بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
السلام على جلة العلماء، وخيرة الباحثين، وصفوة الأساتذة، الأعزاء والعزيزات من الحضور الطيب، الحمد لله فياض ذوارف المعارف، الشكر الجزيل لمركز عوارف ونخبته المباركة، والمجهودات المتواصلة.
سعيد جدا أن أكون نقطة في مستقيم هؤلاء الأكاديميين والباحثين…
يعد الباحث الأكاديمي، سيدي بدر العمراني، من أعمق الباحثين، في شرطنا التاريخي وسياقاته البحثية والعلمية والأدبية والترجمية… فالذي يخالط هذ الرجل يظفر بسيرة حميدة، ومجالب للسعادة والإسعاد، التي يحصلها من جالس العلماء ، وصحب تواليفهم، واشتم آثارهم الباقية. يقول الماوردي في كتابه «أدب الدين والدنيا» “العلم عوض من كل لذة، ومغني عن كل شهوة، فمن تفرد بالعلم لم توحشه خلوة، ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة” ص 92.
اعتراف وعرفان أستقيه من المصاحبة الممتدة مع هذا الباحث الذي أفدت منه الكثير الكثير، فهو الذي عبد مسالكي نحو البحث، وأيقظ هممي صوب عيون الكتب، نوادرها ونفيسها، مطبوعها ومخطوطها…
في ورقتي هذه، أفرد الحديث عن بدر العمراني المحقق، المشتغل بتحقيق النصوص والعناية بها، وإخراجها من معاطب النسيان إلى مظاهر الإجلاء والتعريف، راجين أن نقدم صورة لسنن هذا الباحث وخطه المنهجي في التراث المخطوط، فهو صاحب لمسة شخصية فريدة، وخصوصية مفيدة. إن التحقيق عنده مغموس في لذيذ الانتقاء، المتجلي في حسن الإصغاء والمحاضرة القلبية والتأملية، في نفيس النصوص، وذخائر التصانيف، زيادة على ذلك أنه قارئ كبير للنصوص النادرة، ومتذوق فاره، وعارف لا يبز ويجارى بنفائس المؤلفات، وعزيز المخطوطات… لن نختلف ولن نبالغ إذا قلنا: إن التحقيق عملية علمية مرهقة ومكلفة بالقياس إلى التأليف، كما تتطلب قدرا كبيرا من الدقة والصبر والأمانة والعلمية، يقول فقيه المحققين عبد السلام هارون رحمه الله “إن التحقيق نتاج خلقي، لا يقوى عليه إلا من وهب خلتين شديدتين، الأمانة والصبر وهما ما هما”.
كما نجد الدكتور أحمد بنبين يؤكد “إن التحقيق صعب لا يلجه إلا الموهوب الذي رزق موهبة الغوص في أعماق المخطوطات وحظي بميزة الصبر على المواظبة على البحث في النسخ القديمة، بالإضافة إلى كفاءة علمية كبيرة وتجربة راسخة، وعلم غزير، وحتى العلم الغزير لا يكفي، إذا كان غير مصحوب بالموهبة”. ويقول الدكتور بدر العمراني “التحقيق مسلك وعر، ومركب صعب، ومن يداخله عليه بالنهوض بأعبائه، والحذر من التهاون في أداء الواجب المنوط به، مع الإخلاص في المهمة، ومخالطة أهل الإتقان والخبرة”. ويضيف “إن المحقق ينبغي له أن يتحلى بالأدب، ويتخلق بالخصال الحميدة، وألا يكون شديدا في النقد، متسرعا في التجهيل وبيان المعاييب، بل عليه أن يتخذ المعاذير ويحسن الظن، لأن الخطأ والوهم من سمة البشر، مهما علا قدره، وسمت مكانته، لذلك إذا وقفنا على وهم، فلا تأخذنا نشوة الانتصار، ونسارع إلى تبخيس حق السابق، بل نعامله بأدب ونراعي جهده العلمي”. فمن خلال هذه الشهادات ندرك مدى الصعوبة التي تكتنف مجال التحقيق، والمشاكل التي تواجه الذين حوَّروا العذاب إلى عذوبة، ويسروا العسر وقلبوه لذة صائغة. إن مجال التحقيق لا يخلو من مشاكل ومصاعب… كما أن التراث المخطوط لا يسلم من خلل ونقص وبتر ورداءة خط، أو جهل ناسخ، أو تصحيف وتحريف أو تآكل وتشويه… وهلم جر. تلك بعض المشاكل التي قد تضعف قوة المحقق، وترجع به القهقرى. إلا أن الباحث في هذا المجال الشائك والمحفوف بالمزالق، يجعل منه أشبه ما يكون بالمحتاج الذي يكتفي بالقليل ويقنع بالموجود، وهذه خصيصة ضرورية تنسحب على عدد من المشتغلين بالتراث المخطوط، والمحقق بدر العمراني واحد من هؤلاء الذين ذاقوا مُرَّ هذا المجال، لكنه ما وهن ولا خارت قواه. فعنايته بالمخطوط وشغفه بخدمته وإكرامه، تعود لأسباب عديدة، وسياقات مختلفة. نشير لسبب نراه قويا وهو سبب متعلق بمكانة وشخصيات فريدة، أخذت بلبه وبكل كيانه، وهي التي كانت له الأفضال عليه في هذا المجال وهو مجال استعذبه، وخبر عوالمه، فحرص عليه بصبر وجلد، وذوق أنيق، فانجذب للمظان والتزم متافنتها ومفاكهتها… المحقق الدكتور بدر العمراني قرأ بعشق وتفان أعمال واجتهادات نخبة وصفوة من العلماء الذين عشقوا بدورهم التراث المخطوط، فجدوا وأجادوا في العطاء والإبداع الأصيل. فهو سليل هذه الكوكبة المباركة المنيرة – رحم الله الجميع – نتذكر الأسماء التالية: محمد الفاسي، محمد بن تاويت الطنجي، محمد المنوني، محمد حجي، محمود شاكر، عبد الفتاح أبو غدة، عبد السلام هارون، إحسان عباس… وبارك الله في أعمار أسماء لقحت المحقق سيدي بدر العمراني ببذور هذه الصناعة الخصبة والجليلة، وألهمته النشاط والحيوية، ليهب بغامر الحب ووارف البحث والتنقيب، وبهجته الأسفار لصيد المعلومة وتقييد الأخبار. إن الباحث شديد الحرص طلبا في العثور على التقاييد والوثائق والترجمات. وهكذا تجمعت للرجل موثقة مدهشة، ومادة غنية، استوت على سوقها لتونع الكتب الطريفة والمفيدة، والرسائل النجيبة والقيمة. إلى جانب التراجم الجديدة التي لا تحاكى ولا تجتر الشواكل الفائتة والأسلاف المكررة. بل تجده نبيها يقظا كيسا، في أغلب ما من شأنه أن يفسد ذوقه الجميل والمسؤول في رص الأوراق، والتحسس من المعلومات حتى تأتي جديدة وذات قيمة. فهو المشهور بالأمانة والخبر الموثوق والمتواتر. إنها خلة من خلل المحققين الأكابر والباحثين الثقات. صفة طالما جاهر بها بدر العمراني، ولا يزال، تحذوه الرغبة الداعمة المصحاح. في إحياء التراث الإسلامي الدفين، وبعثه من ربقات التهميش والنسيان والقطيعة، يقول في إحدى الرسائل بيني وبينه، مؤرخة في 23 ربيع الأنوار 1426 هــ، “بالنسبة للمخطوط وعالمه وعلاقتي به، تنحصر في باب إحياء التراث الدفين، ومن أحياه فكأنما أحيا أجيالا وعصورا ماضية، وكم في هذا العمل من فائدة، وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، بمعنى أن هذا الأمر عبادة مقرونة بالإخلاص وتصحيح النية، لا مجرد تسلية كما يقول البعض، وإلا يكون حالنا كحال المستشرقين الذين قاموا ببعث تراث لا حاجة لهم فيهم سوى الاطلاع ومحاولة معرفة المجهول، مع عبث ومسخ لبعض الأصول، وأما الصعاب التي تكتنف المنغمس في هذا المجال، فحدث ولا حرج عن البحر، وما على خائض هذا الغمار إلا الصبر، فكم من لفظة سهرت فيها الليالي من أجل تحقيقها، وكم ناقل شوش بالي وفكري مظان وجوده، وكم من حديث غريب آيست من الظفر به، فإذا به يطل علي ذات يوم بين دفتي كتاب لم يكن في الحسبان، كل هذه المشاق تهون حينما يتحقق المراد، ويالها من نشوة تغمرني خلال تلك اللحظة، هذه النشوة التي لا توصف، وإنما يعرفها من ذاقها وتحمل تبعاتها”.
محصول الكلام أني أبغي استجلاء بعض الملامح التي من شأنها أن تقربنا من عتبات وخطوط التحقيق لدى المحقق بدر العمراني، باستنادنا على الكثير من الرسائل و النصوص، التي استوقفته على درب هذا الاشتغال، والذي أخذ بلبه، وأثار لديه الحوافز تلوى الحوافز، ونكتفي بعرض هذه العناوين، عناوين تشوفنا أنها توضح لجمهرة المهتمين والباحثين حيزا من الجوانب التي يسلكها المحقق بدر العمراني، وإليك الصنافة التالية:
- “الحنين بوضع حديث الأنين”، للإلمام الحافظ أحمد بن الصديق الغماري (ت 1380 هـ).
- “الجواب المفيد للسائل المستفيد” (لنفس المؤلف).
- “تلقين الوريد الصغير”، لأبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن عبد الله الأزدي (ت 586هـ).
- “إرشاد المسافر إلى الربح الوافر”، للفقيه الأديب محمد بن عبد الرحيم المعروف بابن ياجبش التازي، وفيه كذلك رسائل أخرى لكل من جعفر بن إدريس الكتاني والإمام السيوطي.
- “مجموع من رسائل السيوطي”، (ت 91 هـ).
- “أجوبة عن مسائل مختلفة وأربعون حديثا في فضل الجهاد وشرحها”، لأبي الحسن علي بن محمد بركة الأندلسي التطواني.
- فهرسة الحافظ بن العلاء إدريس العراقي الفاسي (ت 1184 هـ).
- “الإفادات والإشادات”، للعلامة الأديب اللغوي محمد صغير الإفراني (ت 1154هـ).
- “مجموع فيه المنتقى لأبي القاسم الزنجاني” (ت 471 هـ)، وجزء من تحريم أكل الطين، لعبد الرحمن بن منده. (ت 470 هـ). ويليه الشيخ عبد الله بن إدريس السنوني. وأعمال أخرى للباحث لم نثبتها في هذه القائمة، من المؤكد أنها أغنت المكتبات العربية والمغربية على حد سواء…
وعلى الجملة، بعد أن خضنا سفرا، وبما سمحت به ظروفنا، وتنازلت عنه شواغلنا وإكراهاتنا، في إصغاء بمحبة وشغف في هذه الأعمال، عنت لنا المستخلصات التوالي:
- سعي بدر العمراني الدؤوب للإتيان بالجديد، واكتشاف النادر من النصوص وخدمة التليد، ولو كلفه هذا المقصد الأسنى ما كلفه، وقد يشتغل على النسخة الفريدة أو الوحيدة، وهي ميزة تجعل العمل فيه تفردا وخصوصية. يقول “على المحقق أو المتعدي لفن التحقيق، والاعتناء بالمخطوطات أن يكثر من مراجعة المصادر والمراجع للتأكد والتثبت مما يرد في النص المخطوط، لا أن يكون متابعا وموافقا لما ورد فيه” ص 69.
- القراءة الطويلة والشاقة، ومعاركة النصوص الكبرى، سواء كانت مطبوعة أو مخطوطة، فالدكتور المحقق بدر العمراني، وهبه الله من الصفات، أهلته لكي يكون قارئا كبيرا ومطلعا موسوعيا، على الكثير من المجالات والفنون: حديثية، لغوية، أدبية، تاريخية. وعارفا بالسير والأعلام والتراجم. إنه مشروع ذهبي هذا العصر بدون منازع بارك الله في عمره. معرفته بسير العلماء تشتت في حقب تاريخية، ومسافات بلدانية قريبة ونائية، مشرقا ومغربا، متسلحا في كل ذلك بمؤهلات: نفسية وأخلاقية، وذوقية وروحية. ونفس علمي استباري فطن وحصيف. إلى جانب حسه النقدي الأكاديمي الذي يطبع شخصية بدر العمراني، يقول محمد بن شريفة رحمه الله “إن القراءة المتأنية، والمراجعة المتكررة للنصوص، تقود القارئ المتيقظ والباحث المثقف إلى اكتشاف خباياها، وإيضاح خفاياها، والذين يداومون على قراءة النصوص يخرجون دائما بعد كل قراءة بشيء جديد” ص 85.
- ملازمته الراسخة والصادقة لرموز المعرفة التراثية وشخصيات هذا العلم، التي أبلت البلاء الحسن في البحث والأسفار الطويلة في أسفار الخزائن الخاصة والعامة، وبذلت من أجل ذلك الغالي والنفيس، وسهرت الليالي الطوال لضبط عبارة وتحقيق حديث، وتقويم شعر، وفك مستغلق، وتبيان فروق، ورتق فتوق … نذكر بكل من: سيدي عبد الله المرابط الترغي، وسيدي محمد بن شريفة، وسيدي حسن الورياغلي… وندعو بطول العمر للذين لا زالوا بيننا يرفدون الباحثين بجهودهم ويذللون الصعاب أمامهم من أمثال: الفقيه والبحاثة محمد بوخبرة، وسيدي محمد الميموني، والأكاديمي سيدي جعفر الحاج السلمي، وصنوه سيدي محمد مفتاح رحمه الله، والأسماء كثيرة وعديدة، لا يسمح المقام بذكرها، خالطها وجالسها وربط الاتصال بها، كما رتب زيارات لها بدر العمراني في هذه المدينة أوتلك، وفي هذه البلدة أو تلك… عوامل ستفسح المجال أمامه واسعا في الاستزادة من العلم وبضاعاته، والنهل من معين الاستفادة والمكنة، وتعميق التجربة وإغنائها.
- بدر العمراني تهيأت له من الأسباب، وتجمعت له من العناصر، بوأته مكانة متميزة في خدمة التراث المخطوط، فبحكم الصداقة الممتدة التي جمعتنا لمست فيه المتيم الهائم، الملم العالم، مرهف الفكر، ثاقب النظر، حاد الرأي والنقد، المولع بالأمانة، والمتمكن من أداوته العلمية، ومسائله في البحث… هذه خصائص وسمات تمنحه الشرعية في هذا المجال، وتبصم اسمه في دنيا تحقيق النصوص وجمعها وتخريجها وتهذيبها وتنقيحها ومقابلتها والتعليق عليها، وقديما قيل “اكتب وقابل أو ألق في المزابل”.
- بدر العمراني راسم أدب السير في الفكر المغربي المعاصر، تمكن بمرانه ودربته من وضع السير و التراجم، كما أنه هندس لنا صورة دقيقة عن التاريخ المغربي في جغرافيته الشمالية، ولعل هذا الاشتغال التي تطلب والذي يتطلب منه الكثير من الجهد و الوقت والصبر والتؤدة له وشاجة ومحايثة بمجال التحقيق بإشكالاته ومسائله وحاجياته… إن البعد التراجمي، لا تخفى أهميته، ولا تغمط قيمته في بناء أي عصر أدبي، ونخل أية حقبة تاريخية وعلمية، إن الترجمة عنده إضافة وإبداع في المعلومة الجديدة والعبارة الملزوزة الماتعة.
- التنوع في تناول الموضوعات والمواد وطرافتها، وهذا مؤشر على اهتمامات المحقق، ومساحات انشغالاته التي تلقي بنا في فيافي معرفية ومفاوز من العلوم والفنون، يحرص أن يؤمن مسالك القارئ، ويجنبه مغبة الأهواء والمزايغ والمخاطر وشتى الشرور المعرفية والمنهجية.
- الدكتور بدر العمراني تسكنه أسئلة قد لا تبدو عادية، ولا درج عليها القوم. بل إنها أسئلة تستفز الكثير وربما تثير ثائرته. فمن يصغي بأناة ويتقرى أبحاثه واجتهاداته بعين ناقدة، وبسريرة مرضية، ونباهة منهجية يقف على حقيقة ما نشير له، وفي هذا الإطار يكفي أن ننبه على مثال وحيد، يتعلق بقراءته وأسئلته الجريئة عن القطب مولاي عبد السلام بن مشيش، التي جاءت على غير الشواكل والنظائر السابقة. بل إنها حركت السواكن وكشفت الحجب، عن ما اعتاده الناس وسلكوا فيه مسالك التكرار والاجترار. وفي خطه المنهجي هذا جانب آخر ندخله في مجال التحقيق والقراءة والتنقيب والاجتهاد، و هو منهج يفيد إفادة كبيرة ومهمة.
نتمنى لأستاذنا الجليل الدكتور بدر العمراني، مزيدا من التألق والعطاء، وأن يبارك الله في عمره ويمتعه بذخائر أعلاق السعادة وقلائد عقيان الإسعاد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد البغوري