المبحث الثالث :
إن الوقائع التي استأثرت باهتمام شعراء المتن في قصة يوسف u هي السنوات العجاف، والجب، والقمصان، والسجن.
ا– السنوات العجاف: يشترك في استدعائها كل من الأمراني، والرباوي
ب- الجب: يرد في شعر الرباوي، وبنعمارة
ج- القمصان: يستحضرها الأمراني، والرباوي
د- السجن: ينفرد الأمراني باستلهامه
هذا مع التفاوت الملحوظ لرجوع كل شاعر إلى هذه القصة، فالتقدم دائما للأمراني([1])، يليه الرباوي، فبنعمارة. وسنتناول الوقائع الثلاثة الأولى؛ كل واقعة من خلال شاعر لملاحظة عمليات التناص ودلالاتها:
ا- السنوات العجاف؛ ( نموذج الأمراني):
الصفحة الأولى
يا مولانا
هذي سنة أخرى عجفاء
لكن مزارع هذا الوطن المطمور
من نعمائك سوف تلف العالم
كل العالم
بالخير والبركات
(صوت يأتيك من الداخل:
سنة تتلو سنة
ومزارع هذا الوطن المقهور
لم تعرف منذ دهور
ما طعم الشمس وطعم القمح
وبيادره لا تعطي غير الجرحِ
الجرحِ
الجرح)
الصفحة الثانية:
قال الحاكم والمحكوم بأمر الله:
دقوا الأجراس!
دقوا الأجراس!
ولينشر في كل الصحف اليومية
في كل الإعلانات الرسمية:
“هذا عام فيه يغاث الناس”
وبأمر الحاكم والمحكوم
تُدَقُّ…تقول الأجراس:
هذا عام فيه يغاث الناس
عام فيه يغاث الناس
فيه يغاث الناس
الناس
الناس
الناس
……..
( إن الرؤيا لا تصدق في كل الأزمان)([2])
ب- الجب؛ (نموذج بنعمارة):
- أوَلم تتبع صاحبة الحسن؟
وأنت الصلصال الفخار المنكسر أمام
رحيق دواليها
قلت: أرى مدنا يغزوها خيط دخان توقظ
تحت جلود الأسوار الفتنة،
وتمزق آيات الحكم القرآنية، وتترك
يوسف في الجب وحيدا([3])
ج- القمصان؛ (نموذج الرباوي):
هي قد رفعت عينيها الناريتين إليّ
وقالت: لك من هيكل ناري هذي الكأسَ
فأُمسِكتُ بثوبي، لكن لم أترك ثوبي
في يدها، لم أهرب من جسدي…
إني ألقيت بنصفي في أدغال
الجب المتسكع بين فجاج الصحراء، وما
زينتُ قميصي بدمي المغبَرِّ، إذن فأنا متهم
بسريقة ذاتي، متهم بضياعي، متهم
بخمائل هذا الحزن([4])
ا- في النموذج(ا) يستحضر الأمراني سني يوسف في مقطعين من مقاطع خمسة هي المجموع المُشَكِّل للقصيدة “قراءة في ملف منسي بمحكمة الاستئناف”، وكل مقطع يطلق عليه الشاعر اسم الصفحة تشبيها له بصفحات ملف من ملفات المحاكم. والمقطعان اللذان يشكلان هنا نموذج التحليل؛ هما كما عنونهما الشاعر: “الصفحة الأولى” و”الصفحة الثانية”؛ وكما تكون الصفحتان من الصفحات العادية متقابلتين أو متتاليتين؛ فإن الصفحة الأولى تقابل هنا الصفحة الثانية من حيث اشتمال إحداهما على صوت الرعية، والأخرى على صوت الحاكم. وموضوع الصوت المشترك هو السنوات العجاف. وإذا تأملنا الصوتين مرة أخرى؛ وجدنا أن كلا منهما ينقسم بدوره إلى صوتين تبعا لمقام الكلام لدى كل من الراعي والرعية:
- صوت الرعية:
ففي الصفحة الأولى هناك صوت أول مسموع تخاطب فيه الرعية حاكمها خطابا يدل على بعده وتعاليه، وعلى دونيتها وعبوديتها من خلال النداء الذي يستعمل للبعيد (يا)، ومن خلال كلمة التعظيم (مولانا)؛ لتلفت انتباهه المتعالي إلى معاناتها من توالي السنوات العجاف عليها. فإذا كان في صوتها ما يدل على بُعد “مولانا”، كما بينا، فإن فيه، في المقابل، ما يدل على القرب في اسم الإشارة (هذي) المستعمل للقريب. إلا أن هذا القرب متعلق بالسنة العجفاء. ف “مولانا” يتخذ له مسافة واحدة فقط؛ هي البعد عن الرعية وعن السنوات العجاف معا؛ فيجني من ذلك راحة باله، أما الرعية فتتورط في مسافتين: البعد والقرب؛ حيث تعاني من بعد “مولانا” ومن قرب هذه السنوات معا. وفي نعت السنة ب (الأخرى) في قول الشاعر”هذه سنة أخرى عجفاء”؛ دليل على وقوعها تحت سابقات مثلها الواحدة تلو الأخرى من جهة، ودليل على نقد مبطن لوعد ما كان وعد به “مولانا” الرعية لإنهاء السنوات العجاف فأخلفه. ومن هنا نستخلص أن السنوات العجاف لا تتصل بقدَر أو ابتلاء إلهي، كما في سني يوسف، وإنما ترتبط ببلاء “مولانا” المتصرف في أمور العباد تصرف الذي يظن نفسه إلها. وخوفا من أن يشتَمَّ “مولانا” من تلك العبارة المبهمة ما يُوَجَّه إليه من نقد فيغضب؛ تستدرك الرعية (على لسان الشاعر طبعا) الأمر وتنـزهه من أن يصدر عنه غير “البركات” التي “يطمر” بها لا وطنه فحسب، وإنما يُرجى أن يسبغها على العالم كله وعلى مدار السنة! والشاعر يريد، هنا، أن يعقد علاقة مشابهة بينه وبين ما قام به يوسف u؛ «وكان قد أعد في سني الخصب من الحنطة والشعير وسائر الحبوب في الأهراء والخزائن ما يسع أهل مصر وغيرهم»([5])، مع فارق هو أن الْمَزارع، هنا، والنَّعماء والخير والبركات تخفي أضدادها التي لا يحب “مولانا” سماع ذكرها؛ وخوفُ الرعية هو الذي يجعلها تسمي الأشياء بغير أسمائها. فلو كانت هذه النعم هي فعلا نعم؛ لما كانت هناك شكوى من السنوات العجاف أصلا. وهذا الخوف هو الذي يجعلها تكبت رغبتها في التعبير ويجعلها تقسم صوتها إلى قسمين؛ هذا الصوت الخارجي الذي يشوق “مولانا” أن يسمعه، وتظهر فيه كل ما تستلزمه “الأعتاب المقدسة” من ذلة وخنوع. والصوت الثاني هو الصوت المكبوت، صوت الداخل الذي لا يروق ل”مولانا” سماعه؛ وفيه تكون الذات واضحة وصريحة مع نفسها؛ حيث القحط وانعدام الحرية يزداد أمرهما استشراء مع مر “الدهور”، وحيث المزارع والبيادر في “الوطن المقهور” لا تعطي غير الجراح، وهو اليقين الصُّراح الذي يُختم به القول. وبين المسافتين والصوتين تبقى قضيتها معلقة إلى أن تتخذ لها اتجاها واحدا هو اتجاه الحقيقة التي تنفي هذا الانفصام في الذات؛ وذلك ما تدل عليه “الصفحة الرابعة” وما بعدها من القصيدة:
جميع علامات الدنيا تهتف: أن قف !
لكن الشخص المشنوق يقررُ
أن يستأنف!([6])
2-صوت الحاكم:
في”الصفحة الثانية”، وبعد الاستجداء والدعاء السابقين؛ يُفسَحُ المجال لاستجابة “مولانا”، لكن الراوي هنا (أو الشاعر) يظهره في حجمه الحقيقي وهو يقدمه للقول؛ فهو ليس في المطاف الأخير غير إنسان “محكوم بأمر الله”، وإن ظن هو بأنه حاكم، أو حاكم بأمر الله. وأغلب الظن أن الشاعر يستحضر هنا شخصية الحاكم بأمر الله الفاطمي(المنصور بن نزار375-411هـ) الذي يخترع في كل وقت أحكاما غريبة ومتناقضة([7]) ليجذر علاقة الظلم التي تربط الحاكم بالمحكوم وليضفي على أوامر “مولانا” المعاصر(معاصر لأنه يستخدم الصحف للدعاية) مزيدا من العشوائية واللاجدوى، لأن “الحاكم بأمر الله” كان لا يهمه إلا أن يرى أوامره تنفذ، شغفا منه بالجبروت والطغيان. وبينما ظل صوت الرعية الحقيقي مخنوقا، ولم يتجاوز صوتها المزيف الأعتاب، فإن صوته هو يمتد ويتفرع ليصل إلى أقصى نقطة عبر الأجراس والصحف والإعلانات والحراس والمخبرين والقضاة…([8]) ويبقى مع ذلك صوتا واحدا يُخلص فيه الفرع للأصل. = أصوات ضعيفة رغم تعددها تتقلص لتصير إلى الواحد مقابل صوت طاغ رغم”أحديته” يتعدد وينتشر…ففي ظل هذه العناصر ينبغي إدراك منطوق أمر الحاكم: “هذا عام فيه يغاث الناس” الذي اقتبسه من الآية الكريمة ]ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون[([9])؛ فقد أخرج الأمر من انتظار الوعد إلى التبشير بحلول وقت تحققه. على أن العبارة “عام فيه يغاث الناس” إن كانت قد ذُكرت في الآية مرة واحدة؛ فإنها تكررت في المقطع الشعري (كاملة وغير كاملة) سبع مرات؛ الأولى “أصل” صادر عن الحاكم، والباقي “نُسخ” رددتها الأجراس. وفي العدد (سبعة) تلميح إلى سني يوسف. غير أن الترديد أو الترجيع الذي نفذته الأجراس جعل الأصداء بدءا من الصدى الثاني تَحذف في كل صدى جديد جزءا من أول العبارة إلى أن نفِدت العبارة بتمامها فلم يتردد في الأخير غير الصمت الذي تدل عليه نقط الحذف؛ بمعنى أن الشاعر نفى في عملية التناص الآية جزءا جزءا إلى أن أتم نفيها بالكامل. ولا يمكن لهذا الحذف إلا أن يكون محسوبا من قبل الشاعر؛ فهو في كليته إنما يدل على تبدد قوة الدفع وتقلص إمكانية النفع كلما تراتبت الأمور واتسع نطاقها نزولا من الحاكم إلى المحكوم، ويدل في جزئياته على طريقة هذا التبدد الذي يبدو أنه تبديد أي مقصود، أتى عبر التدرج الذي يطفئ غضب الرعية شيئا فشيئا. فالملاحظ في المقطع أن الأجراس رددت العبارة كاملة في الترجيع الأول (هذا عام يغاث فيه الناس). وفي الترجيع الثاني غاب اسم الإشارة (هذا) ليدخل لفظ “العام” في العموم؛ فلا ندري أي عام سيغاث فيه الناس. وفي الترجيع الثالث يحذف (عام) ويدخل ضمير (فيه) في الإبهام؛ فلا ندري أزمان هو أو مكان أو شيء آخر. وفي الترجيع الرابع تحذف العبارة (فيه يغاث) ويبقى “الناس” بدون إغاثة ! وفي الترجيعين الأخيرين (الخامس والسادس) تتردد كلمة “الناس” مرتين دلالة على مغالبتهم للأمر الواقع، والتشبث بالاستمرارية في الحياة بالرغم من حذف “الإغاثة”، غير أن مقاومتهم تضعف فيُحذفون هم أيضا، ولا تبقى سوى الآثار التي تدل عليها نقط الحذف في الأخير كترديدٍ ميت، إن صح التعبير، للعبارة/الآية. والطريف أن عدد نقط الحذف ثمانية؛ فكأن الناس بقي لديهم الأمل في الإغاثة طيلة فترات الترداد السبع التي تشير إلى السنوات السبع الشداد، ولما جاء العام الذي من المفترض أن يغاث فيه الناس جاء فارغا إلا من هذه النقط التي تدل كل واحدة فيها على حقيقة السنة التي تقابلها لتعلن انعدام الأمل واستتباب اليأس. وكان للشاعر أن يقف عند هذا الحد من “الصفحة الثانية” ليعطي إيحاء أقوى لعملية التناص هذه التي استغل فيها بلاغة الحذف([10])، إلا أنه صدَر عنه ما يشبه تعليقا شخصيا على هذه الواقعة بتناص آخر مع نفس القصة في قوله: “إن الرؤيا لا تصدق في كل الأزمان”، وهي رؤيا ملك مصر كما وردت في الآية (43) وما بعدها؛ فإذا كانت الرؤيا لا تصدق اليوم فلأن الجفاف لا يعود إلى قضاء الله وقدره، وإنما إلى سوء تصرف الحاكم وخبث طويته؛ بمعنى أن عناصر المشابهة قليلة جدا بين السنوات العجاف في الزمنين، أو أن العناصر الخارجية فقدت مراتبها بدخولها في علاقات نصية خاصة إذا استخدمنا مفهوم “يوري لوتمان Iouri Lotman“. وفيما يلي جرد لأهم العناصر الذاتية لقصة يوسف u كما وردت، على الخصوص، في القرآن الكريم مما له علاقة بالنص الشعري حتى نتمكن من ملاحظة التحولات التي وقعت فيها بعد انتقالها إلى مجال العلاقات النصية في المقطع الشعري:
في القرآن الكريم: | في المقطع الشعري:
|
ا- رؤيا الملك الصادقة | ا- رؤيا الحاكم الكاذبة |
ب- سبع بقرات سمان | ب- عنصر غير مذكور |
ج- سبع عجاف | ج- عدد لامحدود |
د- ]فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون[
[وهو القمح والشعير]([11] + [ملء الأهراء والخزائن] |
د- البركات والنعماء
(وما هي بنعماء) بدل القمح + يطمر بها الوطن= رغبة في دفن الوطن |
هـ- [تفريقه على مصر وغيرها] | هـ- دعوى شمول نعماء الحاكم الوطن وغير الوطن |
و- ]سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن[ | و- دهور قضت على طعم القمح وطعم الشمس |
ز- ]ثم يأتي بعد ذلك عام فيه يغاث الناس[
+ غوث صادق + فرج بعد شدة |
ز- هذا عام فيه يغث الناس
+ غوث كاذب + ضيق بعد شدة |
ح- السبب في الابتلاء هو الله تعالى | ح- السبب في البلاء=الحاكم |
ط- وسيلة التعبير=القرآن الكريم | ط- وسيلة التعبير=الشعر |
نلاحظ أن التحويل شمل كل العناصر إما بالنقض كما في العنصر (ا) مثلا، أو النفي الكلي كما في (ب)، والنفي الجزئي كما في (هـ)، أو بالزيادة عن طريق المبالغة كما في (ج) إلى غير ذلك من عناصر التحويل دون مس بقداسة القرآن الكريم.
[1] -يستمر الأمراني قي استحضار هذه القصة في شعره؛ ففي مجموعته الشعرية الصادرة مؤخرا (المجد للأطفال والحجارة) يستدعي تآمر الإخوة على يوسف u، والقميص، ودوره في إنقاذ مصر من السنوات العجاف؛ 14،36،57.
[2] – “قراءة في ملف منسي بمحكمة الاستئناف”، الزمان الجديد؛ 115-117.
[3] – “مملكة الروح”، مملكة الروح؛ 34-35.
[4] – “لك الملك”، الأحجار الفوارة؛ 52،54.
[5] – ثمار القلوب؛ 49.
[6] – الزمان الجديد؛ 121.
[7] – وفيات الأعيان؛ 292:5-298.
[8] – ينظر بقية القصيدة بالديوان.
[9] – يوسف؛ 49.
[10] – هناك مثال مشهور يتداوله النقاد لبدر شاكر السياب في هذا المجال، من الممكن أن يكون الأمراني تأثر به ونسج على منواله، وهو مثال جيد للتمييز بين التأثر والتناص. أما قول السياب فهو:
أصيح بالخليج: يا خليج / يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى!
فيرجع الصدى / كأنه النشيج:
يا خليج / يا واهب المحار والردى
- ديوان السياب؛ 477:1. ويراجع: الشعر العربي الحديث، س. موريه؛ 331-332.
[11] – الزيادات للتوضيح اقتطفت من ثمار القلوب؛ م. س.
د. المختار حسني