صدر كتاب “الحركة العلمية والثقافية بتطوان من الحماية إلى الاستقلال (1912-1956)” لمؤلفه الأستاذ إدريس خليفة، سنة 1994، ضمن منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وذلك في جزأين منفصلين. والكتاب –في الأصل- ثمرة مجهود جامعي قام به المؤلف للحصول على شهادة الدكتوراه، تطلب إنجازه الكثير من الوقت ومن البحث ومن التنقيب. ولا شك أن صاحبه قد أسدى خدمة جليلة للباحثين ولعموم أبناء المدينة المهتمين بتراثها الحضاري العريق، من خلال نشره لهذه الدراسة وتعميم تداولها وتيسير الاطلاع على نتائجها. ولقد نجح –إلى حد كبير- في إعادة رسم ملامح البهاء الثقافي والعلمي لهذه المدينة الأندلسية العريقة، بشكل تحول معه الكتاب إلى أهم عمل تصنيفي في مجال تخصصه، مساهما في سد ثغرات كبرى كانت تكتنف البيبليوغرافيا التاريخية والجغرافية والثقافية والعلمية لمدينة تطوان خلال العصرين الحديث والمعاصر. لذلك، نقول إن الأستاذ إدريس خليفة قدم عملا غير مسبوق، لا على مستوى طبيعة القضايا المدروسة في الكتاب، ولكن –وهذا هو الأهم- على مستوى تسليط الضوء على مظان مصدرية كانت بعيدة عن التداول أو ظلت رهينة النسيان وحبيسة ظلام المكتبات الخاصة. إنه وجه تطوان الأصيل المنبعث من وسط عتمات ركام هائل من المواد المصدرية الموزعة هنا وهناك، مع ما يترتب عن ذلك من صعوبات التوظيف والتصنيف والتقييم والاستغلال. ولعل أهم ميزة يمكن أن يختص بها الكتاب، دوره الكبير في الكشف عن تقاطع الإسهامات المحلية مع التراكمات الوطنية في المجالين الثقافي والعلمي، بشكل تحولت معه مدينة تطوان إلى جسر لمرور مؤثرات حضارية شتى تداخل فيها العربي الإسلامي، مع الأمازيغي المحلي، مع المتوسطي الإيبيري. لذلك، فإن التأريخ للحركة الثقافية بمدينة تطوان خلال القرون الماضية، هو –في الحقيقة- جزء من العمل التوثيقي الضروري والموجه لكل محاولات تطوير دراسات إبدالات التاريخ الذهني والثقافي الوطني بشكل عام. ولعل هذه ما اختزله الأستاذ خليفة في كلمته التقديمية عندما قال: “…فكانت هذه الدراسة… شاملة لأهم النواحي التي تتعلق بتطوان في العصر الحديث إلى الاستقلال. ولكن التأريخ لتطوان بها لا يعني انفراد المدينة بالبحث والتنقيب، ذلك لأن عوامل النهضة بها مرتبطة بعوامل النهضة المغربية والعربية في العصر الحديث، والذين ساهموا فيها كانوا من هذه المدينة الحمامة البيضاء ومن بوادي المغرب ومن المدن المغربية الأخرى… ولهذا فإن الحديث عن هذه النهضة بتطوان هو في نفس الوقت حديث عن نهضة المغرب في العصر الحديث وعوامل انبعاثه الخاصة والعامة. ولعل هذه الدراسة تكون لهذا لبنة من لبنات البحث عن يقظة المغرب في العصر الحديث ومقوماته الروحية والفكرية والوطنية، يبني بها وبغيرها صرح البحث عن هذه النهضة وعواملها ومظاهرها…” (ص ص. 2-3).
تتوزع مضامين الجزء الأول من الكتاب بين ثلاثة أقسام متكاملة، غطت أهم المداخل الأساسية لدراسة الموضوع. وقد راعى المؤلف –فيها- تدرج عناصر البحث بعد أن وزعها على تصميم دقيق يستجيب للشروط المنهجية الضرورية لمثل هذا النوع من الأعمال. في هذا الإطار، خصص القسم الأول لتقديم معطيات جغرافية أساسية تناول فيها حقيقة اسم تطوان وموقعها، والأوصاف العامة التي خلفتها كتابات عديدة حول المدينة، ووصف ضواحيها ومنتزهاتها، وتوزيع ساكنتها، ونوعية عاداتها، وتاريخها الاقتصادي، وطبيعة الموارد المعيشية للسكان وخاصة التجارية منها. وانتقل في القسم الثاني للتعريف بجهاد قبائل الشمال ضد الاستعمار، وكذا بتاريخ الحركة الوطنية بمدينة تطوان حسب ما تبلور خلال النصف الأول من القرن 20. أما القسم الثالث، فقد خصصه المؤلف لتفصيل الحديث عن تطور أوضاع التعليم والثقافة بمدينة تطوان، مركزا –في ذلك- على رصد قطاع التعليم بالمدينة، وعلى التعريف بأنواعه وبفروعه الأساسية، وعلى التمييز بين التيارات الثقافية التي عرفتها المدينة وخاصة بالنسبة لتيارات التصوف والسلفية، وعلى الوقوف عند الأدوار الصحافية الرائدة التي ارتبطت بنضال الحركة الوطنية خلال عهد الاستعمار ثم خلال عهد الاستقلال، وكذا على ظروف ظهور الإطارات والهيآت العلمية الأولى بالمدينة والتي تخرجت منها أفواج الباحثين المغاربة التي عملت على مجابهة مشاريع الاستعمار الهادفة إلى طمس التراث الحضاري للأمة وإلى تدجين تطلعات الناشئة وإلى مسخ الهوية الجماعية للمغاربة.
وفي الجزء الثاني من الكتاب، قدم المؤلف معطيات توثيقية هامة حول أهم مكتبات المدينة، مركزا على التعريف بذخائر المخطوطات التي أنتجها علماء المدينة والتي تعرض الكثير منها للتآكل وللضياع بسبب عوادي الإنسان والزمن. وفي نفس السياق كذلك، قام المؤلف بالتعريف بأهم الجوائز الأدبية وبأعياد الكتاب والمعارض الثقافية التي اشتهرت بها المدينة، كما تطرق للأدوار الثقافية والتربوية الهامة التي اضطلعت بها كل من “جمعية الطالب المغربية” التي أسسها عبد الخالق الطريس سنة 1932 و”نادي الوحدة المغربية” الذي أسسه محمد المكي الناصري سنة 1937، إلى جانب مجموعة من المجالس الخاصة للثقافة وللعلم. وارتباطا بهذا الموضوع كذلك، اهتم المؤلف برصد خصوصيات الحياة الأدبية بالمدينة، وبخصوصيات الصناعات التقليدية والإبداعات الموسيقية التي خلفها أبناء المدينة. وفي القسم الرابع والأخير من الكتاب، انتقل المؤلف لتفصيل الحديث عن سير العلماء والأدباء الذين تعاقبوا على المدينة. وقد ميز في ذلك بين العلماء والأدباء التطوانيين أمثال أحمد الزواقي، وأحمد الرهوني، ومحمد الفرطاخ، ومحمد المرير، ومحمد الصادق الريسوني، وعبد السلام بنونة، ومحمد داود، والتهامي الوزاني، وعبد الخالق الطريس، وامحمد بن عبود،… وبين العلماء الذين دخلوا تطوان خلال فترة الاستعمار أمثال شكيب أرسلان، وأمين الريحاني، وعبد الرحمان ابن زيدان، ومحمد المكي الناصري، وعبد الله كنون،…
وبارتباط مع هذا النبش في سير الأعلام والمفكرين من ذوي الارتباط بمدينة تطوان، قدم المؤلف مجموعة من الملاحق التي أغنت الدراسة من جوانبها المختلفة. وقد صنف هذه الملاحق ضمن سبع مجموعات متكاملة غطت قضايا مركزية في اهتمامات نخب المدينة ومثقفيها. في هذا السياق، وفي باب “ظهائر ثقافية”، أدرج المؤلف نص ظهير بإعادة تنظيم مجلس رعاية الأبحاث والثقافة العليا بالمغرب، ونص ظهير إنشاء معهد مولاي الحسن للدراسات المغربية، ونص ظهير البحث عن المخطوطات، ونص ظهير إنشاء بيت المغرب بالقاهرة، ثم نص ظهير تعيين الشيخ محمد المكي الناصري مديرا لبيت المغرب بالقاهرة. وفي باب “نصوص في انتقاد الحماية والمطالبة بالاستقلال”، أدرج المؤلف نصين لكل من محمد المكي الناصري وعبد الخالق الطريس بهذا الخصوص. وفي باب “‘نصوص أدبية من المنظوم والمنثور”، أعاد المؤلف نشر كتابات شعرية ونثرية للعديد من الأسماء التي طبعت الساحة الثقافية خلال عهد الاستعمار، من أمثال أحمد عبد السلام البقالي، وتقي الدين الهلالي، والتهامي الوزاني،… وفي باب “نماذج إجازات حررها علماء القرويين لطلبة تطوان وفقهائها”، نشر المؤلف نصوصا توثيقية لبعض هذه الإجازات والخاصة بكل من أحمد الرهوني، وأحمد بن تاويت، ومحمد باغوز، وعبد الحي القادري. وفي باب “من الصور الفريدة للرقابة العلنية على الصحف والمجلات بشمال المغرب في هذه الفترة”، أعاد المؤلف نشر صور أغلفة عددي 15 و16 من مجلة “المغرب الجديد” والتي تبين نوعية الرقابة الصارمة التي كانت تفرضها سلطات الاستعمار على كل المنشورات الوطنية خلال الفترة المعنية بالدراسة. وفي باب “نصوص الحياة الاجتماعية”، أعاد المؤلف نشر مجموعة من المواد المتنوعة ذات الصلة بالموضوع، مثلما هو الحال مع وضعية المرأة وأوضاع المقبرة الإسلامية بتطوان،… وفي آخر ملاحق الكتاب والمعنون ب”صورة المعالم الأثرية لتطوان”، قدم المؤلف مجموعة فوتوغرافية هامة لبعض المواقع الأثرية الخالدة لمدينة تطوان، ونخص بالذكر، ساحة الفدان، وأبراج المدينة، وباب العقلة، وصومعة الجامع الكبير، وباب الجامع الكبير، وصحن الجامع الكبير، وباب الزاوية الحراقية، وباب الزاوية الريسونية، وبعض نقوش القصر، وسقاية باب العقلة، وأطلال مدينة تمودة الأثرية.
وبذلك عزز الأستاذ إدريس خليفة مجال الدراسة بإضافات نوعية هامة، أغنت رصيد المنجز التاريخي الذي اشتغل على التراكم الثقافي والعلمي لمدينة تطوان، بشكل سمح بسد الكثير من الفجوات التي ظلت تكتنف هذا المجال. وإذا كان موضوع الدراسة لازال في حاجة إلى مزيد من البحث ومن التنقيب قصد تغطية ما سقط من كتاب الأستاذ خليفة، فالمؤكد أن هذا العمل يقدم الأرضية الضرورية للاشتغال وللانطلاق، وذلك على الرغم من كل الملاحظات التي يمكن تسجيلها على طريقة المؤلف في تجميع مادته المصدرية وفي تصنيفها وفي استغلالها.
أسامة الزكاري