المبحث الثالث 5:
ب– تناول هذا النموذج بالتحليل د. محمد علي الرباوي في رسالته الجامعية ضمن ظاهرة التناص فقال: «فحسن الأمراني في قصيدته يخاطب حبيبة قد تكون رمزا، وقد تكون من لحم ودم، ويبدو أن موانع حالت دون الوصول إلى هذه الحبيبة، ولهذا يصلي الشاعر لعل صلاته تشفع له عندها لأنها فاكهة مشتهاة. ولكن الشاعر المتسم بالورع والتقوى يرى أنها محرمة عليه ما لم يصل إليها عن طريق مشروع»([1]). وأرى أن هذا التأويل يتنافى والسياق العام، ويبتعد من ثم عن مقصدية الشاعر؛ ذلك أن الأمراني هنا يخاطب “الفاكهة” باعتبارها رمزا للضعف المصاحب للإنسان رغم كل محاولة قد يقوم بها للتخلص منه، بمعنى أنه لا يسعى إلى الوصول إلى هذه الحبيبة/الخطيئة، وإنما إلى النجاة منها والفرار بالذات، بوساطة الصلاة، إلى الله تعالى؛ وعندما يهم بذلك يجد “الحبيبة” أو هذا الضعف، على الأصح، عاملا معاكسا لإرادته بما أنه داخل في طبيعة تكوينه البشري، ولذلك فإنه حينما يصلي لله تعالى؛ يشعر، على الرغم من ذلك، أن ميزان القوى لم يتحول لصالح إرادته قط وهو يؤديها(أي الصلاة). الذي يجده: هو أن هذه الصلاة ما زالت مشوبة بهذا الضعف، وأن الشاعر حين يؤديها يكون في نفس الوقت يصلي لهذه”الفاكهة”= يعبد غرائزه-إن صح التعبير-رغما عنه. وهذه هي دلالة المفعول المطلق لكلمة “أيضا” التي تعني المعاودة للشيء والتحول إليه([2]) في عنوان قصيدة الأمراني الذي منطوقه: “وأُصَلّي لك أيضا أيتها الفاكهة المحرمة”؛ أي: إنه يصلي لله تعالى وهذه هي وجهة نيته وإرادته، ويصلي أيضا للفاكهة مرغما، وعن طريق الخطأ/الخطيئة، لا طلبا للشفاعة كما ذهب إلى ذلك الرباوي. وما يقلق الشاعر ويجعله بين الشك واليقين هو كون الصلاة الأولى لم تنف الثانية؛ فكأنه يستعجل من الله تعالى علامة من العلامات الدالة على جدوى صلاته له وعلى قبول توبته، فرغم أنه تغرب مثل سيدنا آدم، وصلى ما صلى وغنى “الحلم القادم من رحم البرق”… فإنه لم يدرك بغيته ولم تُقبَل قرابينه فهل كان صلاته، كما يقول، مجرد مكاء وتصدية؟ بمعنى هل كانت صلاته كصلاة مشركي قريش حين كانوا يطوفون بالبيت يصفرون ويصفقون ليخلطوا بذلك على النبيr صلاتَه([3]) كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى في قوله الكريم: ]وَما كانَ صَلاتُهم عند البيت إلا مُكاءً وتَصْدِيَةً[([4]). فالتناص مع هذه الآية بالضبط يؤكد ما ذهبنا إليه من حال التشويش الحاصل داخل ذات هذا الشاعر حين يخلط صلاة بصلاة!
بهذه النظرة الواقعية إلى الإنسان في توتره وقلقه بين الشك واليقين يعالج الأمراني كصاحبه بنعمارة مشكلة الصراع بين قهر الجسد للذات وجعلها تثّاقل إلى التراب، وبين تطلع القلب والروح إلى السمو والخلود. وربما اتخذت هذه القضية بعدا أعمق لدى الأمراني في هذا النموذج؛ لأن التناص فيه يشتبك مع النص بأكمله، ويظل هاجس “الفاكهة المحرمة” مخيما على الشاعر من أول القصيدة إلى آخرها كما حاولنا بيانه بإيجاز؛ فذُكرتْ تارة باسمهما وتارة بما يدل عليها في معجم كالطين والأوزار والجسد، وتكمن في غالب الأحيان وراء التعابير الأخرى. ولا يُستبعد أن تكون هذه القصيدة مشَكِّلَة لبدايات التحول الواعي نحو الإسلامية في الشعر، وقبل ذلك بداية التحول في وعي الشاعر نحو الإسلام. وعسى أن يكون الأمراني إلى شيء من ذلك أشار حين تحدث عن التجاوز في رسالة موجهة إلى الراحل عبد الله راجع أثناء إعداد هذا الأخير بحثه لنيل دبلوم الدراسات العليا، قال: «خذ مثلا “نار القرى” لبنطلحة أو “مشاغل عبد الرحمن بن الأشعث” لراجع أو “وأصلي لك أيضا أيتها الفاكهة المحرمة” [للأمراني]، وقصائد أخرى من هذا القبيل، تنبئك أن التجاوز، وبأي وجه أخذته، حاصل، وتؤكد كذلك أن الجيد القليل خير من كل غثاء»([5]). وقد انتبه راجع إلى أن «مرحلة كتابة هذه القصيدة([6]) هي مرحلة مراجعة وغربلة للكثير من الآراء والأفكار التي ترسبت في ذهن صاحبها…من هنا جاء النص…وثيقة نفسية جد هامة تؤرخ لمرحلة نفسية معينة عاشها الشاعر…»([7]). ولكن “راجعا” يعتبرها المعبر الحقيقي عن نفسية الشاعر الميالة إلى التصوف و”الانعزال” عن المجتمع، ويعتبر بناء على ذلك كلَّ القصائد السابقة عليها غير صادقة في التعبير عن “النحن”. فالانفصال كان دائما مختفيا وراء الطموح للارتباط ب”النحن”عنده([8]). إن الانفصال عن “النحن” الذي يقصده راجع هو في الحقيقة تخلٍّ من الأمراني عن مبادئَ كان يؤمن بها ولم تعد في نظره نافعة لكي يخدم بها هذه “النحن”، فرجع إلى ذاته ليغيرها ويُعِدَّها وفقا لمبادئ جديدة، لا للانفصال عن الجماعة بل للاتصال بالجماعة كما يراها انطلاقا من تصوره الجديد. ومن هنا لا مجال لاتهام ما سلف من شعر الشاعر بعدم الصدق، وليس بعدُ من النقد في شيء وإنما هو تأنيب إيديولوجي لشاعر يعتنق تصورا مخالفا. والقصيدة بكل ما تصوره من أزمة تبين مرحلة الإعداد هذه، بالبداية من الدرجة الصفر للإنسان من خلال تقمص شخصية آدم المقترف للخطيئة. فهل من الممـكن اعتبار المرحلة السابقة من “نضال” الشاعر في إطار مبادئ “ثورية” غيـر إسلامية اقـتـرافا لهذه الخطيئة؟([9])؛ إن ربط الشعر بما هو اجتماعي لا يمنع من ذلك، وإذا اعتبرنا ما كان لمبادئ الاشتراكية من بريق يتزين به كل مناضل في أيام فتوتها ما فاتنا أن نربط بينها وبين الفاكهة الممنوعة هنا لدى الأمراني!
ج– قبل أن يصل الرباوي إلى هذا المقطع/النموذج، يُوَجِّه في مقطع سابق، وهو مطلع القصيدة، خطابا حزينا إلى هذه الشخصية التي يناديها: “يا طفلتي” ويرسم حولها عالما شاسعا ليبرز من خلالِ لا مبالاةِ هذا العالم بها حدةَ تفردها وغربتها، وإصرارَها رغم ذلك على أن تظل في السماء قمرا يتلألأ نورا. وهذا الموقف جعل الشاعر يتعاطف معها ويصلي من أجلها كيما تجد من يؤنسها في غربتها. ومن الوضعين معا ساغ للشاعر أن يشابه بينهما وبين وضعي مريم وزكريا عليهما السلام. فمريم، كما هو معروف، نذرتها أمها، وهي لا تزال بعد جنينا، لخدمة بيت المقدس، فتقبلها الله سبحانه وتعالى نذيرة وجعلها من الصالحين، وبقيت بعد ذلك يتيمة فكفَّلها سبحانه نبيَّه زكريا، وأخبر تعالى في الآية عن سيادتها وجلادتها في محل عبادتها([10])، أما زكريا الذي يكفلها فيهمنا من قصته هنا انبهاره بتلك الكرامة التي خصها بها الله تعالى والتي حركت في نفسه هو أيضا السعي إلى نيل مثلها بالطمع في أن يكون له ولد رغم وهن العظم منه واشتعال رأسه شيبا وبلوغه من الكبر عتيا وكون امرأته عاقرا.
فطفلة الشاعر أو صغيرته كما يخاطبها فيما بعد([11]) شبيهة بمريم في يتمها وغربتها وعبادتها ومضيها في طريقها المرسوم بإيمان وعزم. والطفلة هذه ليس من الضروري أن تكون طفلة الشاعر الحقيقية بل الأولى أن تكون رمزا يحمل دلالات عدة منها أن تكون رمزا للعقيدة وكمونها الدائم سواء في أعماق نفسية الشاعر أو في وجدان الأمة. واستمرارُها على هذا الوضع الكامن غير اللافت للانتباه شبيه باعتكاف مريم عليها السلام في محرابها واستمرارها في خدمة بيت المقدس، وهو دليل على الرعاية الربانية لهذه العقيدة التي فطر الإنسان عليها. وكونُها “طفلة” و”صغيرة”؛ فيه ما ينبئ بضرورة نموها واشتداد عودها في المستقبل واستمرارها في ذريتها كما استمرت مريم في ابنها عيسىu؛ فهذه إذن بداية كتلك البداية. وعلاقة الشاعر هنا بمَرْيَمِهِ شبيهة بعلاقة زكريا بمريم عليهما السلام؛ فهو يستدعي من قصته هذا الاندهاش والاستغراب لحصول مريم على فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وإن كان السياقان من جهة أخرى مختلفين ويفرضان من ثم دلالات متخالفة. فإذا كان زكريا هنالك يتعجب مما خُصّت به مريم من كرامة، فإن زكريا الرباوي بالإضافة إلى ذلك يستغرب من استمرار مريمه الطفلة في الحياة، وهو الذي لا يرى غير الجمود والجفاف الروحي حافاًّ بالقرى، يغزوها ويخنق كل صحوة. وإذا كان زكريا أيضا قد حركت فيه تلك الكرامة الطمع في النسل الصالح، فإن زكريا الشاعر أيضا حركت فيه تلك الكرامة التي خُصت بها طفلته طمعَه في معجزة كتلك المعجزة، غير أنها هنا لا تتعلق بالولد، وإنما تتعلق باستنصاره تعالى على ضعف آدم وشر قابيل الذي رَسَخَتْ جذوره في نفس الشاعر فصار في ذلك شبيها بكبر زكريا وعقم زوجته في استحالة التخلص منه دون مدد إلهي.
وهكذا يظهر أن الفاكهة سواء كانت ممنوعة أو ممنوحة، فإن الشعراء ثلاثتَهم اتخذوها، كل واحد بطريقته الخاصة، سبيلا إلى التعبير عن الضعف الإنساني الذي يشعرون به وما يشكله ذلك من توتر نفسي وصراع مستمر بين الهوى والإيمان، وكل ذلك يمثل مرحلة من مراحل العبور النفسي من أجواء الغفلة والاستكبار إلى أجواء الصحوة والتواضع والإذعان لله تعالى، أو يمثل ما يمكن أن نسميه ولادة جديدة يكتشف فيها الشعراء أنفسهم والنفس الإنسانية على حقيقتها برؤية جديدة وحساسية مغايرة. وقد كان التناص أهم الأدوات التي توسلها الشعراء للتعبير بعمق عن هذه الرؤية.
[1] – الشعر العربي المعاصر بالمغرب الشرقي؛ 566.
[2] – المعجم الوسيط؛ (آض).
[3] – تفسير القرآن العظيم؛ 374:2.
[4] – الأنفال؛ 35.
[5] – القصيدة المغربية المعاصرة؛ 2: 194.
[6] – نشرت في العلم الثقافي في دجنبر 1976.
[7] – القصيدة المغربية المعاصرة؛ 2: 194.
[8] – نفسه؛ 2: 125-126.
[9] – هناك قصائد منسجمة مع الرؤية الإسلامية في هذه المرحلة لدى الشاعر رغم قلتها، وقد اخترنا بعضا منها في المتن المدروس، وسبق للشاعر أن أشار لهذه الظاهرة في بعض حواراته، كما أشار إلى ما كان يطبع هذه المرحلة من تعثر البدايات واضطراب الرؤية؛ من ذلك جمع الشاعر مثلا بين الشيوعية والقرآن في قصيدة مهداة ل “تشي كيفارا Ernesto Ché Guevara” في مجموعة “الحزن يزهر مرتين”/
- جريدة: الزمن [المغربية]؛ 6-19 فبراير 1995.
[10] – تفسير القرآن العظيم؛ 1: 443.
[11] – الأحجار الفوارة؛ 41.
د. المختار حسني