تقديم المترجم.
يعد أوليفيي ريبول أحد البلاغيين الفرنسيين المعاصرين الذي أغنوا البلاغة الجديدة؛ ويعد كتابه “مدخل إلى البلاغة” مرجعا أساسا في هذا الحقل، وعلى الرغم من اعتماده على كتاب “مصنف في الحجاج” لحاييم بيرلمان وأولبرخت تيتيكا في تصنيفهما وتحديدهما للتقنيات الحجاجية، إلا أنه اعتمد بالإضافة إلى ذلك البلاغة القديمة (اليونانية واللاتينية) في تصورها للنص الإقناعي، مزاوجا بين تاريخ البلاغة والتحليل النظري لمفاهيمها والتحليل الإجرائي لأنواع وأنماط من الخطابات الصحافية والفلسفية والتربوية والهزلية. ولعل أهم إشكال بلاغي شغل أوليفي ريبول هو اهتمامه بالبحث في علاقة الحجاج بالأسلوب؛ فقد لاحظ أن بيرلمان لم يول أهمية للوجوه البلاغية على الرغم من تأكيده على وظيفتها الحجاجية، ولأجل ذلك حرص في معظم دراساته على إثبات وتفسير حجاجية تلك الوجوه. وعلى هذا النحو أسهم –مع غيره من البلاغيين- في إعادة العلاقة التي تنبه لها أرسطو قديما بين ا”لإيجاد” و”العبارة”، تلك العلاقة التي انفصمت عروتها في تحولات البلاغة تاريخيا من اهتمامها بالخطابات العمومية إلى الخطابات الأدبية.
في تحليله للنص الصحافي في النص المترجم هنا، عمد ريبول إلى تطبيق خطوات منهجية تمثلت في سعيه أولا إلى تحديد الغرض البلاغي للنص[2]؛ والمقصود بالغرض البلاغي الرسالة العملية التي ينطوي عليها، وهي رسالة يوصلها المتكلم البليغ في صيغة حجاجية؛ قد تتمثل في السخرية أو المبالغة أو حجة السلطة أو أي وجه بلاغي قد يهيمن على النص. فالغرض البلاغي لا يمكن الوقوف عليه إلا من خلال تحليل والتقاط التقنيات الحجاجية التي يستخدمها المتكلم في خطابه، وهي المرحلة الثانية (أو الأولى) من مراحل تحليل النص. أما المرحلة الأخيرة فهي نقد الخطاب؛ أي حرص المحلل على اكتشاف ثغرات التواصل والحجاج؛ فالبلاغة ليست مجرد توصيف للنص ولكنها أيضا نقد له لأجل بناء تواصل حجاجي سليم خال من العنف والتضليل.
النص المترجم.
1- استجواب فرانسواز دولطو، ليبيراسيون، 5 فبراير 1987.
لقد ردت المحللة النفسية فرانسواز دولطو، الاختصاصية في الطفولة بانفعال شديد ضد الحركة الاحتجاجية للمعلمين، مؤكدة أنها حركة “غير مفهومة”. لقد أعربت وهي تشرف من نافذتها على الساحة الفسيحة لمدرسة الصم والبكم بمدينة باريس، أنها “مندهشة من كل هذه الضجة”.
ليبيراسيون.- كيف تفسرين رفض المعلمين للمشروع الوزاري؟
فرانسواز دولطو- أنا لا أفهم، إنها عقلية وأجواء ماي 1968 معكوسة. في سنة 68، كان ذلك جيدا، ولكن الآن، يحصل الرفض، ليس فقط من السلطة كلها، ولكن من التركيز البسيط على المهام داخل الفريق. أنا لا أفهم. إذ من الواجب بالنسبة إلى الشخص الغريب عن المؤسسة أن يوجد مَنْ يمثل المدرسة، ويتحمل كل المضايقات والإذايات التي تأتي من الخارج. لماذا يتفاهم المعلمون جيدا اليوم داخل الفريق التربوي ، ولا يسيرون في نفس الخط حتى مع زميلهم في الفريق الذي عُيِّنَ معلما- مديرا، وهو منهم؟ وفي الأخير، ليس للمدير سلطة لتقويم زملائه في العمل لأنه ليس رئيسا، ولكنه مسؤول فقط.
ليبيراسيون.- كيف تحللين، وأنت عالمة التحليل النفسي، سلوك المعلمين في هذه القضية؟
ف. د.-إنها قضية سخيفة وصبيانية. هؤلاء موظفون يريدون التشبّه بالليبراليين، ويرفضون أي سلطة أعلى منهم. إنها مسألة مثالية على ما يبدو، ولكنها غير قابلة للتطبيق. يقولون: “أنا، أنا، أنا…”. إنها البلاهة. ماذا يخافون؟ بل ممَّ يخافون؟ فالمدير موجود هنا لأنه يمثل المدرسة، وهذا الأمر لا ينتقص من سلطة المعلم في القسم. إن الشخص الذي تكلّم في التلفزيون حول هذه المسألة، لا أتذكّر أبدا من هو، أعتقد أنه الوزير. لقد تكلّم كثيرا في هذا الشأن. وعلى هذا، فإن المعلمين يريدون أن تتم مكافأتهم ويتم تقويم عملهم من قبل شخص ليست له أي سلطة عليهم، والتي لا تتجسد إلا في المفتش الذي يحضر مرة واحدة في السنة.
ليبيراسيون.- ما مصلحة الطفل في كل هذا؟
ف.د.- يلزمه دائما وضعية مثلّثية أدنى. فالطفل في بيته له “بابا” و”ماما” يتخاصمان ويتشاجران، وسيكون أحدهما هو الرابح، وهذه حالة واضحة. إنه من الأفضل أن يجد الطفل ملاذا له في المدرسة. والأمر نفسه بالنسبة إلى المعلم ، الذي لا يثق في نفسه دائما. وعلى المدير أن يعالج الأوضاع ويرتب الأشياء. ليس من المعقول دائما أن نواجه الطفل بقرارات الفريق: إنه التقسيم. وكأنما، يخضع الطفل في بيته دائما، لما يتم الاتفاق عليه مع العمات والأعمام.
ليبيراسيون.- هل من الواجب أن نرفع من أجر مدير المدرسة؟
ف.د.- بالطبع، يستحق أن ينال أجرا عاليا لأنه ملزم بالعمل على تحقيق الزيارات للمدرسة، وملاقاة عمدة المدينة، والمكوث داخل المؤسسة إلى وقت متأخر، والتعرف على الآباء، جميع الآباء.
ليبيراسيون.- هل هذا المشروع موجه سياسيا؟
ف.د.- لا يوجد أحد لا من اليمين ولا من اليسار، إلا من يعاند، ومع التسيير المالي الذاتي، أصبح الكل متطفلا. إنها بكل تحديد مسألة النظام داخل المؤسسة. وأنا لا أرى ما دخل السياسة هنا، أنا أرى هذا شيئا تافها. إن الأمر يبدو أيضا ضد الديموقراطية حين تتم معارضة هذا المشروع. وهذا يعني أن نشرّع الأبواب على الفوضى.
2-التحليل البلاغي للنص الصحافي.
تقديم:
تحرك الرأي العام الفرنسي، في سنة 1987 ، بسبب قرار وزير التربية الوطنية الذي ينص على خلق منصب “المعلمين-المديرين” في المدارس الابتدائية. وقد أحدث هذا القرار معارضة عامة من النقابات ومن كل الأحزاب السياسية اليسارية.
فالمؤلفة أو الشخصية المحاوَرَة هي محللة نفسية للأطفال، ذات الصيت الذائع. تنتسب إلى اليسار، ومع ذلك، فهي هنا تقاومه. همها الأكبر خاصة في الفقرة الأولى وفي الفقرة الخامسة، هو أن تبرر موقفها من ذلك، وأن تزيح على الأقل هذا التناقض الظاهر.
يمكن تجنيس هذا النص ضمن جنس الاستجواب الذي يتضمَّن أسلوبا مألوفا عاديا وحجاجا شفويا ينزع إلى الارتجال.
إن ما يلفت النظر قبل كل شيء هو هذا الخليط من الألفاظ التقنية مثل “التبئير” والألفاظ العامية مثل “emmerdement”[3]. ومع ذلك فإن جنس الخطاب يفرض عليها استبدال التعابير العامية بالكلمات الفصيحة. وهكذا تستعمل في الفقرة الثانية التعبير الآتي: ” يقولون: أنا، أنا، أنا ” بدل أن تقول: “إنهم يتصفون بالنرجسية”. وفي الفقرة الرابعة تقول: “في بيته يوجد “بابا” و “ماما” للتعبير عن ” المثلث الأوديبي”.
وفي الختام، يبدو أن الشخصية المحاوَرَة، كما تقتضي طبيعة الاستجواب، لا تتحكم في تنظيم النص وترتيبه، ما دام المحاوِر هو من ينظم الأسئلة. وسنتابع هنا “الحجاج” خطوة خطوة بحثا عن الغرض البلاغي الأساس لهذا النص.
الفقرة الأولى
يتمثل منطلق الحجاج في حجة التعارض: “أنا لا أفهم”؛ وقد تعزَّزَّ عدم الفهم بواسطة ألفاظ التقديم: “غير مفهوم” و “كل هذه الضجة”… فلندرك جيدا أنه لا يمكن فهم أي شيء، وهي وسيلة يراد بها القول: إن تمرد المعلمين عبثي.
وستعمل على إزاحة هذا التعارض بواسطة حجة الفصل : إنها روح حركة 8 ماي 68 في صورة مقلوبة. حركة ماي 68 كانت جيدة.
وقد أوضحت هذا الزوج على النحو الآتي: ما يرفضه المعلمون ، ليس السلطة، كما وقع في ماي 68، وإنما يرفضون تقسيم العمل، وتعيين المهام والتركيز على الأدوار. ومن خلال حجة الفصل، تثبت أن هذا التركيز على الأدوار ضروري.
وأخيرا، تضمنت الفقرة الأولى حجة افتراض الاعتراض بشكل مسبقune prolepse[4] “مهما يكن….”، وهي أسلوب يقوم على التقديم المسبق لحجة الخصم المضادة فيعمل على تقويضها بواسطة حجة التمييز DISTINGUIO)) بين “الرئاسة” و”المسؤولية”.
[1] Olivier Reboul , Introduction à la rhétorique, Théorie et pratique, PUF, 1991, pp : 206-211 .
[2] لم يمثل الغرض البلاغي دائما الخطوة الأولى في تحليل ريبول للنص؛ فقد ينطلق من التقنيات الحجاجية ثم يقف بعد ذلك على الغرض البلاغي كما حدث في تحليله لهذا النص. (المترجم)
[3] لفظ من الألفاظ العامية في اللغة الفرنسية يحيل إلى البذاءة ، وهو يفيد هنا كل ما يتعلق ب “المضايقات”. (المترجم)
[4] (المترجم) وهو وجه بلاغي يقوم على أن المتكلم يقدم على نحو مسبق حجة الخصم لدحضها.
د. عبد الواحد التهامي العلمي