قبل أن تكون هدى المجاطي؛ كان والدها الطيب الأستاذ السيد الطيب حفظه الله الذي عرفته أستاذا لي، وصديقاً في مرحلة لاحقة، تجمعنا لَمَّةٌ كان تواصلها بمقر جمعية أصدقاء المعتمد الأدبية في عزها في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، وبالمقهى المجاور في أسماء، تجمعها روح الثقافة والتطلع المعرفي، وحميمية الملتقيات الترفيهية بالمنتزهات المحيطة بشفشاون بمناسبلتها. كان الرجل في عمله وصحبته محترماً ودوداً. ولما كان البلد الطيب يَخْرُجُ نباتُه بإذن ربه؛ فقد كانت هدى فسيلة من فسائل بيت هذا الرجل الفاضل، وشجرة وريفة الظل استظل بها هذا البيتُ فيما بعدُ ونَعِمَ بثمارها، ونَعِمَ بها من عرفها إنسانة وأستاذة وباحثة ومؤطرة.
على مرور بعض إخوتها تلامذة متلقين لدي بما تميزوا به من أخلاق واجتهاد؛ فإن هدى لم يتيسر لي التعرف عليها حتى أصبحت باحثة. كان اللقاء ذات مناسبة ثقافية ببهو فندق البارادور بشفشاون: اتصلت بي بهدوء لَبِقٍ طالبة مني حواراً حول شخصي، جعلت جهاز التسجيل الصغير على طاولة بيننا، وجعلت تسأل وأنا أجيب، حتى آخر سؤال في جعبتها، ثم شكرتني في أدب جم، وانصرفت كالنحلة باحثة عن زهرة يانعة لتحط عليها بجهازها ناهلة من رحيقها.
وفي يوم دعاني والدها فيمن دعاهم من خُلَصَائه لحضور مناقشة دكتورتها بكلية الآداب بمرتيل، كانت اللجنة مُوَسَّعَةً ومُنَمَّقَةً بوجوه أَكِنُّ لأكثرها بالغَ الاحترام لمكانتها العلمية والأدبية، وبعد جدل خائض في الموضوع؛ خلت اللجنة للتشاور، لتطالع الحضور بنجاح الأستاذة هدى بميزة مشرف إن لم تخني الذاكرة، وكان احتفالٌ أعقب هذه النتيجة نَدَّ عن كرم سخي، دُعِيَ له حضور المناقشة لجنة ومتتبعين، وأصبحت من يومه الأستاذةُ هدى الدكتورةَ هدى.
وقد نظم فرع اتحاد كتاب المغرب بشفشاون قراءة في أحد جزءي موضوع دكتورتها، وكان كتاباً بعنوان: [من أعلام الكتابة والصحافة بشمال المغرب] تقديم: د. عبد الله المرابط الترغي، وقد دُعيتُ لأشارك في هذه القراءة ضمن إخوة فضلاء من أهل العلم والمعرفة، وكانت مداخلتي مُغرقةً في جديتها واستقصائها، وعقب اللقاء مباشرة، كان جلوسي بجانب والدها الفاضل، فحاولتُ أن أُهَوِّن مما أثرتُه موضوعاً فقال: بالعكس، كان ذاك ما يجب أن يُكون، لتعرف ما ينقصها فتتداركه، في حين، لم تعلق هي على ما كان، تماماً كما لم تعلق على اللجنة المناقشة لموضوع دكتورتها عندما أُعْطِيتْ لها الكلمة، فلم تزد على أن شكرت أعضاء اللجنة مثمنة مداخلاتهم، ولقد أرجعتُ انقباضها إلى حيائها أن تخدش شيئاً استقبلته منهجيا من أساتذتها، أو من المتعاملين الجادين مع إنتاجها، فهي إذن تتقبل الوضع احتراما وتقديراً. وهو نبل ما لم يُشَبْ بما يكدره من أثر سلبي يترتب عليه.
بعدها كان لقاءٌ بدار الثقافة بشفشاون في موضوع المرأة الشفشاونية ـ وهي المرأة الشفشاونية على ميلادها بطنجة وظهورها بطنجة ـ من تنظيم إحدى الجمعيات أَطَّرْنَاُهُ معاً، وقد لفتت انتباهي بما قدمته في الموضوع، وخاصة على مستوى الأسلوب والأداء: كانت لغتها في مداخلتها سلسة جميلة، وكانت إحاطتها بالمضمون تقيداً بمُستفادها من حوارات كانت لها مع بعض الفعاليات الفنية النسائية بالمدينة مما كانت لي ملاحظة عليه، ولكن بصفة عامة، كانت في مداخلتها مُجيدة ومُفيدة، ثم تتالت لقاءاتنا حضوراً بأنشطة ثقافية بشفشاون، كانت تحرص على حضورها متتبعةً مهتمة، وكانت بزيها المحتشم الذي تظهر به في المحافل وفي الناس، وبتواضعها الذي تصل به الجميع تترجم ثقتها بنفسها، وإيمانها بما تفعله: خائضة في معترك الحياة بما يزخر به من القيل والقال، ومن كثرة السؤال وتبدل الحال. كانت مُؤدبَةً إذا تحدثت، ومتمكنةً إذا حاضرت، ووفية إذا وعدت، وناجزة إذا قالت، وكدليل على حضورها الثقافي ونزوعها الإنساني؛ أنها رُشِّحَتْ رئيسة “رابطة كاتبات المغرب ـ فرع طنجة”، وكفى به تكريما لها، ولطموحها مما لم تزل سائرة على نهجه حتى آخر خطوة من عمرها القصير الحافل بالعطاء.
شفشاون في: 11 يونيه 2022
محمد ابن يعقوب