ونحن في بداية الشهر الفضيل، لا يغرب عنا التحضيرات الجادة التي سبقت هذا الشهر والمتعلقة أساسا بالمؤونة البطنية أو بعدة المعدة، فحتى أولي الأمر لا يتركون السوق لمحض الصدفة، بل يسهرون على التموين بالمواد الغذائية وما جاورها باحتراس شديد أكثر من أي شهر آخر، فالصيام يولد حاجيات جديدة وعادات مستجدة على مستوى المائدة عند الإفطار…، فمائدة الصائم في رمضان تكاد ترسمها يد فنان فتشبه لوحة تشكيلية مزركشة بألوان ما لذ وطاب. وهذا بطبيعة الحال لا ينسينا الاستثناء عند بعض النساك و عند من لا يجدون في اليد ما يصرفون؛ ممن هدهم الزمن وخذلهم القدر..
لا حاجة إلى عد الأطعمة والمواد التي يكثر الإقبال عليها، وإنما نحبذ هنا التنويه أن ذوق المائدة في الشهر الفضيل يميل إلى شيء من الرقة والخفة و”أعز ما يطلب” من أجل تعويض جوع النهار وعطشه، و في نفس الوقت إعداد الجسم لهما بحذق في الليل.
ولاشك أن الوقت يسمح للكثيرين ممن لا يعملون في الليل أن يعتنوا بالمائدة و كأنهم يجددون عهدهم بها، وإن كان الوقت بين الوجبات يطول أو يقصر حسب اختلاف الليل والنهار.
وعلى غير ما نشهده في أشهر السنة الأخرى، تعطي القنوات التلفزيونية المحلية و العربية خلال شهر الصيام عناية خاصة للمشاهد، بل قد يكون هذا الشهر هو التيرمومتر الأشد حرارة للزيادة في نسب المشاهدة بالنسبة لأية قناة قديمة، و فرصة ذهبية للقنوات الجديدة لترسيخ قدمها في المشهد السمعي البصري الشديد التحول والمنافسة.
و تحتل المسلسلات الكبرى دورا أولا في السباق، لذلك ظل عدد منها على امتداد عقود، بالنسبة للصناعة التلفزيونية المصرية، يضرب به المثل، وكذلك الشأن، بعد ذلك، بالنسبة لمثيلتها السورية وإن أثرت بشكل أو بآخر الحرب الأهلية في تطورها الطبيعي، وبالنسبة للصناعة التلفزيونية المغربية فإن هذا الشهر يشكل كذلك قمة الإنتاج، وترصد له مبالغ ضخمة تجحظ لها العيون و تتقاذفها كالنيران الألسن. وتبعا لذلك فإن عدة أسماء فنية على مستوى التمثيل والإخراج و التصوير والسيناريو تخرجت و برزت في هذا الشهر ومنها من حاز مشعل النجومية واستمر حليفه على مدى العمر.
وإذا كان هذا الشهر تغلب عليه رغبة الاسترخاء من تعب النهار، فقد تبدو التحضيرات المعوية و التلفزية معقولة بل مطلوبة لكونها تواكب إرادة المستهلك، و تخضع لمنطق العرض والطلب، إلا أن العرض الروحي والثقافي والفكري لا يوازي نفس العرضين الآخرين، أكتفيي هنا فقط بالإشارة إلى العروض المترتبطة بالكتاب والمحاورات الفكرية والثقافية فقد يكون هذا الشهر الفضيل أحسن مناسبة لإصدار أو ترويج كتب جديدة في الإبداع الروائي والقصصي والمسرحي و الشعري، و كذا في الفكر التجديدي وخاصة على المستوى الديني والحضاري، ثم يمكن خلاله فتح باب القنوات التلفزية واسعا للمحاورات الرصينة في القضايا الراهنة بين مثقفين ومفكرين وخبراء ومتخصصين حقيقيين، مستقلين عن أي سلطة، أحرار من الحاجة، ومتحررين عقليا، فالصيام في هذا الشهر لا ينبغي أن يكون فقط وقفة تأمل للفرد في ذاته و في خلقه و في الكون وخالقه، وإنما وقفة تراجع فيها كذلك الأمة ذاتها: كوابحها، ومظاهر وأسباب تأخرها، ثم استبيانها لإمكانيات النهوض و التقدم، واستنهاضها لمقومات الثقة بعد قرون من الخيبات والهزائم…
قد أكون ما أحلم به هذيانا، لكن روح هذا الشهر العظيم متلألئة بعبر انتصارات الأمة على ذاتها، وبأحداث عظمى بقيت مذكورة في تاريخها المشرق. نعم نستطيع لكن إذا اعتنيا، على حد سواء، بروح و عقل الأمة على قدم وساق.
عبدالحي مفتاح