الرِّحْلَة الْحِجَازِيّة الْمَعْرُوفة بـ: مُشَاهَدَاتِي في الْحِجَازِ لِعَبْد الله كنُّون (1326-1409هـ) ـ 3 ـ
جريدة الشمال – بقلم: محمد القاضي (الرِّحْلَة الْحِجَازِيّة لِعَبْد الله كنُّون)
الخميــس 25 ينــاير 2018 – 11:20:25
[تعييني في وفد الحج الرسمي لسنة 1957م:]
[مقابلة جلالة الملك محمد الخامس بمراكش:]
ثم هذه ثلاثة أيام تقتطع من هذه المدة؛ إذ كنا سنقابل جلالة الملك بعاصمة الرباط صبيحة يوم السبت 22 يونيه، فإذا بجلالته يمدد إقامته بمراكش- وقد كان في زيارة رسمية لها- فيقع النداء علينا معشر أعضاء الوفد يوم الأربعاء 19 منه للمقابلة بمراكش صبيحة يوم الخميس غده.
وقد كانت مقابلة مؤثرة جدا؛ زودنا فيها جلالته بنصائحه الغالية وغمرنا بعطفه السامي، ثم كان مسك ختامها الحضور مع جلالته في زيارة قبر أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين والوقوف على التصميم الذي وضع لبناء قبر مؤسس مراكش العظيم.
[الرفقة الطيبة أحد عوامل التشجيع على هذه الرحلة المباركة:]
إنه عصر المفاجآت كما يقولون وعصر السرعة، فلنكن من أبناء عصرنا، ولننغمر فيه، ولنقبل على ما نحن بصدده متوكلين على الله.
وهذه مفاجأة أخرى سارة كذلك، وهي الرفقة الطيبة، التي لو كان لكل واحد منا رأي في اختيارها، لما اختار أوفق منها وأكثر انسجاما فكريا وخلقيا؛ زيادة على ما بين غالب أفرادها من المودة القديمة التي لا تنفصم عراها، وهذا أيضا عامل من عوامل التشجيع على هذه الرحلة المباركة، وسيكون له أثر فعال في تسهيل مهمة الوفد.
وقد عدنا يومنا من مراكش، وقضينا 21 و22 يونيه في الرباط وسلا بين اتصالات كريمة بإخوان أعزاء، واتخاذ بعض الإجراءات الضرورية، كقطع تذاكر الرجوع بالطائرة عبر الأقطار العربية التي قررنا زيارتها بعد الحج، والتأشير على جواز السفر من طرف ممثلي البلاد التي سنمر بها، والتزود ببعض العملات الأجنبية، فضلا عن ترتيب حقائبنا بحسب المعلومات التي استفدناها من شركة الطيران.
[الشخصيات الرسمية والصديقة في توديع الوفد بمطار سلا:]]
وفي منتصف ليلة 23 يونيه موافق 24 ذي القعدة 1376، كنا نحلق بالطائرة فوق مطار سلا في طريقنا إلى جدة، وكان المطار غاصا بالنسمات الغزيرة من أسر الحجاج التي جاءت لتوديعهم، على أنه لم يخل من بعض الشخصيات الرسمية والصديقة كوزير التاج الحاج المختار السوسي، ووزير الأشغال العمومية السيد محمد الدويري، ومدير التشريفات السيد الحاج أحمد بناني، والمكلف بوزارة الأوقاف السيد المكي بادو، والأستاذ السيد محمد الطنجي رئيس قسم الوعظ والإرشاد بهذه الوزارة، والسيد قاسم الزهيري مدير الإذاعة الوطنية، والفقيه السيد الحاج محمد التطواني، وغيرهم.
[نزول الطائرة بمطار ابن غازي من القطر الليبي:]
وسارت بنا الطائرة بقية الليل وصبيحة يوم الأحد حتى الساعة الثامنة بتوقيت المغرب والعاشرة بتوقيت ليبيا حيث حطت بمطار ابن غازي… ولم نلاق في سيرنا ما يزعج، وصلينا الصبح قياما مستقبلين، ولكن أفرادا لضيق المكان -على أننا في بقية أسفارنا في الطائرات الأخرى لم نكن نستطيع الصلاة إلا جلوسا في مقاعدنا… وذلك لأن مكان الوفد في طائرة المغرب كان في المقدمة ومتسعا قليلا؛ بخلافه في غيرها من الطائرات.
ونزلنا للاستراحة بمطار ابن غازي فوجدنا في استقبالنا كاتب السفارة المغربية بتونس السيد عبد الرحمن غازي، فآنسنا بحديثه وأبدى مزيد الاعتناء بالوفد والحجاج كافة، وقابلنا هناك فوج من الطلبة المغاربة الذين أنهوا دراستهم الثانوية بمعاهد ليبيا، وأبدوا لنا رغبتهم في الرجوع إلى المغرب ورؤية بلادهم مستقلة، وقد كانوا خرجوا منها وهي ترزح تحت نير الحماية في أيام الأزمة، فأرشدناهم إلى الاتصال بوزارة المعارف عن طريق سفارة تونس.
[تحرك الطائرة في اتجاه مدينة جدة:]
وعلى الساعة الثانية عشرة بالتوقيت الليبي، أي بعد استراحة ساعتين تحركت بنا الطائرة في اتجاه جدة وأثناء السير أحسسنا بتغير الجو واشتداد الحرارة، ولم يكن منظر الصحراء من الطائرة إلا مما يزيد النفس انقباضا، وعند التحليق فوق القطر المصري، كانت العمارة على ضفتي النيل تلوح لنا كخط دقيق في وسط هذا الخضم الهائل من رمال الصحراء… وكنا أثناء خروج الطائرة من إقليم الصحراء إلى الأقاليم الجبلية أو إلى البحر، نشعر بخفقات قوية من التي يسمونها في مصر (مطبات) وقد سألت عنها الدكتور منصور فهمي سكرتير المجمع اللغوي المصري، ونحن في ضيافة سماحة مفتي فلسطين السيد الحاج أمين الحسيني، وعرضت في حديث، فقال إنها من كلام العامة.
[الوصول إلى مطار مدينة جدة:]
وبعد أن قضينا سبع ساعات ونصفا في الجو أي بعد المغرب بقليل، كنا ننزل في مطار جدة، ونتقابل مع صديقنا سفير المغرب بالحجاز الفقيه السيد محمد غازي… وقد بذل لنا يد المساعدة هو ومساعدوه فمرت الإجراءات الجمركية وغيرها على ما يرام.. وفي تلك الأثناء كنت أتأمل في حركة المطار فأرى أفواجا عديدة من البشر على اختلاف ألوانهم وألسنتهم يتسابقون إلى حيث ينجزون مع الموظفين السعوديين الإجراءات اللازمة للدخول إلى المملكة العربية، وهؤلاء الموظفون الذين يعدون بالعشرات، ما بين شاب وكهل ومعمم ومطربش، يقومون بأعمالهم في منتهى النظام والأدب، ورجال الشرطة مبثوثون هنا وهناك، يسهرون على الأمن ويمنعون الفوضى، وبما أن الجو كان في غاية الحرارة، فإن بناية المطار كانت تعج بالمراوح الكهربائية لتلطيف الهواء… والمهم أننا لم نر أجنبيا واحدا يقوم بعمل ما في إدارة المطار ولم نقرأ كلمة واحدة غير عربية على مكتب أو لافتة.
[النزول ضيوفا على السفير المغربي:]
وركبنا على إثر ذلك السيارة إلى دار السفير، حيث نزلنا ضيوفا على سيادته، وكانت السفارة لم تتمكن بعد من حجز غرف لنا في أحد فنادق جدة، لأنها لم تعلم بقدوم الوفد إلا يوم وصوله، وكانت جميع الفنادق حينئذ قد غصت بالنازلين فيها، فمن المستحيل أن تلقى محلا فارغا في فندق لنزول فرد فأحرى أفراد، وليت شعري من المسؤول عن هذا الإهمال الذي أدى بنا إلى (التثقيل) على سفيرنا الكريم…؟
[التجول في مدينة جدة لقضاء بعض الأغراض المصرفية:]
أصبحنا يوم الاثنين 25 ذي القعدة نتجول في شوارع جدة، وقد زرنا السفارة ثم ذهبنا إلى مصرف الهند الصيني؛ حيث حولنا ما معنا من صكوك مالية إلى أوراق مالية سعودية، وأعلى ورقة مالية سعودية تبلغ عشرة أريلة، فليتصور الإنسان أي حمل ضخم يكون عليه أن يصحبه في كل أيام الحج، وخصوصا إذا كان معه نصيب لا بأس به من المال، ولا يمكن أن يأخذ بذلك المال حوالات صغيرة على بعض المصارف في مكة والمدينة، لأن هذه المصارف كما قيل -تقفل في أيام الحج.
وبعد الفراغ من هذه الأعمال جعلنا نطوف على الفنادق علنا نجد فيها فراغا يؤوينا… وكان زميلان لنا وجدا غرفة ثنائية في (فندق الحرمين) فهنئا بها، وتناولنا طعام الغداء في فندق جميل يسمى (قصر قريش) وقد قضينا في بهوه المكيف مدة أنعشت نفوسنا من التعب والحر، ولم نتركه حتى وعدنا المكلف بإيجاد محلات لنا من الغد، ولكن الغد لم يحن حتى كنت أنا وأحد الرفقاء قد أصبنا بهذا الزكام الآسيوي، أو حمى الأنفلونزا، كما تسمى هناك، وأقمنا تحت العلاج بدار صديقنا السفير.
[تقديم زيارة المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ثم الرجوع لأداء مناسك الحج:]
شعرنا بأن الجو في هذه البلاد لا يطاق، وكان من رأي أكثر الرفقاء أن نتمتع بحجنا وبهذه البلاد العزيزة كل التمتع، فجعلوا يعدلون عن هذا الرأي، وقررنا جميعا أن نقوم بواجباتنا أتم القيام وفي أقل الأيام، ولذلك فقد عزمنا على تقديم الزيارة والرجوع لأداء مناسك الحج حتى إذا فرغنا منها غادرنا الحجاز في أول فرصة.. وكان الناس يتحدثون بأن الحكومة ستوقف السفر إلى المدينة المنورة بعد يوم أو يومين منعا للازدحام، فكيف يتأتى لنا السفر ونحن لا نزال في قبضة المرض، وقد أصيب منا رفيق ثالث أيضا؟ ومع ذلك فأمامنا مقابلة جلالة الملك سعود وتقديم رسالة الاعتماد إليه…
[في مقابلة جلالة الملك سعود وتقديم رسالة الاعتماد إليه:]]
إن الأمور في بعض الظروف لا تسير على أحسن منوال إلا عند ما تتأزم الحال، وهكذا فمن كان يدري أننا نقدم طلب المقابلة مع جلالة الملك سعود الذي لم يكن في جدة يومئذ فيأتي غدا؛ وينعم بمقابلتنا بعد غد، أعني يوم الأربعاء 26 يونيه -27 ذي القعدة… ولا يأتي اليوم الموعود حتى نكون قد شفينا من المرض والحمد لله، وأخذنا أهبتنا للمقابلة الملكية التي كانت في قصر جدة على الساعة الحادية عشرة بتوقيتنا، ولا تسألني عن التوقيت المحلي فإني من عشاق البساطة ولا أحب التعقيد.
وقصر جدة قصر فخم يقع وسط حديقة واسعة وبالتعبير المغربي، وسط رياض فسيحة (والرياض جمع لا مفرد) وهو مسور بسور لطيف، والطرق إليه وسط الرياض، ممهدة أحسن تمهيد، وقد نصبت عليها عرائش ما زالت لم تستتم نباتها، وخللت بالمصابيح الكهربائية القوية، التي تجعل منظره بالليل بديعا للغاية. وقد رأيناه من الطائرة في ذهابنا إلى المدينة وإيابنا منها فكان قيد الأنظار، أما بناؤه فهو على الطرز التركي في هذه المدرجات الطويلة، وهذه البوابات العظيمة، وهذه القبب الضاربة في الهواء، وهذه البلاطات الفسيحة، فإذا صرت بداخله رأيت من الأعمدة الرخامية، والعقود المزخرفة، والثريات العظيمة والزرابي الكبيرة، ما يتناسب وعظمة الخارج، وقيل لنا إن هذا القصر هو من بناء الملك سعود نفسه، وكذلك جميع القصور التي يسكنها في أنحاء مملكته الشاسعة الأطراف هي من بنائه، وقد عوض بها القصور التي كان يسكن فيها والده المرحوم، والتي تنازل عنها جميعا لوزارة التعليم فجعلت منها معاهد علمية لأبناء رعيته.
وعلى كل حال فقد دخلنا هذا القصر العظيم، وقادنا رئيس التشريفات إلى قاعة الانتظار الفسيحة التي لقينا فيها بعض الوجهاء السعوديين، وسفير الصين الوطنية. والقاعة مفروشة بزربية حمراء، وبكراسي وأرائك فخمة من ذات اللون المخمل الأحمر أيضا، وهي مكيفة الهواء بحيث يخيل إليك أنك بالمغرب في أيام الربيع… وجاء الإذن بالدخول إلى المحل الذي يوجد فيه جلالة الملك، فإذا هو قاعة أعظم وأعظم بكثير مما وصفنا، وقد جلس جلالته في صدرها على كرسي فخم، واصطف على جانبها الحرس السعودي ببنادقهم والأضواء تنبعث من مصابيح الثريات الفاخرة فتزيد المنظر بهجة، وقد سرنا من بابها إليه نحو العشرين خطوة، فإذا به يقف ويصافحنا واحدا بعد واحد، ويجلسنا عن يمينه ويساره، ويرحب بنا أحسن ترحيب فنقدم إليه رسالة جلالة مولانا الملك، ونبلغه تحياته وعواطفه نحوه، فيسألنا عن جلالته ويثني عطر الثناء عليه، ويذكر زيارته للمغرب وما قوبل به من حفاوة بالغة، ويسألنا عما كان يقال من عزم جلالة الملك على الحج هذه السنة، فنقول: إنها أمنية جلالته التي لا يلبث أن يحققها حالما تحين الفرصة لذلك، فيجيب بأنه يكون مسرورا غاية السرور باستقبال جلالة محمد الخامس في هذه البلاد المقدسة، وأنه يضع يخته وطائرته الملكيين تحت تصرف جلالته، وشكرنا جلالته على هذه العناية الكريمة، وقدمت لنا القهوة والمبردات وانصرفنا مودعين بما قوبلنا به من حفاوة وإكرام.
[وصف مدينة جدة:]
لقد قضينا في جدة ليلتنا الكبرى، فخرجنا نطوف على أسواقها وشوارعها، وإياك، يا قارئي العزيز أن تظن أن ذلك ممكن بالنهار في غير السيارة لشدة الحر، وقد ذهب بعض الأصدقاء لزيارة قبر أمنا (حواء) عليها السلام فلا ندري كيف وصل إليه.
والذي يلفت النظر في جدة هذه الحركة الدائبة في البناء والتعمير، فكم من دور شاهقة – والدور في جدة على الطراز الهندي تتكون من عدة طبقات – نراها تتهدم لأن شارعا جديدا يخترقها، وكم من بنايات جديدة الطراز العصري تقام هنا وهناك… ومن جملتها الفندق الجديد الذي يعد أفخم فندق بجدة الآن، والذي دشنه الملك سعود في أيام الحج… والشوارع الجديدة معبدة على أحدث أسلوب، وقد غرست الأشجار بجانبها وان كانت ما زالت لم تكبر وتترعرع، وقد قيل لنا إنه قبل سنتين فقط كان من المستحيل أن ترى نبتة أو شجرة هناك، والسبب في ذلك قلة الماء بجدة، إذ كان ماء الشرب فيها إنما يستقطر من ماء البحر، والآن لما جرت الحكومة الماء إلى المدينة من هذه العين التي تسمى عين فاطمة، دبت الحياة في جدة فنشطت حركة البناء والغرس، فكثيرا ما ترى حدائق (فيلات) أنيقة يداعب النسيم أشجارها، وينقل عبير أزهارها، وسوف لا يمر زمن طويل حتى يتلطف جو جدة ويعتدل هواؤها، بما ينشأ فيها ويستنبت من رياض ومنتزهات جميلة، وصدق الله العظيم حين يقول: وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30].
[الاجتماع بالعالمين الجليلين: الشيخ عبد العزيز الميمني الراجكوتي والأستاذ خير الدين الزركلي:]
هذا وقد اجتمعنا في جدة بعالمين جليلين، طالما سمعنا بهما وتمتعنا بآثارهما، وهما الشيخ عبد العزيز الميمني الراجكوتي والأستاذ خير الدين الزركلي، أما الشيخ الميمني فقد هبط الحجاز حاجا مثلنا، وأما الأستاذ الزركلي فقد قدم من مصر للاتصال بالملك سعود، ومن المعلوم أنه كان مندوبا لجلالته لدى الجامعة العربية، وكنا علمنا بهذا التعيين ليلة سفرنا من أرض الوطن، فلما لقيناه هنأناه ورحبنا به، فوجدناه مبتهجا مسرورا، وتجاذبنا وإياه أطراف الحديث، وكذلك تحدثنا إلى الشيخ الميمني، أحاديث علمية مفيدة، وكانت سهرة ممتعة حقا في بيت السفير الكريم الأستاذ غازي.
وعلمنا أيضا بوصول صديقنا الأستاذ الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، فابتهجنا بلقائه، وكنا إليه بالأشواق إذ كانت صلتنا به أيام مقامه في المغرب قوية جدا، فلما غادره إلى العراق منذ عشر سنوات ترك في أنفسنا فراغا لا يسده غيره.
وكنا نتوق إلى التعرف برجل جدة وفاضلها الشيخ محمد نصيف، فقد طالما حدثنا الصادرون والواردون عنه، ورأينا كثيرا من الكتب التي قام بنشرها انتصارا للدعوة السلفية وتمكينا لها في البلاد الإسلامية- ولكنه مع الأسف لم يكن في جدة آنذاك، بل سافر إلى الشام للاصطياف هناك، وقد قابلناه بعد في مصر عند سماحة مفتي فلسطين.
[الاستعداد للسفر إلى المدينة المنورة:]
وفي مدة إقامتنا بجدة كان المطوف السيد عبد الوهاب الحريري ونجلاه السيدان محمد وعبدالرحمان يتصلون بنا، ويقضون لنا المهام، وعندما قر رأينا على السفر إلى المدينة المنورة بالطائرة – على خلاف ما أوصانا به الكثير من الحجاج وهو أن نسافر إليها بالسيارة – ويا ليتنا أخذنا بوصيتهم- اقتطعوا لنا تذاكر الطائرة كما عنوا بكراء المنزل الذي أقمنا به في منى. والسيارة التي صحبتنا بعد ذلك من جدة إلى مكة ومنى وعرفات، وقاموا بتهيئة جميع ما يلزمنا ليوم الوقفة، ( وذلك بمعاونة رجال السفارة طبعا) فجازاهم الله أحسن الجزاء.
وقد أقمنا بجدة ثلاثة أيام فقط، ومع ذلك فإنها كانت مليئة بالعمل والنشاط والاتصالات التي ذكرنا المهم منها، على أننا أصبنا فيها بمرض الزكام الآسيوي كما رأى القارئ، ولكن الله عزوجل رزقنا الإعانة والتوفيق وبارك لنا في تلك الأيام القلائل حتى أنهينا جميع أشغالنا.
وأصبحنا في فجر يوم الخميس29 ذي القعدة- 27 يونيه نمتطي الطائرة المتجهة صوب المدينة المنورة، وكان ركوبنا لها قبل الفجر بقليل وإن كانت هي لم تنهض إلا بعد الأذان الذي سمعناه من مسجد المطار(وفي المطار مسجد) ومجيء الذين صلوا الصبح في هذا المسجد من أهل البلاد ومن الذين كانوا يعرفون أن الطائرة لا تقوم إلا بعد الصلاة، وهكذا سرعان ما امتلأت جميع المقاعد التي كانت فارغة وحلقت الطائرة في الجو، وكنا نحن على وضوء، فمنا من صلى في مقعده ومنا من انتظر النزول في مطار المدينة حتى يصلي على الأرض ولو في آخر الوقت. لاسيما ومدة السفر أقل من ساعة، فما كان بأسرع من انتشار نور النهار في أنحاء الأفق، وإذا بنا لا ننزل إلا وقد أقبل النهار من هاهنا وهاهنا- وفهمت كيف وقعت قضية الوادي التي وردت في الحديث، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم هو وصحبه الأكرمون على أهبة لصلاة الصبح فما أغفوا، وهم ينتظرون طلوع الفجر، إلا وقد ضربتهم الشمس!-…أن مابين الفجر هنا والشروق متقارب جدا. أليس هو الشرق؟..