تأسيس الوقائع
برهان الوقائع
ما هي الوقائع التي يجب إثباتها؟ يجب إثبات جميع الوقائع ذات الصلة التي يعتمد عليها مجرى المحاكمة والتي لا تكون مشهورة ولا غير قابلة للجدل. ومع ذلك فإن بعض الوقائع لا يمكن اعتبارها دليلا. ونقصد بها، طبعا، الوقائع المشمولة بتعليمات رسمية، تلك التي يكون موضوعها التشهير، وذلك لحماية سمعة الأشخاص العاديين، والوقائع التي تخالفها قرينة شرعية قاطعة، كسلطة الشيء الذي فُصل فيه. هذه الاستثناءات تنتصر للمصلحة الاجتماعية على تأسيس الوقائع، فليست الحقيقة، دائما، هي ما يهم في العدالة.
إن مسؤولية الإتيان بالدليل تتوقف على المــُدَّعِي، وذلك بالاستناد إلى منطق قرينة البراءة التي تحمي الأشخاص ضد الافتراء والشطط في استعمال السلطة([1]).
إن درجة تقدير القاضي تجاه الأدلة تتنوع حسب خطورة الجُرم. ولكي يقول إن الوقائع ثابتة، سيكتفي بأدلة قليلة جدا في حالة رُكون غير قانوني لسيارة، وسيحتاج لأدلة كثيرة في حالة اتهام بجريمة قتل.
تأثير التكييف القانوني على تأسيس الوقائع
إن الحديث عن “الوقائع” يفترض وجود أحداث موضوعية يتفق عليها الجميع. هذه حالة نادرة، طبعا. إن الواقع معرض لتأويلات تتنوع حسب وجهة نظر كل فرد؛ كثيرة التنوع إلى حد الميل للاشتراك في (الوجودية السلطوية النيتشوية) perspectivisme nietzschéen نسبة إلى مذهب نيتشه الفلسفي الذي طبقا له لا توجد وقائع وإنما هي فقط مجرد تأويلات.
إن تعريف الوقائع يعمل دائما في سياق قانوني. وهذا التعريف لا يكون، قط، من دون اعتبار القوانين، والعكس صحيح. إن أي محام أو قاض، كلاهما يفكر دائما في العمل المشترك وفي التعاون بين الطرفين، وإن مرافعات الدفاع تكون موجهة: وتسرد الوقائع بطريقة أقل إدانة للمتهم. أما بالنسبة إلى وكيل النيابة، ممثلا عن المجتمع فتقديره لها يكون من زاوية المصلحة العامة. هؤلاء وأولئك، يقومون بعملية فرز للوقائع، فيبرزون بعضها بوضوح ويمررون غيرها في صمت، تماشيا مع التوصيف القانوني الذي يرغبون في اتباعه.
تطبيـــــــــــــــــــق الـــــــــــــــــــــــــــــقواعد وتأويــــــــــــل القـــــــــــــــانون:
توفر القاضي على كامل حرية التصرف في الحكم والتقدير:
خلافا لما يثبته المذهب الوضعي القانوني، فإن القاضي يتوفر على سلطة حكم كبيرة في مادة التوصيف القانوني للوقائع. وهناك أسباب كثيرة لذلك: فالقانون ليس دائما واضحا، ويمكن أن يكون ناقصا، ويكون أحيانا متناقضا؛ وعلاوة على ذلك، يحصل أن كثيرا من القوانين المتعلقة بالحالة نفسها تطبق فوريا، وتمنح على هذا النحو عدة حلول تناوبية.
غالبا ما تشتمل النصوص التشريعية على ألفاظ فضفاضة: كالعدالة، والأخلاق الفاضلة، والمصلحة العامة، والخطإ، والاستعجال، والمهلة المعقولة، إلخ…إن توصيف الوقائع يتعلق إذن بتوضيح المفهوم. وعلى هذا النحو ينص الفصل القديم رقم 182 من القانون الجنائي الألماني على عقوبة الحبس بسنة كاملة: لـ”كل من حاول إغراء فتاة قاصر أقل من 16 سنة لأجل دفعها إلى ممارسة الجنس معه”[2] . وطبقا للتعريف الذي أعطي للفظ “قاصر”، فإن فعل الشخص المــُجَرَّم قد وُصِفَ بالإغراء سواء أكان مذنبا أم لا.
عندما تحضر فراغات في القانون، يعالجها القاضي باللجوء إلى الأعمال التي هيأت هذا القانون، وإلى الأحكام القضائية السابقة، أو باستعانته كذلك بالمبادئ العامة للقانون.
عندما يكون القانون متعارضا، فإننا نتكلم عن التناقض. يوجد التناقض عندما يمكن استخراج نتائج قانونية غير ملائمة من النصوص أو القوانين السابقة التي تطبق كلها على الحالة المعنية. وهاهما مثالان على ذلك:
_ في خصومة تواجه بين طرفين حول صلاحية بند تعاقدي، سيلح المحامي الذي يدافع عن البند على مبدإ استقلالية الإرادة وعلى من في نظره يكون الاتفاق قانون الطرفين. أما بالنسبة إلى محامي الطرف الخصم، فسيدافع على أن البند مخالف لمبدإ احترام النظام العام.[3]
_ توبع معالج بتهمة ممارسة مهنة الطب بصفة غير قانونية. لكنه عالج وأشفى بنجاح مرضى كانوا مهددين بالموت، والذين عجز الأطباء عن معالجتهم. فهل كان عليه ألا يقدم مساعدته لشخص في خطر، علما أن هذا الامتناع يعد جنحة جنائية؟
[1]Les présomptions légales dispensent de toutes preuves ceux à qui elles profitent( art,1352 du Code Civil) : elles imposent la charge de la preuve à celui qui voudrait les renverser, quand cette preuve contraire est permise. Elles sont souvent motivées par des préoccupations de sécurité juridique.
1- إن القرائن القانونية تعفي المستفيدين منها من كل الدلائل/الحجج ( الفصل: 1352 من المسطرة المدنية): وتضع عبء الإثبات على الذي يريد الإطاحة بهم، حيث يمكن الإتيان بدليل/ حجة مضاد(ة). وغالبا ما تكون دوافعها تتعلق بالمخاوف بشأن الحماية القانونية.
[2] Cité par ChaÏm Perelman, Logique juridique. Nouvelle rhétorique. Paris? Dalloz, 1979;p.35.
[3] Cité par ChaÏm Perelman, Le champs de l’argumentation, Presses universitares de Bruxelles; 1970,p. 144-145.
د.عبد الواحد التهامي العلمي