فيليب بروطون
الحجاج في التواصل
ترجمة
د.محمد مشبال
د.عبـد الواحد التهامي العلمي
Philippe Breton, L’argumentation dans la communication, Quatrième édition, La Découverte, Paris, 2006.
المقدمة
أن تعرف كيف تحاجج ليس من قبيل الترف الزائد بل هو ضرورة. أفلا يعد افتقاد هذه المهارة، بالإضافة إلى ذلك، أحد المنابع المتواترة الكبرى للَّامساواة الثقافية التي تُضاف إلى اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية التقليدية وتعززها؟. أفلا يعد إذن العجز عن التحكم في الكلام لأجل الإقناع، أحد الأسباب الكبرى للإقصاء؟ هل يمكن وصف المجتمع الذي لا يوفر لكل أعضائه الوسائل ليكونوا مواطنين يمتلكون كفاية التخاطب، بأنه مجتمع ديموقراطي؟
والحق أن كل المجتمعات الديموقراطية تواجه مشكلا مشتركا؛ أي تلك الصعوبة التي يستشعرها عدد كبير من المواطنين في التخاطب، وذلك وفق رأي كريستوف أندري (Christophe André) وباتريك ليجيرون Patrick Légeron)) عندما قالا: “إن رهبة الكلام في حضور الجمهور هي من دون شك أكثر انتشارا بين معاصرينا”.[1]
وغالبا ما يكون هذا القلق مرتبطا بالموقف الحجاجي، أي ذلك الموقف الذي ينبغي من خلاله بكل دقة إقناع المتلقي في إطار مهني، أو مجتمعي، أو سياسي، وفي سياق عائلي، أو إخواني أيضا.
ينتمي الحجاج في الحقيقة إلى مجموع الأفعال الإنسانية التي تسعى إلى الإقناع. فعديد من مقامات التواصل تسعى في الواقع إلى حمل الفرد أو المتلقي أو الجمهور على تبني سلوك ما أو مشاطرة رأي معين.
يمثل فعل الإقناع بشكل عام بديلا ممكنا للعنف الجسدي. لهذا فهو يعد عنصرا أساسا في إصلاح الأخلاق التي تتضمنها الديموقراطية. في الواقع، نستطيع باستعمال القوة أن نحصل من الآخر على فعل غير مرغوب فيه بصفة عامة. فالاستغناء عن استعمال القوة يمثل خطوة نحو إنسانية أكثر؛ أي نحو رابط اجتماعي يكون متبادلا وغير مفروض.
لكن في جميع الأحوال لا يخلو الإقناع من مظاهر العنف، سواء أكانت جسدية أم وسائل قسرية أخرى. فالدعاية التي استعملت بشكل واسع طوال القرن العشرين، على سبيل المثال، تعتمد طرائق منظمة لأجل إكراه الجماهير. تمارس هذه الطرائق عنفا عقليا لا يمكن إنكاره، إلى درجة أنه استُعملت في نعتها استعارة من قبيل “اغتصاب الجماعات”. على هذا النحو، سنميز إذن بوضوح، بين فعل الحجاج وفعل التطويع، بوصفهما وجهين متعارضين للإقناع.
الإقناع
يعد الإقناع إحدى جهات القول الأساس للتواصل، الذي يكون القصد منه إما التعبير عن إحساس أو عن حالة أو عن نظرة فريدة إلى العالم أو إلى الذات، أو يكون القصد منه الإخبار؛ أي وصف موقف معين على نحو أكثر موضوعية، أو يكون القصد منه أيضا الإقناع بواسطة أدلة تحمل المتلقي على الانخراط في رأي ما. فالتعبير، والإخبار، والإقناع، ثلاثة سجلات غير مختلطة، على الرغم من أن الحدود بينها ليست دائما بالدقة التي تفترضها النظرية، وذلك بفعل ثراء الكلام الإنساني.
تتنوع الوسائل المستعملة في الإقناع غاية التنوع، وتستخدم إجراءات معقدة تمتاح من غنى السلوك الإنساني. ولعل الغاية من هذا الكتاب جعل القارئ يندمج في وسيلة من هذه الوسائل؛ أي الحجاج، الذي تتمثل خصوصيته في تشغيل استدلال داخل مقام تواصلي.
إن تعريف الحجاج الذي أخذنا به في هذا الكتاب يضع دراسته جذريا في الحقل الذي كنا قد اصطلحنا عليه ب”علوم التواصل”. فهذا المجال يُعنى بكل ما يتصل بصياغة الرسائل ونقلها، كما يُعنى أيضا بالدلالة الاجتماعية لمثل هذه العمليات. [2]
الشكل1. السجلات المتنوعة للتواصل
لنتذكر فورا أن الحجاج يتضمن مُرْسِلا نطلق عليه لفظا عاما هو: الخطيب _ ورِسَالَة، التي تتكون من الرأي الـمُشَكِّل لغرض الإقناع، والمتلقي؛ أي الآخر أو الجمهور- ويسمى هنا غالبا: المتلقي (بالنسبة إلى المصطلحات التقنية يمكن الرجوع إلى المفردات المثبتة في آخر هذا الكتاب). يندرج الحجاج إذن، بشكل واضح، في المثلث التقليدي “مُرْسِل- رسالة – مُتَلَقٍّ” الذي تدرسه علوم التواصل، بأشكالها المختلفة.
على الرغم من أن أعمالا عديدة كانت مخصصة منذ القدم للآليات الحجاجية، فالأمر جديد نسبيا عندما نراها في ضوء اصطلاحات علوم التواصل.[3] وتظل الحاجة ماسة إلى بناء معرفة في هذا المجال انطلاقا من نظرة جديدة ، وليس على أنقاض الماضي.
[1]– 2000، ص.74.
[2]– أنظر أيضا Miège، 1955، و Breton، و Proulx، 2006 .
[3]1-Breton et Gautier, 2000.