بسم الله الرحمان الرحيم
إن تكريم العلماء أحياء وأموات، والتعريف بهم، وسرد مناقبهم، هو تعظيم للأمة الإسلامية. ومن أجل هذا ، يقول العلامة سيدي المختار السوسي في تحفته ” سوس العالمة “:[ يجب التعريف بعلماء الأمة قبل كتابة تاريخها.]
قال أبو الحسن المرغيناني:
ألم ترأن العلم يذكرأهله ^ بكل جميل فيه والعظم ناخر
سقى الله أجداثا أجنت معاشرا ^ لهم أبحر من كل علم زاخر
ومن بين هؤلاء العلماء، شيخنا العلامة الهمام، والمشارك الزاهد، العارف بالله سيدي عبد الله التليدي.
لقد اخترت أن أتحدث عن الحياة الروحية عند شيخنا سيدي عبد الله التليدي؛ وأقصد بذلك، التربية الروحية المزهرة في حدائق المعرفة بالله، حدائق التصوف.
وفي هذا، يقول شيخنا رحمه الله ” فمبنى طريق القوم هو التخلي عن الرذائل والأخلاق الساقطة، والتحلي بالفضائل والأوصاف الكاملة.” أي التصوف كله أخلاق.
وقد قيل: من زاد عليك بالأخلاق، زاد عليك بالتصوف.
ومعلوم أن الطريق إلى التصوف طريقان: طريق المجاهدة، وطريق المحبة أو الاصطفاء؛ أي العباد الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى وجذبهم عنده.
وشيخنا الجليل من صنف الذين ولجوا عالم التصوف بالمحبة أكثر من المجاهدة . أي نعم هو قد جاهد بالشكر ومعاينة نعم الله سبحانه وتعالى، وهي نعم عظيمة جليلة وجدانية بالأساس، متعلقة بعالم الملكوت.
ويبقى السؤال المطروح : ما الدليل على اختيار شيخنا طريق المحبة؟
لقد عاش سيدي عبد الله التليدي في بدايته غارقا في محبة الله ومحبة رسوله، فبمجرد ما انتهى من حفظ القرآن، بدأ مسيرته العلمية بالجامع الكبير؛ حيث المسجد الأعظم والمعهد الديني الأول بطنجة، الذي كان يترأسه العلامة سيدي عبد الله كنون آنذاك، بمعية ثلة من العلماء الذين يحاضرون به، كأن سيدي عبد الله التليدي يقضي يومه كاملا بالجامع الكبير، وفيه رأى رؤية عجيبة عظيمة تدل دلالة قاطعة على أنه سيكون من الوارثين، بل سيكون من من الناس الذين سيترجمون الإرث المحمدي لعامة الناس [ الرؤية مضمونها أنه رأى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يجمع الزكاة ويفرقها] وكان كذلك، حيث جمع العلم ثم نشره بأمر نبوي محمدي. ومن هنا، بدأت مسيرته لمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أوردها في كتاب سماه ” المبشرات التليدية “.
والمتتبع لأحداث هذا الكتاب، سيدرك الزخم الروحي العجيب والغير عادي الذي كان يعيشه شيخنا رحمة الله عليه.
ومن بين الدلالات المرتبطة بالمحبة، أنه كان يقرأ كتاب ” بستان العارفين ” ليحيي بن شرف النووي، وهو كتاب نفيس جدا من جهة الرقائق والتخلق بالأخلاق المحمدية، وأخلاق الصالحين، والعيش للآخرة، اقتداءا بقول الحبيب المصطفى《 اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة. 》وهذا ديدن المتصوفة أن يعيشوا حياة أهل الجنة في الأرض.
طريق التصوف هي أيضا طريق التقوى، وهذه الأخيرة خمس مراتب: تقوى الحرام – تقوى الشبهة – تقوى المباح – مطلق الحلال – ما سوى الله. وهذه الصفات برمتها كانت مجتمعة في شيخنا رحمة الله عليه .لذلك، كان من أهلالله وخاصته، اصطنعه الله وهيأ له مهمة ربانية والتي من خلالها سيكون وارثا للإرث المحمدي، ويؤدي دورا طلائعيا، فانقطع إلى الله، وأقبل عليه، وهذه المرتبة تسمى بالتبتل، مستجيبا لنداء ربه ” وتبتل إليه تبتيلا” المزمل الآية 8.
مقام آخر عزيز جدا تحلى به شيخنا رحمة الله عليه، وهو التوكل المطلق، بحيث لم يكن يفكر في قوت يومه ولا يقلق من أجله، بل يعيش بحق اليقين : بمعنى أخذها بعلم اليقين، ثم رآها بعين اليقين، فأصبحت حق اليقين.
ومن أمثلة توكله المطلق على الله، مارواه لي أحد مريديه، أنه رحمة الله عليه كان قد قرر أن يتجه نحو المدينة المنورة، وينقطع هناك عند المولى عز وجل ، لكن رسالة محمدية أتته في المنام تخبره أنه سيعود إلى طنجة، سيؤسس مدرسة وسيتخرج منها أجيال. وحقا المدرسة التليدية تاريخ وأجيال؛ منهم الخطباء والعلماء والفقهاء وغير ذلك.
وهذا ما حصل بالفعل، هيأ الله له الأسباب عز وجل، وسخر له عباده الصالحين، فأسس الزاوية التليدية بفضل الله وبفضل بعض المريدين الذين كانت لهم علاقة قلبية بالشيخ.
ومن الصفات الجميلة التي كان يتحلى بها أيضا، ميله إلى السلاسة والوضوح وعدم التكلف، وعبارة أخرى كان محتسب الصوفية في العصر الحديث رضوان الله عليه.
وكمثال على ذلك ؛ كان إذا أحس بالمجمع لا يحتمل الاستماع إلى مسائل مرتبطة بالحقائق والمعارف المدنية عند العارفين، والتعبير التي فيها طلاسم ومفاهيم غامضة ، يتوقف عن ذكرها لأن العقول لا تستسبغها.
ولعل أجمل الأشياء التي أجاد فيها الشيخ وأبدع، اعتماده منهج التقريب والمقاربة. ولتوضيح هذا المنهج؛ يمكننا أن نقيسه على قول الرسول صلى الله عليه وسلم [ بشروا ولا تنفروا] وسيدي عبد الله التليدي يقول[ قاربوا وسددوا ] وهذا هو فن المقاربات.
فيحدث مثلا أن يكون بصدد شرح حديث في المسند إمام أحمد، وقد يتكرر هذا الحديث بطريقة أخرى، لأن الإمام أحمد يعدد الطرق التي بواسطتها يروي ذلك الحديث، فيستقي منه فقها، ويبين المذهب الفقهي الذي اعتمده مضمون الحديث ، ويستفيض في شرحه لدرجة أنك تكاد تجزم أنه يميل إلى ذلك المذهب، وفي اليوم الموالي يأتي برأي آخر فهم الحديث بطريقة أخرى، ويطور الفكرة التي أتى بها لدرجة يجعلك تتساءل وتأخدك الحيرة : هل هو مع هذا المذهب أو ذاك؟!
والرسالة التي يريد أن يبلغها إلى مريديه هي أن مسؤولية الإفتاء ليست بالأمر الهين.
شيخنا الجليل رضوان الله عليه بلغ درجة العارف بالله. والعارف بالله نوعان: كفائي أو حمائي. والعلامة سيدي عبد الله التليدي مارس النوعان.
فقد كان كفائيا؛ حيث تحققت فيه المقومات الخمس التي يبلغ فيها الإنسان مرتبة عالية جدا وهي :
1 – المعرفة بالله : وقد كان رحمة الله عليه عارفا بآيات الله وأسمائه معرفة دقيقة علمية.
2- النفرة من الضد: وكانت عنده فطرية؛ ومعناها النفور مع كل ما يتعارض مع مصالح الدين ومقاصد العبادات.
3- الخوف من الله: بحيث يكون هذا الخوف مركزيا، ويتعاظم بحيث يصبح صلبا، والمخاوف الأخرى هشة. وهذا ما كان يعبر عنه ب ” لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه “.
4- التسامح: وهو مقام عزيز جدا، فقد عرف بقلبه المتسامح، وصدره السليم، لا مكان للضغينة فيه، مؤمنا بمقولة ( من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ).
5- كمال العقل: وقد برهن الشيخ بكتاباته وبعلميته واجتهاده المطلق، على كمال عقله استبصارا واستذكارا وفهما.
و ما يميز الحمائي أنه يشترك مع الكفائي في خصلة التسامح، ويختلف في صفات أخرى وهي:
1ـ الرحمة:وقد كان رحمة الله عليه نموذجا لهذه الصفة، سواء مع عشيرته، تلاميذه ومريده، أو بالناس عامة.
2ـ قوة الإرادة: كان بإمكانه رحمة الله أن يقود بأمة قيادة تنظيمية، لكنه اختار أن يقود بالهمة، أي قيادة روحية، حيث كان ينقل تأثيره بهمته، وهذا من باب التربية التي وصل إليها مع مريديه، لدرجة يمكن أن يلاحظ التغيير الذي يطرأ عليهم بسبب مصاحبتهم له.
3ـ خفض جناح الذل: وهو أعلى مستوى في التواضع؛ تواضعه مع العلماء والأشراف،تأدبه في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يكره كتابة (ص) بعد ذكر الرسول، وهذا الأمر نجده جليا في مخطوطاته. تأدبه كذلك مع مريديه الكبار في السن، بحيث كان يخصص يوم الجمعة لزيارتهم.
4ـ البصيرة: سيدي عبد الله التليدي فتح الله له حواسه الباطنة، هذا ما جعله يتميز بالفراسة وبالرؤية الباطنية.
يقول أحد مريديه : العلامة سيدي عبد الله التليدي ، علمنا مبدأ، علمه إياه شيخه سيدي أحمد بن الصديق، وهو أن لا نخلط بين التحقيقات العلمية ، والاجتهادات الفقهية والوصايا التربوية، فقد كان رحمة الله عليه يتقبل الرأي الآخر سيرا على مبدأ ” قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ”
هذا فيض من غيض ما جاد به شيخنا سيدي عبد الله التايدي رحمة الله عليه، والذي لا تزال أعماله ومؤلفاته نورا يبصر العقول المظلمة، وزادا لكل متعطش للعلم والمعرفة.
وصدق الشاعر حين قال:
أخو العلم حي خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم |
دة. نبوية العشاب