صور بلاغية أخرى
فيما يأتي الصور البلاغية الأكثر ورودا في الخطابات السياسية المعاصرة. وسنكتفي بذكر بعض الأمثلة من دون الرجوع إلى التعريف وإلى خصائص كل صورة بلاغية، التي سبق لنا دراستها في الفصل السابع.
التجسيد والتشخيص La personnification et la prosopopée
يستحضر الخطاب السياسي غالبا كيانات مجردة، التي لا تكون دائما مقروءة ولا معبرة جدا. ولكي يجعلها الخطيب حية، ومحسوسة، وعاطفية، يشخصها ويضعها في المشهد: إن الجمهورية تنادينا، والأرض لا تكذب، والحرية تقود خطانا… فهذا التشخيص يمر غالبا عبر الكناية: يختزل التنظيم في ناطقه الرسمي، ويختزل الدولة في رئيسها، والمدينة في عمدتها.
أمثلة مأخوذة من الجنيرال ديجول:
-التجسيد:
في خطابه الذي بُثَّ بالراديو والتلفزيون بتاريخ 20 ديسمبر 1960 حيث أعلن فيه الاستفتاء حول الجزائر: “في وسط عالَم مضطرب، ترى فرنسا أنها تضع نفسها في خضم مشاكل كبرى التي تعد أكبر امتحان لها. ولن تكون فرنسا، إذا لم تكن غير ذلك. يجب عليها أن تتزوج زمنها، وأن تتكيف مع الظروف المليئة بالآمال ولكنها صادمة والتي تعيد تشكيل الكون.”
التشخيص:
في خطاب بايُّو Bayeux، بتاريخ 16 يونيو 1946، “سأل إغريقيون قديما الحكيم سولون solon: “ما هو أحسن دستور؟” أجاب: “قولوا لي، أولا، بالنسبة لأي شعب وبالنسبة لأي حقبة؟”
غالبا ما يتناغم التشخيص والتجسيد:
-جورج كليمانصو في منصة مجلس النواب، بتاريخ 8 مارس 1918، عندما انبعث الأمل في النصر من جديد: “لكن الآن، إنه شيء ضخم بالنسبة إلى البلد أن يستطيـع التفكير ورفع الرأس، وأن ينظر إلى الأصدقاء والأعداء، عينا في عين، ويقول في نفسه: أنا ابن تاريخ عريق في القدم، والذي سيبقى مستمرا. شعبي قد كتب، وشعبي قد فَكَّرَ، وشعبي قد عمل؛ فما كتبه، وما فكَّرَ فيه، وما عمله…سيكتبه أحفادنا، وسيفكِّرون فيه، وسينجزونه.”
في يناير 1960، أصبحت الجزائر في حالة ثورة. وَتَدَخَّلَ ديجول في التلفزيون: “وأخيرا، أخاطب فرنسا. وإذن! يابلدي العزيز والعريق، ها نحن إذن معا، ومرَّة أخرى، في مواجهة امتحان صعب.”
2.التلطيف L’euphérisme
وهو متداول في السياسة، سواء تعلق بالخصم الذي يسمح بمهاجمته بحصافة ، أو تعلق الأمر بالجمهور، عندما تذكر حقائق مؤلمة أو رهيفة. وعلى هذا النحو، يستخدم الخِطاب السياسي مرادفات أو تعبيرات كنائية لأجل تلطيف الواقع المذكور بمنحه طابعا مجردا: فيصبح العاطلون مطالبين بالعمل؛ والقنبلة الذرية، القوة الرَّادعة؛ والغزو، المساعدة المقدمة لبلد شقيق.
الوجوه البلاغية بواسطة التضاد Les figures par opposition
إن الوجوه البلاغية بواسطة التضاد كثيرة الوقوع بسبب الطابع الخصامي للبلاغة السياسية.
1/الطباق/ التضاد/ التقابل L’antithèse
والأمثلة على هذا الوجه البلاغي نستقيها من خطاب فرانسوا ميتران:
في منصة التجمع الوطني: “إذا لاحظت على مقاعد الأغلبية بعض ديجوليي الأشراف، فأنا أرى فيها غيرهم كثيرين ممَّن ليسوا سوى ديجوليين وضيعين.”
بعد ماي 1968: “أنا الآن الرجل المذموم أكثر في فرنسا، وهذا ما يمنحني قليلا من الحظ في أن أصبح ذات يوم الرجل المحبوب أكثر.”
كانت فرنسا في حاجة إلى سلطة مركزية قوية لتصنع نفسها. إنها في حاجة إلى سلطات غير مركزية حتى لا تندثر.”
“لكي نحكم جيدا، يجب أن نحكم أقل.
2/الارتداد والانعكاس La réversion
والأمثلة على ذلك:
– يقول ميتران: “اليمين له مصالح، وقليل من الأفكار، وله الأفكار في مصالحه.”
– يقال عن الجمهورية الثالثة إنها كانت: “جمهورية راديكالية باعتدال، ومعتدلة راديكاليا.”
4. صور الصوت، والتكرار، والتفخيم
1/ الجناسLa paronomase
والأمثلة على هذا نجدها عند ميتران:
-يقول عن جيسكار ديستان: “يهوى أن يتوسم il adore prédire ، ويكره أن يتنبأ prévoir”
– “اليسار يقدم برامج programmes، واليمين يقدم وعودا promesses.”
2/ الاشتقاق la dérivation
مثال ذلك:
لكي يشرح تحول رأيه حول الجمهورية الخامسة، قال ميتيران إنه في سنة 1958، كان قد صوَّت بـ”لا” “ضد السياق contexteأكثر مما صوت ضد النص texte” في الاستفتاء الدستوري.
3/ التوكيد اللفظي L’épanalepse
والأمثلة على ذلك:
غداة محاولة انقلاب الجِنِرالات في الجزائر، بتاريخ 23 أبريل 1961، تدخل ديجول في التلفزيون بأبهة: “هاهي الدولة منهارة (…) ومن قبل من؟ واأسفاه! واأسفاه! من قبل أشخاص، كان من الواجب، ومن الشرف، ومن الحق أن يكونوا في الخدمة ويقدموا الطاعة”، صائحا لأجل الدلالة بقوة على فداحة الجريمة التي ارتكبوها.
-ويقول ميتران عن الجمهورية المنتهية: ” إن خوفه كان يخيفه.”
4/ التكرار L’anaphore
والأمثلة على ذلك:
قال ديجول في نداء 18 من شهر يونيو: “هذه الحرب ليست محدودة بالحدود الشقية لبلادنا. هذه الحرب لم تُقطع بمعركة فرنسا. هذه الحرب هي حرب عالمية.”
-وفي ندائه المتلفز لأجل الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية لسنة 1965، يبدأ فرانسوا ميتران جُمَلَهُ عدة مرات بـ :”لا! هذا ليس صحيحا، لا يمكن أن تختاروا الجمهورية الرابعة والجمهورية الخامسة، والفوضى، والاستقرار، والنظام الحالي الذي هو نظام الأحزاب، الخ…ويكرر كذلك مرارا لفظ “النفاق” في مرافعته ضد قانون سنة 1980 المسمى “الأمن والحرية”: “النفاق في كل مكان. النفاق في المثول أمام القضاء، نفاق اختفاء الجريمة الفظيعة، نفاق …نفاق…”
5/ التكرار البلاغي L’épanode
ومثاله في خطاب ديجول الذي ألقاه بعد محاولة انقلاب الجنرالات في 23 أبريل 1961: ” ها هي الدولة مهانة، والأمة متحداة، وقوتنا مهزوزة، وهيبتنا متدنية، ومكانتنا ودورنا في أفريقيا مشبوهان .”
6/ التراجع La régression
ومثال ذلك: لقد قرر الشعب الفرنسي (…) أن يستجيب لشرطين من دونهما لا نفعل أي شيء عظيم، وهما النظام والحماس. النظام الجمهوري تحت السلطة الوحيدة الصالحة، وهي سلطة الدولة؛ والحماس المُرَكَّز الذي يتيح بشرعية وبأخوة تأسيس صرح التجديد.”
7/ التَّدَرُّج La gradation
وهذا مثال قدَّمه كليمانصو: “أنا أخطأتُ، هذا ممكن؛ وقد يكون محتملا؛ وقد يكون مؤكدا.”
د.عب الواحد التهامي العلمي