1-في الجزائر؛ الأستاذ إبراهيم رماني (تتمة):
-فعند الحديث عن صلاح عبد الصبور وتضمينه لشعر إليوت ينقل ما يلي «يوظف عبد الصبور في قصيدة (لحن) النص الغائب الإليوتي…فيقول:
لا ولستُ المضحكَ المِمراحَ في قصر الأمير
سأريك العجب في شمس النهار
أنا لا املك ما يملأ كفي طعاما
وبخديك من النعمة تفاح وسُكَّر([1])
ويقول “إليوت” في قصيدة (أغنية حب لألفريد بروفوك):
-كلا لست بالأمير “هاملت”، ولم أخلق لأكون أميرا
-وأحيانا أخرى تكاد تحسبني مضحك الأمير([2])
ويقرن عبد الصبور هذا النص بنص غائب آخر لشكسبير في مسرحية “هاملت” ويربطه بالأميرة “جوليت” التي تقول على لسان جارة العاشق في قصيدة عبد الصبور:
أشرقي يا فتنتي
مولاي !
أشواقي رمت بي
آه لا تقسم على حبي بوجه القمر
ذلك الخداع في كل مساء
يكتسي وجها جديدا »([3])
من السهل إيجاد القرابة أو النسب بين ما أورده الدارس هنا من شواهد وأقوال وبين نفس شواهد دارسين آخرين وتعليقاتهم. ولنأخذ هنا، مثلا، د. علي عشري زايد وتعليقه على نفس الشاهد، حيث يقول: «وقد استلهم عبد الصبور من الموروث الأدبي الأوروبي استلهاما بارعا في قصيدة (لحن) التي وظف فيها موروث أدبيين كبيرين هما “شكسبير” و”إليوت”…يستعير بعض عبارات الحوار الذي دار بين “روميو” و”جوليت”:
أشرقي يا فتنتي
مولاي…الخ.
ثم يمزج بعد ذلك بين التراث الشكسبيري وتراث “إليوت” حيث يستعير بعض أبيات قصيدته (أغنية العاشق ج ألفرد بروفروك” و”والرجال الجوف” ليدمج هذه الأبيات في الحوار الذي يدور بينه وبين الحبيبة، والذي استمد بعض عباراته كما رأينا من “شكسبير”. وهو يستعير من القصيدة الأولى:
جارتي لست أميرا
لا ولست المضحك الممراح في قصر الأمير
ومن الثانية :
إنني خاو ومملوء بقش وغبار
وهو يُحدث، بالطبع، بعض التحوير في النصوص المستعارة لتلائم السياق»([4]). ومن السهل، أيضا أن نجد خيوط القرابة هذه بين ما سبق كلِّه وبين ما قاله “س. موريه” في كتابه “الشعر العربي الحديث” عند حديثه عن نفس الأمثلة، أحجمنا عن إيرادها تجنبا للتطويل([5])، مما يغري بدراسة نوع من التناص له خصوصيته في هذا النمط من الدراسات أيضا ليتبين مدى تحكم بعض الدارسين في مساراتها والكشف عن آليات هذا النوع من “السرقات” التي ما ينفك الإنسان يقترفها ويصر عليها ويصير ما “سرقه أو اجتره” من عندياته رغم كل دعاوى الإبداع والقراءات الجديدة “المتقدمة”.
-وعند حديث الباحث عن محمود درويش وتأثره بإليوت، يقدم تحليلا قيما للظاهرة التناصية من خلال قصيدة الشاعر “الأرض” حين تَبيَّن أوجه الشبه، وأوجه الاختلاف-على الخصوص- بين النص الحاضر والنص الغائب، وإن كان سبقه بعض الباحثين إلى تبين هذا الاختلاف، ومنهم الباحثة اعتدال عثمان في دراستها المطولة لقصيدة “الأرض” حيث يظهر اتفاق الباحثين في أغلب تخريجات أوجه الاختلاف([6]). يقول إبراهيم رماني: «ونجد الأثر الإليوتي لدى كثير من الشعراء العرب. ففي قصيدة (الأرض) لمحمود درويش تستحضر جملة “آذار أقسى الشهور” من المقطع الأول لقصيدة “الأرض اليباب” وتدمج في مناخ التداعي المشبع بالذهول والغموض، فآذار لم يعد شهرا (إليوتيا) وإنما يأخذ عدة دلالات جديدة. فهو على المستوى التاريخي الفلسطيني شهر الانتفاضة الذي يقيم له الفلسطينيون احتفالا يسمى “عيد الأرض” …وهو على المستوى التاريخي الخاص، زمن ميلاد الشاعر…وهو على المستوى الأسطوري زمان لا تاريخي شامل. هو الشهر الذي كانت تقام فيه احتفالات سنوية لشعوب منطقة البحر الأبيض المتوسط جميعها بآلهة الخصب…»([7]).
ونقتطف من دراسة اعتدال عثمان العبارات التالية لبيان بعض وأهم أوجه التشابه بين الباحثين حول نفس الظاهرة لدى محمود درويش:
-«…يلتقي في ذلك الزمن نفسه بشاعر آخر هو “ت. س. إليوت Eliot” فيستحضر نصا شهيرا له هو نص قصيدة “الأرض الخراب”، وبالتحديد مطلع القصيدة April is thecruelles month، لكن درويش يعدل المطلع بقوله: (آذار أقسى الشهور)…»([8]).
-«إن آذار الذي يولد معه الخصب في كل عام يسجل هنا ميلاد طفل فلسطيني اسمه…محمود درويش…»([9])
-«…شهر آذار الشهر الذي يُحتَفَى فيه بعودة الخصب إلى الأرض، ويرتبط بشعائر كانت تجمع منطقة البحر الأبيض كلها، حيث كانت تقام احتفالات سنوية لآلهة الخصب»([10])
-«…شهر آذار…ما يزال الفلسطينيون يقيمون له عيدا يسمى عيد الأرض»([11])
- في الموروث الحضاري العربي، يختار الدارس الوقوف عند ثلاثة عناصر في المتن الشعري العربي؛ وهي القرآن والتصوف والتاريخ. وهو في الحقيقة لا يمت إلى الوقوف بصلة، وإنما هو مرور سريع، إن لم نقل، متسرع؛ ففي القرآن الكريم اكتفى بإيراد مثالين متداولين بين الدارسين وهما:
– الآية 25 من سورة مريم ]وَهُزِّي إِليْكِ بِجِذْعِ النَّخلةِ تُسَاقِطْ عَلَيكِ رُطَباً جَنِيّاَ[، والآية 82 من سورة هود ]فلَمّا جاءَ امْرُنا جَعلنا عاليَها سافلَها وأمْطَرْنَـا عليها حجارةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضود[. الأولى اقتبسها السياب وأدونيس، والثانية اقتبسها صلاح عبد الصبور([12]). أما التصوف فقد اكتفى فيه بذكر أسماء الشعراء وعناوين بعض قصائدهم التي تستدعي هذا العنصر دون أن يمثل بأي مقطع شعري لذلك، ناهيك عن التحليل. واستشهد في التاريخ بمقطع لأدونيس يشير فيه إلى “شعرة معاوية”:
شَعْرةٌ تَقْرَأُ الرّيَاحَ وَتَبْني
مُلْكَها في تَفَجُّرِ البُركان
في زفير الأمواج([13])
و يقول الدارس معلقا: «شعرة معاوية رمز لسياسة الدهاء والحكمة القائمة على الحركة بين الشدة واللين. هل تكون رمزا للحداثة العربية أو الذات الأدونيسية التي تؤسس وجودها في واقع اجتماعي وتاريخي منهار؟ أم هي إيديولوجية السلطة التي تعيش حياتها على جثث الواقع الخراب»([14])
3.الموروث الحضاري الغربي؛ ويقسمه إلى” الثقافة الاشتراكية” و”الميثولوجيا اليونانية” و”الفكر الوجودي” و”التراث المسيحي”، ويلاحظ أن «النص الغائب الأسطوري يأتي بأشكال متفاوتة؛ فالاجترار الملحوظ في نتاج الخمسينات يتحول فيما بعد إلى امتصاص واع…»([15]). ويمثل للاجترار بالإشارة إلى قصيدة “سربروس في بابل” للسياب، وللامتصاص بنقل مقطع من قصيدة “حامل الخرز الملون” له أيضا دون أي تحليل، ثم ينتقل إلى عنصر آخر هو الإنجيل ليشير إلى كثرة “اتكاء “المحدثين عليه؛ «حتى غدا المسيح عند بعضهم رمزا نمطيا»([16])، ويمثل بمقطع شعري لخليل حاوي يستحضر فيه شخصية “لعازر” من قصيدته “لعازر 1962”([17]). ثم ينهي الدراسة معتبرا ما قام به من “تصنيف موضوعي” لأنواع النص الغائب إجراء منهجيا يعين على الدرس والفهم «فهذا النص يحضر بمختلف ضروبه متداخلا…ويخضع لمستويات من الوعي والتشكيل تجعل قراءاته صعبة مثلما هي ضرورية …ونظرا لغياب الاهتمام النقدي بالنص الغائب، و معالجة مشكلاته وضحالة الخلفية المعرفية للجمهور العربي يصبح الغموض الدلالي إشكالا حقيقيا …»([18]) . ونحن نتساءل مع الباحث: هل مساعدة القارئ العربي تكمن في إعادة “اكتشاف” ما سبق للنقاد أن اكتشفوه و قتلوه بحثا ضمن ما كان يعرف بالتأثير ونقد المصادر ووضعه تحت اسم جديد هو “النص الغائب”، أم أن مهمة الدارس هي ارتياد المناطق غير المرتادة بتتبع الحركة الشعرية المتراكمة باستمرار، و بتجديد النظرة إليها وإلى ما قدُم منها على السواء؟ أظن أن الأمر الثاني هو الأوجب على الناقد، ولكنه في نفس الوقت هو الأصعب.
[1] – ديوان صلاح عبد الصبور؛ 1: 65.
[2]– عن: إليوت[سلسلة نوابغ الفكر الغربي]، د. فائق متى 132-133.
[3] – نفسه؛ 56-57.
[4] – “من أصول الحركة الشعرية الجديدة، الناس في بلادي”، د. عشري زايد، مجلة فصول: (الشاعر والكلمة) [خاص بصلاح عبد الصبور] مج: 2 ع: 1 أكتوبر 1981 ص؛ 88-89.
[5] – الشعر العربي الحديث 1800-1970 تطور أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربي، س. موريه. ترجمة وتعليق د. شفيع السيد ود. سعد مصلوح؛ 254-256.
[6] – “النص/ نحو قراءة نقدية إبداعية لأرض محمود درويش”، د. اعتدال عثمان، فصول مج5ع1 (أكتوبر /نوفمبر/ديسمبر(1984 ص؛ 191-210. وقد نشرت الباحثة هذه الدراسة ضمن كتابها (إضاءة النص) الصادر عن دار الحداثة في طبعته الأولى 1988 ص؛ 105-170.
[7] – الوحدة؛ 57.
[8] – فصول؛ 195. ولم يشر “ذ. رماني” إلى استبدال الشاعر “آذار” بأبريل كما فعلت الباحثة هنا، حيث بينت الغرض منه في إطار التناص – نفسه 195-196.
[9] – نفسه؛ 196.
[10] – نفسه؛ 194.
[11] – نفسه.
[12] – الوحدة؛ 57-58.
[13] – نفسه؛ 59- “مرآة لمعاوية”؛ الأعمال الشعرية الكاملة؛ أدونيس 2: 179.
[14] – نفسه.
[15] – نفسه.
[16] – نفسه.
[17] – نفسه.
[18] – نفسه؛ 60.
د.المختار حسني