المبحث الرابع 3
وإذا كان المقصود في الإخبار الإنسانَ بصفة عامة هناك، فإنه في نموذج الرباوي يتعين ويصير المقصود هو ذات الشاعر فينتقل المعنى بذلك من العموم إلى الخصوص. وفي كل الأحوال فإن هذه الزيادة في المعنى لا تلغي المعنى الأصل، بل هي إضافة طارئة ناتجة عن حذف وتحويل وزيادة في المبنى. وهذه التغييرات إن توخينا مزيدا من التدقيق هي كالتالي:
1-حذف أداة الشرط(إن)
2-زيادة الاستفهام (لماذا)
3-زيادة حرف النداء(يا)
4-زيادة منادى(مولاي)
5-استبدال (ت) المتكلم بالإنسان
هي خمسة إجراءات فرضها الموقف الخاص للشاعر ولكل إجراء دلالة خاصة ضمن المجموع؛ فحذف(إنْ) دال على الإقرار والتسليم المسبق أو”الإذعان لسلطة قضائية” هي هنا ما أخبر به الله تعالى عن الإنسان. والاستفهام خرج به الشاعر عن معناه الأصل الذي هو طلب حصول التصور بالأداة (لماذا) إلى معنى آخر يستلزمه الحوار ويستفاد من السياق وهو شدة ضيق الشاعر من الشعور بالهلع وتمنيه لو أنه لم يخلق بهذه الصفة. والنداء خرج به الشاعر أيضا عن معناه الأصل الذي هو طلب الإقبال. كما أنه استعمل الأداة (يا) في غير الموضع الذي تستعمل فيه وهو النداء للبعيد، لأغراض خاصة؛ فالله تعالى وهو المنادى هنا ليس بعيدا، ومناداته ليس الغرض من ورائها طلب الإقبال، بل القصد هو الإشارة إلى علو الله عز وجل، وشعور الشاعر ببعده عنه وبضآلة ذاته لما يقترفه من ذنوب، وربما لذلك أيضا قدم النداء في جملة اعتراضية بين أداة الاستفهام والمسؤول عنه الذي يتضمن ضمير المتكلم/الشاعر(تُ). وهذا الضمير في المسؤول عنه هو التحويل الذي أجراه الشاعر على عنصر(الإنسان) في الآية القرآنية، وحافظ على الفعل(خلق) مبنيا للمجهول، وعلى صيغة المبالغة (فعول) في (هلوعا) وموقعها الإعرابي. ودلالة التحويل هنا هي الانتقال من الموضوعي إلى الذاتي ومن العام إلى الخاص؛ فالشاعر لا يهمه أن يكون قد خُلقَ كل الناس مثله هلوعين، وليس لديه ما يسمح له بالتفكير في ذلك؛ فقد شغله هلعه عن هلع الإنسان فلم يذكر إلا نفسه، بل قد يصح القول بأنه جمع هلع الإنسان كلَّه وجعله متمثلا في ذاته، انطلاقا من تلك العلاقة الكامنة بين ضمير المتكلم في (خُلِقت) وبين (الإنسان) المذكور في الآية القرآنية؛ ويمكن تقدير تلك العلاقة بذكر (الإنسان) في العنصر (ب-ا) من نموذج الشاعر: لماذا يا مولاي خلقت[أنا الإنسان] هلوعا؟) فيستفاد من الضمير إذ ذاك، وفي علاقته التناصية تلك، “تضخمٌ” في الذات من جهة فرط الإحساس بالهلع. وفي العنصر(ب-ب)من التناص نجد الشاعر قد حافظ على جملة الشرط وإن كان قد حول الأداة (إذا) إلى (إنْ) كما استبدل عناصر أخرى في شعره بالتي في الآيات القرآنية فكانت التغييرات كما يلي:
في القرآن الكريم في الشعر
1-إذا 1-إنْ
2-ضمير الغائب العائد 2-جَناني(جنان الشاعر)
على الإنسان في(مسه)
3-الشر 3-المحْل
ومن دلالات التناص في ذلك أن الشاعر باستبداله(إنْ) ب(إذا)؛ أخرج كلامه من دائرة التجريد والتحقيق، باعتبار “إذا” دالة على الوقت المجرد والأمر المحقق([1])، في الآية، إلى دائرة الإمكان؛ لأن (إنْ) حرف شرط به يُعلق أمر على أمر«ولا يعلق بها إلا ما يحتمل وقوعه»([2]). ففي الآية استخلاص للقاعدة أو لقانون عام يعم كافة البشر. وفي الشعر فإن مجرد تغيير حرف جعل الأمر ممكن الوقوع لدخوله دائرة خاصة هي ذات الشاعر المتوترة من هذا المحتمل، والمتفاعلة معه تفاعلا خاصا كما يدل على ذلك السياق. وإذا كان الشاعر قد حافظ على فعل المس فإن الإنسان(في الضمير العائد: مسه) تحول عنده إلى الجنان(القلب) وليس أي جنان وإنما جنانه هو. والمعروف أن الجنان سمي بذلك لكونه مستورا عن الحاسة([3])؛ ومحصول ذلك أن الشاعر هنا يتحدث عن همومه الخاصة، وهي مخَبَّآت صدره التي لا تبدو للعيان، فلا تمس منه هذا الإنسان المجرد المكشوف للجميع نموذجُه كما في الآية، وإنما تستوطن منه مكانا خاصا هو القلب المسمى كذلك لشدة تقلبه([4]) بين درجات الإيمان ودركات الكفر. ومن ثم فإن ما مسه بعد ذلك لا يمكن أن يكون هو هو ما مس (الإنسان) بصفة عامة؛ وهكذا نجد (الشر) الذي في الآية والذي يُذهب في تفسيره إلى كونه فقرا أو مرضا([5]) يصبح (مَحْلاً) لدى الرباوي؛ والْمَحْلُ انقطاعُ المطر ويُبْس الأرض من الكلأ([6])، استعاره الشاعر للقلب استعارةَ كناية للدلالة على جفافه من الإيمان بين الفينة والأخرى.
أما في العنصر(ب-ج) من التناص وهو المعطوف على سابقه سواء في الآية أو الشعر فإن (المس) يقع على الجنان أيضا بالإضافة إلى تغييرين أو تحويلين اثنين هما عنصرا (الوبل) الذي حل محل (الخير) و(جزوعا) الذي احتل مكان (منوعا). وقد أملتهما مقصدية الشاعر الخاصة كما أملت تلك التحويلات السابقة. ولذلك فإن (الخير) هنا أيضا، والذي يفسر بالمال والغنى في الآية([7])، لا يمكن أن يكون منسجما انسجاما دقيقا مع السياق إلا إذا غُير بعنصر مناسب؛ وهو هنا (الوبل) الذي وجد “مشروعيته” داخل السياق بما ذُكر قبلُ من المحل. واستعاره الشاعر للدلالة على حضور الإيمان الذي ينبغي “منطقيا” أن يقضي على المحل السابق بإشاعة الحياة والخصب في أرجاء جَنان الشاعر القاحلة، ولكن الغريب أن أثره لم يختلف عن أثر المحل مما جعل الشاعر يحتفظ بالعنصر(جزوعا) كجواب للشرط في الحالين. ومع ذلك فمن الممكن اعتبار جزع الشاعر هذا جزع الفرحة الذي ينسيه شكر مولاه كما يعبر عن ذلك في أواخر القصيدة:
امتدت أدغال الخوف الكاسر
أو ربتما هي أدغال الفرحة يا مولاي
إلى مملكتي الخضراءِ
فأنستني أن أشكر نعمتك البيضاء([8])
وفي الأخير، في العنصر(ب- د) من التناص يتخلى الرباوي عن كل عناصر الآية متجها وجهة أخرى، ربما لأنه يعتبر حالته غير متعلقة بدوام الصلاة أكثر مما تتعلق بحالة خاصة وسَمَها بالوسواس الخناس تناصا مع آية مختلفة هي قوله تعالى: ]قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس[([9]). هذا الوسواس هو الذي جعله يقف مذهولا أمام المحل والوبل، فلا يدري؛ أخوف به أم فرح، مشغولا بذاته منصرفا إليها عن شكر الله. هذا ما جعله يحس بتعاظم خطر الذات فطفق يدعو ربه للانصراف عنها إليه بدوام ذكره وحمده.
إن تناص الرباوي هنا مع موضوعة الإنسان جاء لإثبات نفس القصد من صفته في القرآن الكريم لما يجده بين جوانحه من عناصر المماثلة والمشابهة بينه وبينه، وجاء اتجاهه إلى القرآن الكريم لإثبات ذلك إيمانا منه بصدق ما يخبر به، وجعل هذه الحقيقة العامة منطلقا للتعبير عن خصوصياته التي تضافرت جملةٌ من التحويلات الدقيقة للتعبير عنها مع الحفاظ الدائم على قدسية القرآن الكريم.
ج- يتعامل هذا النموذج وهو للرباوي أيضا مع الآيات القرآنية الواردة في النص رقم: 3 الخاصة بوصف يوم الحشر؛ والخطاب موجه في الآية الأخيرة من النص حسب الأقوال إلى الكافر، أو المؤمن والكافر، أو الرسولr كما يذكر ابن جرير الطبري([10])، إلا أن «الظاهر من السياق [يقول ابن كثير] خلاف هذا، بل الخطاب مع الإنسان من حيث هو، والمراد بقوله تعالى ]لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مـن هذا[، يعني من هذا اليوم، ]فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليومَ حَدِيد[؛ أي قوي لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصرا حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة لكن لا ينفعهم ذلك»([11]). هذا المشهد المرعب الذي ينكشف فيه الغطاء وتتضح فيه الرؤية هو ما يستحضره الرباوي في قصيدته جوا عاما أولا ثم تناصا مع الآية(22) ثانيا. فالمتوقع أن يسبق تلك الرؤيةَ هولٌ يكون شبيها بهول يوم البعث وقادرا من ثم أن يترتب عنه البصر الحديد. وبالرجوع إلى القصيدة يتضح أن ما يتخبط فيه أبناء الأمة من انحراف عقدي، وما تعانيه بسبب ذلك من محن هو الذي يشكل المشهد المروع الذي يزيح الغطاء عن رؤية الشاعر:
سبلٌ بل سُعُرٌ مشرعة أبوابها
جرَّدَتني من جذوري
وطني مشتعل
ما عاد أرضا وسماء.
فلسطين حصان عربي
يمتطي صهوتَه الأبيض والأسود والأحمر
حتى اختلطت ألوان هذا العالم الموبوء
آه تلك أمي رفضت كل بنيها([12])
وأم الشاعر هي أمته، والسبل هي المذاهب التي تفرق بالمرء عن سبيل الله؛ من قوله تعالى: ]ولا تَتَّبِعـُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيله[([13]). ووسط هذا الاشتعال وفي خضم المحن وتعدد السبل التي تحجب عن الشاعر أمه/أمته، وتُلَبس عليه هويته، يبصر الشاعر صاحبه الفارس الذي يستطيع أن يدله عليها. وتخصيصُ الحصان بالرؤية هنا علامة على وجود مسافة ما بين الشاعر وصاحبه وبين تحقيق الهوية من جهة، وتدل من جهة أوْلى على ضرورة وجود الفروسية لخرق الموانع الحاجبة؛ وهذا ما تؤكده بقية القصيدة([14]). وقد اكتفى الشاعر في عملية التناص باقتباس جزء من الآية ]بصرك اليوم حديد[ مع تغيير كاف الخطاب بياء المتكلم، وساق هذا الاقتباس كما رأينا في أجواء من عالم الشهادة شبيهة بأجواء الحشر في عالم الغيب فوفر له سياقا ملائما لدلالاته.
[1] – المصباح المنير؛ (إذا، إن).
[2] – نفسه؛ (إن).
[3] – المفردات في غريب القرآن؛ (جنن).
[4] – نفسه؛ (قلب).
[5] – الكشاف؛ 612:4.
[6] – المعجم الوسيط؛ (محل).
[7] – الكشاف؛ 612:4.
[8] – أول الغيث؛ 41.
[9] – الناس؛ 4.
[10] – نقلا عن: تفسير القرآن العظيم؛ 271:4.
[11] – نفسه.
[12] – “السبل”، البيعة المشتعلة؛ 20-21.
[13] – الأنعام؛ 153.
[14] – البيعة المشتعلة؛ 22-23.