تستطيع نظرات الجميع أن تنفذ إلى عيني(…)
“وكنت أحس في هذه اللحظة نفسها، وأنا أسير في مقدمة الموكب، بطموح يرافقني في الوقت الذي يرافقني فيه الوفاء. وتحت أمواج ثقة الشعب، لم تكن صخور السياسة تكف عن البروز.”[4]
ب) “فاليري جيسكار ديستان
وفيما يأتي استعارة ممتدة ومستعارة من السجل الطبي، قدمها فاليري جيسكار ديستان في خطاب ألقاه في Verdun-sur-le- Doubs، بتاريخ 27 يناير 1978، عند اقتراب الانتخابات التشريعية. يحاول رئيس الجمهورية أن يوقف الغضب الناتج عن الأزمة الاقتصادية:
“أنا أفهم جيدا أن بعضا منكم سيحاول التصويت ضد الأزمة. أنتم الذين تعملون عملا شاقا، أنتم الذين تخافون من أن أبناءكم لا يجدون عملا بسهولة، ومن أجلهم نشرح أننا سنجد حلا لكل شيء إذا ما اكتفيتم بتغيير أولئك الذين يحكمون، أنا أفهمكم، وهي الحقيقة، عندما تحاولون أن تصوتوا ضد الأزمة! ومن جهة أخرى، لو كانت الأزمة بسيطة، ولو استطعنا أن نتخلص منها بواسطة التصويت، فلماذا لا نفعل ذلك؟
“للأسف، فليس أكثر فاعلية أن نصوت ضد الأزمة، مثلما نصوت ضد المرض. الأزمة تستهزئ بأوراق التصويت. الأزمة تشبه الوباء. إنها تأتينا من الخارج. يجب اختيار الطبيب، إذا أردنا معالجتها. وإذا فكرنا في التخلص منها بواسطة السهولة، فإن الاقتصاد سينتقم، وسينتقم منكم! أنظروا أين نحن: في شهر ديسمبر، وهو الشهر الأخير المعروف: تجارة كاسدة، وارتفاع في الأسعار وصل إلى 0.3% ، وتراجع في البطالة في الوقت الذي يعلنون لكم فيه العكس بكل صخب.”
وإذا فهمنا من ذلك أن “المرض” يأتي من الخارج، فإن الاستعارة الطبية تبحث عن منع أن نسند مسؤولية الأزمة الاقتصادية إلى الحكومة. ويمكننا مع ذلك أن نرد بأن ثمة أمراض ناتجة عن إهمال المريض.
إن هذه الصورة تقترح كذلك أنه يوجد علاج، مثل ما يوجد بالنسبة لمعظم الأمراض، ويوجد طبيب مسؤول عن هذا العلاج، هو جيسكار ديستان نفسه، مثل ما تحاول النتائج المحصلة عليها أن تكشف عن ذلك.
ج) فرانسوا ميتيران
إن استعارات فرانسوا ميتيران مستقاة قبل كل شيء من التاريخ والأدب. لقد أحصاها دومينيك لابِّي[5] وصنفها إلى عدة موضوعات:
1/ السلطة والملكية:
يتحدث ميتران عن “بارونات” الديجولية، ويقارن دوجول بلويس الرابع عشر، وجيسكار بلويس-فيليب: “أنا سأرى جيدا بارون البطالة، وماركيز اللامساواة، وكُونْتْ ارتفاع الأسعار، ودُوقْ التقنوقراطية، وأمير الخطابات، وملك التخدير.”
2/ الصور البوليسية:
إنه يتَّهم الديجولية بأنها دخلت الحكم “بواسطة الكسر في الدولة”، ويتهم انتخابات 1968 بأنها كانت “هجوما انتخابيا”، ويتهم جيسكار بوضع “الأقفال” في كل مكان.
3/ صور الفروسية:
“المسك بلجام” الحزب الاشتراكي، والسلطة، واتحاد اليسار، و”الضرب بالسوط”، و”حث الدَّابة”، الخ. ويتكلم عن ديجول في يونيو 1940، بوصفه “الرجل الذي يرتمي بين الحتمية، ويمسك بها من المنخر، ويجبرها على تغيير الطريق، ويحدث بحدسه وإرادته سيرا جديدا”.[6]
4/ الاستعارات الطبية:
“سرطان البطالة”، إن الباطرونا والسلطة تنظران إلى البطالة مثلما ينظر الطبيب إلى الحُمَّى التي تُعَدُّ رد فعل صحي للجسم”.
5/ الاستعارات الدينية، وهي كثيرة جدا. يقول عن المزارعين: “النعيم لهؤلاء الأثرياء، فلهم الأراضي الحرة! والشقاء للشباب المرغمين على الاستدانة.” إن فعل جَسَّدَ هو الفعل المفضل لديه: “أنا أجسد” اليسار الموحد، والطموحات الشعبية، والاشتراكية، الخ… ويوبِّخُ “سيادة المال”، ويقول عن جيسكار ديستان إنه: “يسمح لنفسه أن يكون أكبر مُحَقِّق، ويسخر من الديجولية: “لم يبق من دِينِهِ القديم سوى الاحتفال”، ويحتج ضد “دكاترة العقيدة الاشتراكية”: “الاشتراكية ليس لها إله ولكنها تنص على حقائق كثيرة ظاهرة، وفي كل كنيسة خاصة، يسهر قساوسة، ويحكمون، ويعاقبون.” وفي النهاية، يكون التسيير الشيوعي”بدون روح”: ويصب “اللعنات” على الحزب الاشتراكي.
[1] Dominique Labbé, François Mitterrand. Essais sur Le discours, Paris, La pensée sauvage, 1983, p.113.
[2] Les exemples qui suivent sont tirés de l’ouvrage de Dominique Labbé, op.cit., p.115.
[3] Nous nous inspirons ici de l’article de Dominique Labbé, ” Les métaphores du général De Gaulles“, paru dans la revue Mots, n° 43 de juin 1995, p.51-61.
[4] Mémoire de guerre, t.2, p. 353-357, 364-366.
[5] Dominique Labbé, François Mittérand. Essai sur le discours, Paris, La Pensée sauvage, 1983, p. 109-145.
د.عبد الواحد التهامي العلمي