مع التقدم الخارق في مجال تكنولوجيا المعلومات الرقمية، ومجال خدماتها، وأفق عولمتها وتسويقها الشاسع، دخلت البشرية مرحلة فاصلة في حياتها، اتسمت باتساع وتسريع القدرة على توفير المعلومة واستثمارها. ومما لا شك فيه أن ذلك أتاح أداء حيويا في مجال الإمكانات الخدماتية على كل الأصعدة…الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها.
غير أن هذه التكنولوجيا المعلوماتية سرعان ما حفزت الرغبات المَرَضية في الانحراف بتقنيات الحصول على المعلومة من مجالها العمومي المفترض، واتجهت بها نحو سياقات خصوصية محضة. مما أدى إلى خطر تهديد الاستقلال الذاتي للفرد، عبر الاختراق المغرض لفردانيته، إما بدافع تعريضه للسخرية، أو بدافع ابتزازه سياسيا أو ماليا.
يعرف المجال القضائي حاليا عدة قضايا مرفوعة ضد أشخاص ذاتيين أو معنويين انتهكوا الحق، المشمول قانونيا بقوة الدستور، في حياة خاصة مصونة محفوظة.
هذا الشطط في التلصص على حميميات الأفراد وتعريضها للشيوع المضر بين عامة الناس، يمارسه أشخاص منفردين تدفعهم إلى ذلك نزوعات نفسية مرضية خاصة، كما تمارسه مؤسسات بصفات متنوعة بخلفية الضغط الممنهج على الأشخاص المستهدفين.
المنظومة القانونية بالتأكيد تجرم هذه الأفعال المنافية للأخلاق العالية من ناحية إنسانية، والمخلة بالتماسك الاجتماعي والمسببة في ترويج الإشاعات والتناحرات بين المواطنين من ناحية ضبطية محضة.
وبالرجوع إلى الكتب الفقهية نجد أنها تعنى في مجملها بحق الفرد في حماية بعض مظاهر حياته الخاصة، والمحافظة على سريتها بما يصون سمعته ومعطيات حياته التي يحرص على تبقى في منأى عن الناس.
كما أن التشريع الإسلامي جعل الأصل الشرعي لحرمة الحياة الخاصة واضحا يقوم في أساسه على تحريم كل أشكال التجسس والتلصص وسوء استعمال الظن والتأويل في حياة الآخرين والغيبة وإشاعة الأسرار بشكل عام. يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ان بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً.}.
والظن هنا هو المرادف الدلالي المقابل للإشاعة والتشهير، يقوم على خلفية التهمة بدون قرينة حال تدل عليها. وقد صح الحديث بتحريم الظن السيئ بقوله صلى الله عليه وسلم (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله اخواناً). هكذا نسجل أن المرجعية التشريعية الإسلامية تحرم وتجرم التجسس الذي هو تتبع عورات الناس وكشفها واطلاع الغير عليها.
ما أكثر المآسي العائلية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تسببت فيها هذه المنازع المرضية التي تسعى إلى انتهاك حق الأفراد في ممارسة خصوصياتهم وفق ما يكفله القانون وتصونه الشريعة الإسلامية.
• عبد الإله المويسي