المبحث الثالث 4:
ll.–أعلام الأصفياء:
جاء ذكر الأصفياء في شعر المتن على الترتيب التالي:
- آدم([1]): 8 مرات
- مريم: 4 مرات
- بلقيس: 2 (مرتان)
- الخضر وآسيا وهاجر: 1 (مرة واحدة)
ولا يشترك شعراء المتن بأجمعهم في استحضار أي من هذه الشخصيات، فالأمراني يشترك مع بنعمارة في توظيف قصة أكل سيدنا آدم عليه السلام من الشجرة التي حرم الله عليه ثمرها في الجنة، ويشترك مع الرباوي في توظيف بعض الوقائع في قصة مريم، ثم ينفرد بالإشارة إلى قصص الخضر وبلقيس وآسيا، بينما ينفرد الرباوي بذكر قصة هاجر، ويكتفي بنعمارة بقصة آدم التي يشترك فيها مع الأمراني. وسنقتصر هنا على الشخصيتين (آدم ومريم) مستغلين اشتراك شعراء المتن جميعا في موضوعة “الفاكهة”. وإن كانت فاكهة آدم غير فاكهة مريم؛ فهي بالنسبة إليه ممنوعة، وبالنسبة إليها ممنوحة. وهذه بعض الآيات التي توضح ذلك، وتشكل المرجع الذي استدعاها الشعراء منه:
- الفاكهة الممنوعة([2])
]ويَا آدمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيثُ شِئتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذه الشجرةَ فَتَكُونا مِن الظَّالمِين، فَوَسْوَسَ لَهما الشّيطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ماَ وُورِيَ عَنهُما مِن سَوْءاتِهِما وَقال مَا نَهاكُما رَبكمَا عن هذهِ الشّجرةِ إِلاّ أَن تَكُوناَ مَلَكَينِ أو تكونا من الْخَالدين، وَقاسَمَهُمَا إِنّي لَكُما مِنَ الناصِحين، فدَلاَّهُما بِغُرورٍ، فَلمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْءَاتُهُما وَطفِقَا يَخْصِفَانِ عَليهِمَا مِن وَرَقِ الجنة وَنَاداهُما رَبُّهما أَلَمْ أَنهكُما عَنْ تِلكُمَا الشَّجرةِ وأَقُلْ لَكُما إِن الشيطانَ لَكما عَدُوٌّ مُبين، قَالا ربَّنا ظَلَمْنَا أنفُسَنَا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوننَّ من الخاسرين، قَال اهْبِطوا بَعْضُكُم لِبَعْضٍ عَدوٌّ وَلَكُم في الأرضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حين[([3])
ولا يُدرى ما نوع الفاكهة هذه ولذلك كثرت فيه الأقوال([4])، وربما كانت ترمز للمحظور الذي لابد من السقوط فيه في الحياة الدنيا لكي تبرز قيمة الإرادة ويتميز الإنسان عن الحيوان([5])، كما تعطي، للإنسان بصفة عامة والمسلم بصفة خاصة، فكرة عن الخطيئة والتوبة في الإسلام؛ فخطيئة آدم عليه السلام خطيئة شخصية، وخطيئة كل ولد من أولاده شخصية كذلك، وسبيل التخلص منها هي التوبة المباشرة في يسر وبساطة؛ «فليست هناك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده، كما تقول نظرية الكنيسة، وليس هناك تكفير لاهوتي كالذي تقول الكنيسة إن عيسى عليه السلام (ابن الله في زعمهم) قام به بصلبه تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم»([6])؛ وقد قال جُبران خليل جُبران موحيا بهذا التصور الكنسي[البسيط]:
الخيرُ في الناسِ مصنوعٌ إذا جُبِروا والشرُّ في الناس لا يَفنَى وإنْ قُبِروا([7])
- الفاكهة الممنوحة:
]…كلُمَا دَخلَ عَليها زَكَريا المحرابَ وَجدَ عندها رزقاً، قَالَ يَا مَرْيَمُ أنّى لكِ هذا قالتْ هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب[([8]).
ولا يُدرى كذلك، هنا، ما نوع الرزق على وجه التحديد، ولا ينفع علمه في شيء ما دام المقصود هو فقط إظهار تواضع مريم عليها السلام وشكرها لله تعالى على نعمه، وإظهار معجزة لزكرياu مَنَّ بها سبحانه وتعالى على صفيته مريم، فجعلته يطمع هو أيضا في معجزة شبيهة يكرمه بها الله تعالى حين دعا الله عز وجل بأن يهبه ذرية طيبة رغم أنه يعلم أنه بلغ من الكبر عتيا وأن امرأته عاقر([9])، ولعل نوع دعاء زكريا الذي يطلب فيه الشيء بعد فوات أوانه وفي غير محله هو الذي جعل المفسرين يقولون بأن الرزق الذي وجده زكريا عند مريم هو فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. وفي ذلك، كما يرى ابن كثير، دلالة على كرامة الأولياء([10])
ا- والذي بين يَدَيَّ الآن مجدافٌ من الحزن
وحُزني مَرْكَبي
شَهواتي عَصْفُ ريح
لم أزلْ أقطفُ من بستانها النِّصفَ الذي يقتلني
جسمُها أنثى
وفاكهةٌ تُخرج روحي من مكانٍ شاعري([11])
ب – كبِرَت في القلبِ شُجَيراتُ الحزن
وعَذَّبني الطين
وأنا أحْمِل أوزاري
وأمد الطرف إلى أنوارك:
“أَدْخِلْني مُدخلَ صدق يا الله
وأخرجني مُخرجَ صدق”
-أوَلَمْ تُؤمن؟
-قلتُ: بلى!
لكنَّ القلقَ الأخرَسَ يَسْكنني
فأنا شكٌّ ويقين
تتهالك خلفي جثتي الغبراءُ
فَمن يحمل عني جسدي
ناديتُ الفاكهةَ الممنوعةَ في الظلمات
عن عينيكِ البحريتين تَغَرَّبت
فأدرَكَني الجوع
عن عينيك البحريتين تغربت
فَغَنَّيتُ الحلم القادم من رحِم البرق
تَخِذتُ البحرَ صديقا
فهل كانَ صَلاتي في الليل مُكاءً أوْ تَصْدية
ولماذا كلُّ قرابيني
لم تَمْسَسْها النارُ القدسيه([12])
ج – عجباً!
هي فاكهة الصيف تُزهرُ
في شفتيكِ صباح مساء،
وما زال في حَقلنا
يتَسكع عرشُ الشتاء!
فمِن أين جاءتكِ هذي الفواكه؟
من أين يا طفلتي الرزقُ جاء
وهذا الجفاف
يمد أصابعه في اتجاه القرى([13])
ا– في النموذج (ا) يعلن بنعمارة أنه لم يجد في سفره في هذه الحياة غير الحزن يتخذ منه مركبه ومجدافه. فهو في إحساس بالغربة دائم؛ لاقترافه المستمر للمحظور الذي ابتلي به الإنسان منذ عهد آدم. فرغم علمه بأن شهواته ريح عقيم تعصف به، وأنها شبيهة بالأنثى/حواء التي أغرت آدم بالأكل من الشجرة؛ فإنه لم يزل يقطف من بستانها تلك الفاكهة التي تقتله([14]) وتُخرج روحَه من مكان شاعري شبيه بالجنة التي خرج منها آدمu. فالشاعر يستحضر هنا الفاكهة لا ليشير بها إلى تلك القصة الأصلية، وإنما للدلالة بذلك على ضعف الإنسان وحزنه الأبدي وتكراره الدائم للتوبة كما فعل الشاعر في آخر القصيدة التي منها النموذج؛ حيث قال بعد أن كرر الحديث عن الفاكهة التي سماها “التفاحة”:
والخطوة تفاحة هذا المخطئ
ونشيدٌ روحيٌّ مجنون
لكن القلب يبايع محبوبا ليس كمثله شيء([15])
وتلك هي أزمة الإنسان وتوتره الدائمان إذا كان ذا ضمير حي يجعله يندم على فعلاته ويتوب منها، ولكن ذلك، في الوقت نفسه، سبيله إلى الفعل والخلود، وكما قال محمد إقبال في مقال إلى المستشرق نيكلسون: «شخصية الإنسان من الوجهة النفسانية حال من التوتر، ودوام الشخصية موقوف على هذه الحال. فإن زالت هذه الحال عقبتها حال من الاسترخاء مضرة بالذات، فإن يكن في حالة التوتر هذه كمالُ الإنسان فأول فرض عليه أن يعمل لدوام هذه الحال والحيلولة دون حال الاسترخاء. وكل ما يمكننا من إدامة حال التوتر يمكننا من الخلود»([16]).
[1] – آدم عليه السلام نبي وليس مجرد صفي، وهو ما نبهني إليه مشكورا أستاذي د. مولاي مبارك العلمي. ينظر على سبيل المثال: – المحبر، ص: 1-2. طبقات ابن سعد؛ 1: 32. واحتفظت به في هذه المرحلة من التحليل لتشاركه في موضوعة الفاكهة مع قصة مريم عليها السلام.
[2] – تذكر التوراة أنها ثمر شجرة معرفة الخير والشر، العهد القديم؛ تكوين؛ 4:3.
[3] – الأعراف؛ 19-24. وينظر؛ البقرة؛ 35. وطه؛ 120.
[4] – تفسير القرآن العظيم؛ 1: 102-103.
[5] – في ظلال القرآن؛ 58:1.
[6] – نفسه؛ 1: 61.
[7] – جبران، “المواكب”، المجموعة الكاملة العربية؛ 353.
[8] – آل عمران؛ 37.
[9] – نفسه؛ 38-41.
[10] – تفسير القرآن العظيم؛ 442:1.
[11] – بنعمارة، “وردة السجود”، السنبلة؛ 25-26.
[12] – الأمراني، “وأصلي لك أيضا أيتها الفاكهة المحرمة”، الزمان الجديد؛ 19-21. والعلم الثقافي؛ 24 دجنبر 1976.
[13] – الرباوي، “العاشق الملحاح”، الأحجار الفوارة؛ 33.
[14] – كأن بنعمارة بإشارته إلى القتل يستدعي من القصة التوراتية بعض العناصر، وقد جاء في التوراة: “لأنك يوم تأكل منها مَوتاً تموت” – تكوين؛ 2: 17، 3: 3.
[15] – “وردة السجود”، السنبلة؛ 30.
[16] – ديوان الأسرار والرموز، محمد إقبال ؛ 17.
د. المختار حسني