تقديم[1]:
لم يكن القدماء من النقاد والبلاغيين وغيرهم يختلفون في أن تنمية ملكة اللسان لدى الكتاب والشعراء إنما تكون بحفظ القرآن الكريم والأخبار والأحاديث النبوية والشعر القديم، بل ويكون أولَ ما يقومون به ذلك؛ فإن الفقهاء وأهل العلوم ما قصروا في البلاغة إلا لما سبق إلى محفوظهم من القوانين العلمية والعبارات الفقهية، قال ابن خلدون: «فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثُر، وتلونت به النفس، جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور»([2])، فإذا تم للأديب ذلك الحفظ، وتقوَّمت ملَكةُ اللسان عنده عن طريق التأثر بأساليب ما حفظ، أخذ، كما قال ابن الأثير، في الاقتباس من هذه الثلاثةِ جميعِها: «القرآن والأخبار النبوية والأشعار»([3]). غير أن هنالك من يخالف ابن الأثير في تسويته بين القرآن الكريم وغيره في الاقتباس، ويرى عدم جواز الاقتباس منه في الشعر دون تبيين([4])، ويذهب آخرون إلى كراهة تضمينه أصلا حتى وإن كان المتلقي قادرا على تمييزه مما هو شعر، بل «قد اشتُهر عن المالكية تحريمُه وتشديدُ النكير على فاعله»([5]). وكان أبو بكر الباقلاني، مع ذلك، وهو من المالكية، يصرح «بأن تضمينه في الشعر مكروه وفي النثر جائز»([6])؛ قال في “إعجاز القرآن”: «ولولا ما أكرهُ من تضمين القرآن في الشعر لأنْشدتُكَ ألفاظا وَقَعَتْ مُضَمَّنَةً لتعلم كيف تلوح عليه…وكيف تمتاز منه»([7]). ولعل القول بحرمة أو كراهة تضمينه في الشعر أن يكون راجعا إلى اقترانه في الأذهان بربط مشركي قريش بينه وبين الشعر كما أخبر بذلك القرآن الكريم في عدة مواضع من مثل قوله تعالى: ]بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْترَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ[([8])، وكما ورد في السيرة([9])، فكان هذا الاجتهاد للحفاظ على الحدود بينهما. ومهما يكن، فإن ذلك يعكس الورع والتقديس الذي يُكِنُّهُ المسلمون لكتاب الله عز وجل، وإن كان القائلون بجواز الاقتباس ينطلقون، هم أيضا، من نفس المنطلق ويتوخون نفس القصد بما وضعوه من شروط للاقتباس وبما ميزوا به أنواعه.
ولعل ذلك ظاهر في المصطلح نفسه الذي اشتهر تخصيصه لتضمين كلمة أو آية من القرآن الكريم، على الخصوص، سواء في الشعر أو النثر([10])؛ ويقول ابن حِجَّةَ: «ومنهم من عَدَّ المضمن في الكلام من الحديث النبوي اقتباسا، وزاد هنا الطِّيبي في الاقتباس من مسائل الفقه»([11])؛ يشير ابن حجة بذلك إلى قول الطيبي: «الاقتباس وهو أن يُوَشَّحَ الكلام بشيء من القرآن أو الحديث أو الفقه لا على أنه منه»([12]). وأصل الاقتباس القبس الذي هو النار أو الشعلة منها، والاقتباس، كذلك، أخذ جذوة منها في طرف عود، واقتبستُ منه عِلما ونارا سواء([13])، فيكون الغرض من هذا الفعل؛ الاهتداء وعموم الانتفاع. وإنما خُص القرآن الكريم والحديثُ الشريف بهذا المصطلح لما فيهما من هدى أكيد، ولكون قصد المسلم هو ذلك القصد؛ وهذا ما يُستَشف من الاستعارة المكنية في المصطلح. وأغلب الظن أن هذا المفهوم هو الذي جعل الكفوي يعقب على من وسّع مجال الاقتباس ليشمل مسائل الفقه بقوله: «إذا قلنا بذلك فلا معنى للاقتصار على مسائل الفقه بل يكون في غيره من العلوم»([14]). ولم يستعمل الجميع “الاقتباس” للدلالة على التضمين من القرآن الكريم والحديث الشريف في الشعر، فهذا ابن حجة الحموي يفضل مصطلحي التضمين والعقد ويقصر”الاقتباس”على النثر دون سواه([15]). أما ابن الأثير فقد استغنى جملة عن مصطلح “الاقتباس” وأضاف هذا النوع من التناص إلى مصطلح “التضمين”([16]) الذي يعني تضمين الشاعر شعرَه والناثر نثرَه كلاما آخر لغيره([17]). والاقتباس من القرآن الكريم، على ما ذكر ابن حجة الحموي، «على ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح، ومردود. فالأول ما كان في الخطب والمواعظ والعهود ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك. والثاني ما كان في الغزل والرسائل والقصص. والثالث على ضربين: أحدهما؛ ما نَسَبه الله إلى نفسه ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقّع على مطالعة فيها شكايةٌ مِن عماله: “إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم”([18]). والآخر تضمين آية كريمة في معنى هزل، ونعوذ بالله من ذلك، كقول القائل[السريع]([19]):
أَوْحَى ِإلىَ عُشَّاقِهِ طَرْفُــهُ (هَيْهَاتَ هَيْهاتَ لِمَا تُوعَدُونْ)([20])
ورِدفـُه يَنــطقُ مِـن خَلفِه ( لِمِـثلِ ذَا فَلْيَـعْمَلِ الـعامــلونْ)([21])«.
وإذا قارنا بين هذه المعايير وتلك “القوانين” التي استعارها د. محمد بنيس، مثلا، فسنجد أن “المقبول” هنا ينبغي أن يوضع في خانة “الاجترار” هناك، و”المباح” في خانة “الامتصاص”، أما “المردود” فضمن “قانون الحوار”! وذلك بشكل مقلوب تبعا لخلفية كل من التصورين “إسلامي# غربي”([22]). وهذا كله يتصل بقيمة الاقتباس أو بنوع العلاقة التي يثيرها التناص مع القرآن الكريم، أما طرقه فمتعددة، منها:
- إخراج المقتبس عن معناه.
- الاحتفاظ بنفس المعنى.
– تغيير لفظ المقتبس بزيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير أو إبدال الظاهر من المضمر أو غير ذلك([23]).
فمن إخراج المقتبس عن معناه قول ابن الرومي[الهزج]:
لَئِنْ أَخْطَأْتُ في مَدْحِيـ ـكَ مَا أخـطأتَ في مَنْعِي
فـَقَدْ أَنْـزلْـتُ حَاجَـاتـِي بِـوادٍ غـــــيرِ ذِي زَرْعِ([24])
«فإن الشاعر كنّى به عن الرجل الذي لا يُرجى نفعُه. والمراد به في الآية الكريمة أرض مكة شرفها الله وعظمها»([25]).
هذا، وأورَدَت بعضُ كتب البلاغة كثيرا من الشواهد على جميع الحالات السابقة للاقتباس([26])، مما يبرز كثرة رجوع الشعراء إلى القرآن الكريم في هذا الإطار، إلى حد جعل ابن حجة الحموي يَعِنُّ له أن يُفرد له كتابا باسم “رفع الالتباس عن بديع الاقتباس“([27]). وكان قد سبقه إلى التأليف في هذا الباب أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي فأخرج كتابا في جزأين بعنوان: “الاقتباس من القرآن الكريم“([28]).
وقد تزايد اهتمام الشعراء في العصر الحاضر بالاقتباس من القرآن الكريم كما تشير إلى ذلك بعض الدراسات سواء في الشعر العربي بصفة عامة([29])، أو في الشعر المغربي بصفة خاصة([30])، فليس شعراء المتن ممن ينفرد بهذه الخاصية وإن كانوا، فيما يبدو، وخاصة الأمراني من أكثر الشعراء اقتباسا من القرآن الكريم كما يظهر من خلال ما تمكنت الدراسة من اكتشافه، بغض النظر عما فاتها.
وقد تم تقسيم ما استخرج من آيات، عموما، بحسب موضوعاتها، حتى تتضح مواقف الشعراء من هذه الموضوعات، لأن هذه المواقف هي التي تحدد الشكل الذي يصوغ به الشاعر علاقات التناص، والشكل بدوره هو الذي ينبغي أن يقودنا إلى تلك المواقف وما لها من دلالات، أو حسب تعبير د. محمد مفتاح حين يتحدث عن الوظيفة والبنية، ف«إن الوظيفة[هي التي]تحدد الشكل، فهي التي حددت مسارات الأدب المغربي وروحه وأنواعه الفصيحة والزجلية والملحونة»([31])، فلا معنى، فيما يبدو لدراسة الأشكال في ذاتها ولذاتها في مجال الإبداع بذريعة الاقتصار على الناحية الجمالية الصرف، فليس في ما ينتجه البشر جمال خالص، والإبداع أبعد أنشطة الإنسان عن البراءة، وأي دراسة تتحاشى البحث عن تلك المواقف أو الرؤى من خلال تجلياتها الشكلية، دراسة تعمل في إطار الفصل بين اللغة الإبداعية وحمولاتها المذهبية والفكرية والوجدانية. هذا بالإضافة إلى أن التقسيم المعهود لدى الباحثين في التناص مع القرآن الكريم على مستوى الكلمة والجملة والقصة([32])…تقسيم نمطي قاصر يصلح التعامل به مع كل النصوص التي تتناص مع القرآن الكريم لأنه تقسيم خارجي جاهز وغير مستنبط من خصوصية هذه النصوص، كما أن هذا التقسيم لا يسمح باستيعاب الدراسة لجميع النصوص المستدعاة في حال كثرتها وتنوع مواضيعها، فمهما كثرت لن تُتَناوَلَ في ذلك التقسيم إلا ضمن الكلمة أو الجملة أو القصة…
من هذا الاحتراس/المنطلق، تم تقسيم مادة البحث وتصنيفها بحسب موضوعاتها في مختلف الفصول، ومنها هذا الفصل المتعلق بالقرآن الكريم الذي سنتناوله من خلال المباحث التالية:
-المبحث الأول: التناص مع أسماء القرآن الكريم وأسماء سوره.
-المبحث الثاني: التناص مع آيات بها ذكر لذاته تعالى وصفاته.
-المبحث الثالث: التناص مع آيات بها ذكر لأعلام القرآن الكريم وقصصهم.
-المبحث الرابع: التناص مع آيات بها ذكر للإنسان.
-المبحث الخامس: التناص مع آيات بها ذكر للإنسان المسلم.
-المبحث السادس: التناص مع آيات بها ذكر للإنسان الكافر.
د. المختار حسني
[1] – المبحث عن كتابي: “التناص المفهوم وخصوصية التوظيف في الشعر العربي المعاصر” المطبوع بدار غيداء/ الأردن.
[2] – مقدمة ابن خلدون؛ 1314:3.
[3] – المثل السائر؛ 91:1.
[4] – نفسه؛ 323:2.
[5] – الإتقان في علوم القرآن؛ 314:1. ويُنظر: كشاف اصطلاحات الفنون؛ 1187:3.
[6] – نفسه؛ 315:1.
[7] – إعجاز القرآن؛ 205. و(ط. خفاجي)؛ 246.
[8] – الأنبياء؛ 21. وينظر: تفسير القرآن العظيم؛ 212:3.
[9] – السيرة لابن هشام؛ 170:1.
[10] خزانة الأدب وغاية الأرب(الحموي)؛ 454:2.
[11] – نفسه؛ 357:2.
[12] – التبيان في البيان؛ 257.
[13] – اللسان؛ (قبس).
[14] – الكليات؛ 156.
[15] – خزانة الأدب(الحموي)؛ 459:2، 471.
[16] – نذكر هنا أن القدماء شغَّلوا “التضمين”في ثلاثة اتجاهات: الأول: هذا الذي نحن بصدده، والثاني: الذي يعني تضمين الحروف والأفعال والأسماء معاني بعضها بعض. والثالث: هو المعروف عيبا في الشعر. وتتضمن كافة أنواع التضمين هذه، معنى المرور والمجاز أو الانتقال من صورة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر. ودون أن تفقد الكلمة معناها الأول تضيف إليه المعنى الجديد وتجعله في الواجهة.
ينظر في هذه الاختلافات: – المثل السائر؛ 324:2-325. -كشاف اصطلاحات الفنون؛ 896:2.
[17] – المثل السائر؛2: 323، 326.
[18] – الغاشية: 26.
[19] – خزانة الأدب (الحموي)؛ 455.
[20] – المؤمنون: 36.
[21] – الصافات: 61. والآية الكريمة هي: ]لمثل هذا فليعمل العاملون[.
[22] – يرجع مثلا إلى تحليله لقصيدة “هذا هو اسمي” لأدونيس في:- الشعر العربي الحديث؛ 191:3-194.
[23] – خزانة الأدب (الحموي)؛ 456:2.
[24] – نفسه. وديوان ابن الرومي؛ 1553:4.
[25] – نفسه.
[26] – نفسه؛ 471:2 وما بعدها. ومعاهد التنصيص؛ 109:4 وما بعدها. والتبيان؛ 257 وما بعدها.
[27] – خزانة الأدب (الحموي)؛ 471:2.
[28] – حققه كل من د. ابتسام مرهون الصفار، ود. مجاهد مصطفى بهجت.
[29] – ينظر مثلا:- أثر القرآن في الشعر العربي الحديث، د. شلتاغ عبود شراد/ والإشعاع القرآني في الشعر العربي، محمد عباس الدراجي/ والحداثة في الشعر العربي المعاصر، د. عبد الحميد جيدة.
[30] – ينظر أبحاث كل من الرباوي، وراجع، وبنيس، في مراجع مذكورة سابقا.
[31] – التشابه والاختلاف؛ 160.
[32] – ينظر على سبيل المثال:-الشعر العربي المعاصر بالمغرب، د. محمد علي الرباوي؛ 501-527/ و”أحمد المجاطي والارتباط الحضاري”، د. حسن الأمراني، بمجلة “آفاق” المغربية ع: 58، سنة 1996؛ 54-63./ وله أيضا: “الشعراء والقرآن” (محاولة في تأصيل المنهج الحضاري)، بمجلة “الموقف” المغربية، ع: 12 سنة 1990؛ 31-44.