4-محمد علي الرباوي :
تعتبر دراسة د. محمد علي الرباوي لقضية التناص في الشعر العربي المعاصر بالمغرب([i])-وفي حدود علمي- أطول وأوسع دراسة تنجز انطلاقا من مفهوم التناص رغم أن الرسالة لم تخصص له وحده، ذلك أنه جمع في هذه الرسالة بين مستويين من مستويات الصياغة الشعرية وهما: الإيقاع والتناص، وشغل منها التناص ما يقرب من أربعمائة صفحة مقابل حوالي مائتي صفحة للإيقاع. وكان الجانب النظري من التناص في غاية الإيجاز بحيث لم يتجاوز ثلاث عشرة صفحة، وضح فيه مفهوم التناص وكيفية ارتباطه بالثقافة.
لتوضيح مفهوم التناص يعطي د. محمد علي الرباوي مثالا على ذلك؛ وهو أن كل باحث يذيل بحثه بمجموعة من المصادر والمراجع للدلالة على اعتماده على أفكار الغير، أي على التناص، فإذا لم يفعل اتُّهم بالسرقة. ثم يورد قولا لصبري حافظ قال فيه إنه لما قرأ كتاب الشعر لأرسطو أول مرة اكتشف أنه يعرف كل ما به من أفكار رئيسَة، فَحَلَّ اللغز بظاهرة التناص، ذلك أن ما قرأه من كتب نقدية إنما كانت تستمد المفاهيم من هذا الكتاب. فهذا الذي يحدث في مجال الدراسات –يقول د. الرباوي- هو الذي يحدث في النصوص الأدبية، واستشهد بقول باختين: «عند اقتحام الدراسات الأدبية الضخمة التي كُرِّست لدوستويفسكي، يتكون لدينا انطباع أننا لا نواجه مؤلفا فنانا صاحب الروايات والقصص القصيرة بمفرده، بل نواجه سلسلة من الفلاسفة، وعددا كبيرا من المفكرين»([ii])، ليخلص إلى أن ربط الإبداع بالثقافة مسالة عرفها تراثنا النقدي واتخذ في ذلك مسارين:
- المسار الأول: ويتجلى في حث الشعراء على حفظ ورواية أشعار العرب وأخبارهم وأيامهم، ومعرفة النحو واللغة والحساب والفلك وأمور الدين وغير ذلك من مظاهر الثقافة التي تتسع وتتعدد بتطور المجتمع الإسلامي وانفتاحه منذ عهد الرسولe الذي كان ينصح حسان بن ثابت بالاستعانة في شعره، بأبي بكر رضي الله عنهما، ليحدثه عن أنساب قريش، مرورا بالأصمعي وابن رشيق وأبي تمام، وصولا إلى العصر الحالي([iii]) الذي كادت القصيدة فيه تعتمد على العقل اعتمادا كليا([iv]). فأبو تمام مثلا لم يبلع ما بلغه، كما يقول الباحث، إلا بكثرة تفقده للكتب وحفظه لإنتاج الآخرين([v]).
- المسار الثاني يتجلى فيما خصصته كتب البلاغة في باب البديع من مصطلحات «أشار إلى بعضها صبري حافظ وهي الاقتباس والاكتفاء والاحتكاك، والتمثيل، وائتلاف المعنى مع المعنى، والتلميح، والعنوان، والتوليد، والنوادر، والإبداع؛ ويقال التضمين، والمعارضة، والحذف، والاستخدام، والمواربة، والتورية، والإشارة، والاستتباع والإدماج، والتتبع. وأكثر هذه المصطلحات تدخل تحت باب كبير يسمى بالسرقات الأدبية، وهذه التسمية تدل على الطابع المعياري لهذا المسار»([vi]). قلت؛ ولا تكاد تدخل –في نظري- أي من هذه المصطلحات تحت باب السرقة، فقد مرت بنا مصطلحاتها، كما أن المعاني التي ذكرها د. صبري حافظ لهذه المصطلحات، معتمدا في ذلك “الوسيلة الأدبية“، لا تدل على “السرقة”، لأن الشاعر فيها يستعين بما هو معروف متداول من أقوال وأفعال غيره؛ بحيث يضمنه أو يقتبسه أو يلمح إليه أو يوري عنه…الخ. ومن هنا فإن ما ذكره الباحث هنا لا يتصف بالمعيارية، وكان عليه أن يرجع في “السرقة” إلى مظانها، لا في كتب البلاغة فقط، حيث أصبحت السرقة لونا بديعيا خاليا من أي معيارية في كثير من الأحيان، ولكن في كتب النقد أو النصوص النقدية أيضا، حيث تأرجحت “السرقة” بين المعيارية والوصفية وكانت الممهد في ذلك لكتب البلاغة.
بعد القدماء، يأتي دور المعاصرين من العرب، فيقدم الباحث تعريف د. محمد مفتاح للتناص بأنه «فسيفساء من نصوص أُدْمِجت فيه بتقنيات مختلفة، فهو محول للنصوص بتمطيطها أو تكثيفها بقصد مناقضة خصائصها ودلالتها أو بهدف تعضيدها»([vii])، ملاحظا أن تعريف “سيزا قاسم” يكاد يكون هو نفسه تعريف محمد مفتاح؛ «حيث يقول التعريف: ونعني بالتناص العلاقة التي بين النصوص المختلفة»([viii])، ثم ينتقل الباحث بسرعة إلى محمد بنيس ود. نعيم اليافي قائلا: «لكن إذا كان الناقدان قد استعملا مصطلح التناص فثمة من آثر استعمال (النص الغائب) كمحمد بنيس، على أن د. نعيم اليافي فضل مصطلحا فنيا هو الصورة الإشارية [وهي عنده](من وسائل الخلق والتعبير يستعملها الشاعر في وضع خاص كأن يورد سطرا أو مقطعا لشاعر سابق بين ثنايا كلامه أو يستخدم لغته وإيقاعه)»([ix]).
أما الغربيون فقد تفننوا –حسب تعبير الباحث- في بحث هذه الظاهرة؛ فهذا «”بن جونسون” يقول: “إن أولى الضروريات التي تجب على الشاعر أن يستفيد بكتابات غيره”، و”ت. س. إليوت” يقول: “إن عقل الشاعر يجب أن يكون كالمغنطيس يجذب إليه الأفكار والصور والعبارات مما يقرأ»([x]). وتلافِياً للتطويل، كما يقول الباحث، لم يتتبع آراء الغربيين واقتصر على “كريستيفا” و”باختين”، فبدأ بكريستيفا، وكان الأولى أن يبدأ بباختين، ساردا جملة من المصطلحات التي استخدمتها في كتابها (نص الرواية)، ثم يشرع في ذكر مفهومها للتناص بعد أن لاحظ بأن كل هذه المصطلحات دالة على التداخل بين النصوص، و بأن مصطلح التزيين لاحظه تراثنا النقدي([xi]).
ثم يستخلص من كل ما سبق، الفروق بين الدراسات القديمة والمعاصرة، فيرى أن الأولى قائمة على المعيارية، والثانيةَ على الوصفية إلا ما كان من دراسة د. محمد بنيس التي لم تنجُ من المعيارية باستخدامها قانون الاجترار كما يشير الباحث.
وإن كان من ميزة لهذه الدراسة فإنها تكمن في التزامها الحياد في وصف الظاهرة، وإن كان التعريف الذي أعطاه الباحث للتناص جعله، في نظري، يدخل في دراسته ما لا ينتمي لهذا الحقل في الأصل؛ فقد رأينا “كريستيفا” تركز في تعريفها للتناص على مفهوم التحويل والخرق، مما يدل على أن النص المستدعى أو المشار إليه عبر كلمة، أو علم، أو غير ذلك، ينبغي أن يكون “خطابا» خاصا([xii])، ذا حمولة عقدية أو رؤية خاصة تجعل تحويله، أو خرقه، أو نفيه، أو تعضيده، أمرا ممكنا؛ ينبغي أن يكون بتعبير “باختين” ذا طابع حواري، وكلمةً تحمل أصواتا متصادمة، لا أن يكون من المادة الخام أو المشترك الذي يفهم منه الناس جميعا نفس الشيء في كل زمان ومكان.
[i] – الشعر العربي المعاصر بالمغرب الشرقي1967-1985، د. محمد علي الرباوي، رسالة نال بها صاحبها دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب بفاس سنة 1987 تحت إشراف د. إبراهيم السولامي.
[ii] – نفسه؛ 259.
[iii] – نفسه؛ 260-262.
[iv] – نفسه؛ 262.
[v] – نفسه؛ 262-263.
[vi] – نفسه؛ 263-264. والمصطلحات ذكرها د. صبري حافظ في “التناص وإشاريات العمل الأدبي”، مجلة “عيون المقالات” ع 2. 1986 ص: 97-100.
[vii]– نفسه؛ 264.
[viii] – نفسه؛ 265. عن فصول مج 4 ع 2 ص 236
[ix] – نفسه؛ 265. تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث، عن نعيم اليافي؛ 354.
[x] – نفسه؛ 266 نقلا عن “الأبعاد النظرية للسرقات وتطبيقاتها في النقد العربي القديم”، د. مصطفى هدارة، فصول مج 6ع1 دجنبر 1985 [ د. ص].
[xi] – نفسه، 267.
[xii] – «الخطاب مجموع خصوصي لتعابير تتجدد بوظائفها الاجتماعية ومشروعها الإيديولوجي» وله معان أو مفاهيم أخرى اكتفينا هنا بما يصلح منها لما نحن فيه، وبإيجاز. – ينظر حول هذا التعريف: معجم المصطلحات الأدبية، د. سعيد علوش؛ 83.
د.المختار حسني