فيليب بروطون
الحجاج في التواصل
ترجمة
د.محمد مشبال
د.عبـد الواحد التهامي العلمي
Philippe Breton, L’argumentation dans la communication, Quatrième édition, La Découverte, Paris, 2006.
حقل الحجاج
يرتبط الحجاج ارتباطا عميقا باللغة البشرية، وهو إحدى إمكاناتها الكبرى. وينبغي لكل ثقافة أيضا أن تسند له مكانة لأجل أن تتمكن هذه الطاقة اللغوية من النمو. وفي انتظار التحولات الاجتماعية الحاسمة -هذه التحولات نفسها التي سترى نمو الديموقراطية-كان من اللازم إذن توقع أن يتم إدراك الرأي بوصفه موضوع جدل جماهيري، وتحوله إلى مؤسسة.
لقد حملت كثير من المجتمعات استعدادات للكلام يمكن نعتها بـ”مقدمات ديموقراطية”، سواء في أوروبا أو في آسيا، أو في أفريقيا أو في أمريكا الشمالية، وامتد ذلك عبر مراحل مختلفة من تاريخ الإنسانية[1]. يتميز الحجاج عن الكلام التراتبي، ويسهم في بناء علاقات أكثر تعادلا بين الرجال –وأحيانا بين النساء- الذين يُكَوِّنُون هذه المجتمعات.[2]
منذ متى بنى الإنسان معرفة بالحجاج؟ إن الأمر يتوقف على ما نقصده بـ”المعرفة”. بالمعنى الواسع لهذا اللفظ، يحتمل أن الممارسات الحجاجية، مهما تكن قديمة، فقد كانت ترافقها دائما معرفة عفوية وتجريبية. واليوم، حيث أصبح الحجاج ضمن مقررات التعليم، وحيث يواجه كل فرد في حياته اليومية مواقف حجاجية عديدة، فإن مثل هذه المعرفة تشكل جزءا من الرصيد الثقافي الأساس الذي يمكن أن يكتسبه جميع الناس.
ميلاد البلاغة
بيد أن المعرفة بالمعنى الدقيق، المبنية على الحجاج، وعلى المناهج وعلى الإجراءات التي تجعله أكثر نجاعة، قد ظهرت في حوض البحر الأبيض المتوسط منذ 2500 سنة[3]. وفي الواقع، تعد أثينا القديمة إبان القرن الخامس قبل الميلاد، الموطن الذي برزت فيه معرفة نسقية في هذا المجال باسم “البلاغة”.
تمزج هذه البلاغة أول الأمر كل شيء في عجين أولي يبحث شيئا فشيئا عن نظامه ومصيره. ليست البلاغة الأولى سوى حجاج وبرهنة، وبحث عن نظام الخطاب، كما هي أيضا تطويع للآراء والأذهان، وهو ما يؤكد أن كل شيء قابل للحجاج، وأن الخطيب رجل سلطة أكثر منه رجل أخلاق ورأي. وانطلاقا من هنا، ستبسط البلاغة “امبراطوريتها”، كما يعبر رولان بارت “بشكل أوسع وأكثر امتدادا في الزمان من أي إمبراطورية سياسية، بأبعادها ومدتها”، بأشكال مختلفة، حتى يومنا هذا. ومنذ 2500 سنة، وحتى بروز حقول المعرفة المختلفة في نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت محورا يتمركز عليه التعليم.
يتعلق الأمر هنا، كما لاحظ فومارولي، بـ”ظاهرة ممتدة في الزمن، ولكنها قادرة بفعل تجذرها في الطبيعة الإنسانية، على إحداث التحولات المذهلة، من جيل إلى جيل، ومن مكان إلى مكان، ومن فرد إلى فرد”[4]. إن دراسة هذه الأشكال ستشكِّلُ من ثَمَّ مدخلا مناسبا جدا لأجل فهم أحسن، من وجهة نظر أنتروبولوجية، لتطور الثقافات.
إن تاريخ العلم والمعارف المتراكمة في البلاغة، هو أيضا تاريخ الانفصال التدريجي، منذ المرحلة القديمة، لـ”فن الإقناع” عن الكلام الجميل، ولكن أيضا مع البحث عن الحقيقة، خصوصا في شكلها العلمي. وهكذا، سنتوقف عن خلط “الكلام الجميل” بالكلام المقنع، وخلط البرهان بالنشاط الذي يتوخى الإشراك في رأي محتمل.
فعل ضروري
يتطلب تعريف حقل الحجاج القبض على خصوصية هذا الحقل الجوهري في النشاط الإنساني والإحاطة به. وهو ما سيشكل موضوع هذا الفصل. ولأجل هذه الغاية، نقف على ثلاثة عناصر:
-يفيد الحجاج أولا التواصل؛ فنحن في “موقف تواصلي” يتضمن، مثل أي موقف من هذا النمط، رسالة ومشاركين، أي دينامية حقيقية؛
-ليس الحجاج إقناعا مفروضا، وهو ما يفترض قطيعة مع التطويع- أي التأثير القسري بالمعنى الذي لا يكون فيه التطويع قائما على وسائل الإقناع؛
-الحجاج معناه البرهان، أي اقتراح الرأي على الآخرين وتزويدهم بالأدلة الكفيلة بجعلهم يذعنون له.
وعلى نحو ما نرى، فإن الممارسة ليست بسيطة. ففي الواقع، يفترض الفعل الحجاجي أن الشخص الذي يخضع له، يدرك أنه مندمج في موقف تواصلي. ولا ريب أن من يجهد نفسه للإقناع “في الفراغ”، أو من يتوجه إلى “المتلقي الكوني” -كما سماه بعض الفلاسفة- وهو شخص غير محدد، سيواجه بعض الصعوبات. في هذا الاتجاه، لا يكون الحجاج كونيا أبدا (بينما يكون الاستدلال ببرهان رياضي، مثلا،كونيا).
يفيد الحجاج -أيضا- معرفة كيف نحصر أنفسنا في إطار أخلاقي معين: فقد يكون من الأسهل أحيانا أن نقنع الـمُخَاطَبَ، على الأقل لمدة قصيرة، باستعمال وجوه الأسلوب فقط، أو براهين ناقصة. ويكون من الأسهل كذلك على من يمتلكون المهارة، التطويع النفسي للمتلقي لأجل الإقناع. ولكن الفعل الحجاجي يفيد أيضا رفض استعمال كل الوسائل لخدمة قيمة واحدة: أي رفض تحقيق النجاعة بأي ثمن. يتضمن الاستخدام الجيد للحجاج إذن قطيعة مع عالم تقنيات التأثير القسري. لقد أُعْدِيَتْ البلاغة لفترة طويلة جدا بإجراءات من مختلف الأنواع. ولأجل جدل واضح يتوجب علينا الآن أن نفصل بدقة بين أنواع الإقناع.
وزيادة على ذلك، فإنه على الرغم من الأعمال العديدة والمقنعة التي أُنجِزت حتى يومنا هذا حول الحجاج، يبقى من الضروري إعادة القول على الدوام في الموضوع. إن موضوع الحجاج يتطور -من دون شك- بسرعة أكبر مما تتطور النظرية. فنمو اللغة، وصيغ التواصل، والقيم أيضا، التي كانت لها أهمية كبرى في الحجاج، جعلت منه مادة حية.
ويتوجب على النظرية أن تبقى دائما في تجدد مستمر. إن اختيار الأمثلة، الذي ظل مسألة كبرى بالنسبة إلى كل من يؤلف في هذا الميدان، هو مؤشر جيد على هذا التطور السريع. سابقا، أشار المؤلف المجهول في مقدمة كتاب La Rhétorique à Herrenius المنشور في القرن الأول قبل الميلاد، إلى ضرورة عدم أخذ الأمثلة دائما من المصنفات القديمة. ويعلن عديد من المؤلفين -مع ذلك- صعوبة وجهة النظر هاته. وهكذا سنعمد إلى اختيار أمثلتنا من المدونة الكلاسية مثلما نختارها من الأحداث السياسية والاجتماعية الجارية. وما دام لا يوجد في النهاية حجاج سوى في الجدل الديموقراطي، فإن معظم الحالات التي قمنا بتحليلها مستمدة منه.
[1]Détienne, 2003. –1
[2]Breton, 2000 et 2006. –2
[3]Breton et Gautier, 2000.-1
[4]– 1994، ص.2.
د.عبـد الواحد التهامي العلمي