الزوايا فضاء تربوي وعلمي
الزاوية الريسونية أنموذجا
الزاوية الريسونية: محاولة تعريف
يمثل التصوف أبرز مقوم للتربية الروحية التي يقوم بها الشيوخ الدالون على الله، و تعدد الطرق الصوفية دليل على أن الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق. والزوايا ظهرت بعد ظهور الرباطات ، وهذا ما يؤكده المرحوم الدكتور محمد حجي، حيث قال: ” لم تظهر الزاوية في تاريخ المسلمين كمركز ديني وعلمي إلا بعد الرباط والرابطة “[i] ،ومن المعروف أن الرباطات زاوجت بين مهمات دينية وتربوية وعلمية وجهادية.
وانطلاقا من هذا التصور العام سنحاول التعريف بالزاوية الريسونية وطبيعة أعمالها في البناء الروحي والاجتماعي والسياسي في شمال المغرب على وجه التحديد.
ارتبطت ظاهرة الدعوة إلى الصلاح في مجموع مناطق المغرب بطبيعة السياقات الموضوعية التي طبعت المجتمع المغربي خلال عصور، كما أن ظاهرة الصلاح جاءت نتيجة طبيعية لتصحيح ممارسات مخطئة في مجالات عقدية وأخلاقية..كما أن هذه الظاهرة الإصلاحية جاءت بمثابة رد فعل اتجاه الغزاة الأجانب..
والزاوية الريسونية لا يخرج عملها الإصلاحي عن هذه الأسباب، وهذا ما تؤكده مصادر وأبحاث متسمة بالإنصاف والموضوعية منذ تأسيسها على يد الشريف امحمد بن علي بن ريسون، تلميذ الشيخ عبد الله أمغار.
وأول فرد من آل ريسون حمل هذا الإسم هو مولاي علي بن عيسى الشريف ( 918هـ- 963هـ). يقول الفقيه الرهوني صاحب عمدة الراوين في أخبار تطاوين بخصوص آل ريسون : ” من مشاهير الأشراف وفضلائهم، ومن أعيان الناس وكبرائهم، دار صلاح وولاية ومعرفة ودراية .. ومكانة ونباهة .. وهم من الشرفاء العلميين ، من بني محمد بن إدريس ، ثم من بني يونس، عم القطب مولانا عبد السلام بن مشيش، رضي الله عنه.. وموطن هؤلاء قرية تازروت من حوز جبل العلم ، بينها وبينه قدر ثلث مرحلة ..و بها ضرائح الأولياء من آبائهم ، عليها بناءات هنالك وروضات .. “[ii].
من رجالات الزاوية الريسونية :الشريف امحمد بن علي بن ريسون
ولد امحمد بن علي بن ريسون في أقصى قبيلة بني عروس في سفح جبل أبي هاشم؛ معقل المجاهدين بقرية تازروت سنة 930 هجرية،من والده سيدي علي بن عيسى بن ريسون.
وهو امحمد بن علي بن عيسى بن عبد الرحمن بن الحسن بن موسى بن الحسن بن عبد الرحمان بن علي بن محمد بن عبد الله بن يونس بن ابي بكر بن علي بن حرمة بن عيسى بن سلام بن مزوار بن حيدر بن محمد بن إدريس الأزهر بن مولاي إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب ومولاتنا فاطمة بنت مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان للبيئة التي نشأ فيها الشريف امحمد بن علي تأثير كبير على تكوينه ، فقد كانت تربيته الدينية الأولى على يد والده، حيث حفظ القرآن العظيم ومبادئ الدين حسب العرف الجبلي، وتلقى العلوم الشرعية والفقهية الأولية على يد شيوخ كانوا يقصدون جبل أبي هاشم لزيارة قبر سيدي عبد الرحمن الشريف تلميذ الإمام الغزواني دفين مراكش .ولما بلغ العشرين من عمره بدأت سياحته، قصد مدينة فاس للأخذ عن علمائها بمدرسة العطارين،ثم انتقل إلى المدرسة المصباحية. وظل سنوات في فاس مسترفدا من شيوخ العلم ومستفيدا من مختلف المناظرات والمجادلات الفقهية على وجه الخصوص، ثم رجع إلى تازروت فانكب على التدريس، متخذا من بيته فضاء علميا وفقهيا، فحجت إليه وفود عديدة كان من بينها تلميذه محمد العربي الفاسي وغيره، كما التقى الشريف امحمد بن علي بالشيخ العارف بالله عبد الله بن احساين الأمغاري بتمصلوحت. [iii]
الشاون: رباط جهادي
يجمع المهتمون بدراسة الزوايا الصوفية بالمغرب أن القرن 10هـ اتسم ببروز أوضاع حرجة مردها تزايد أطماع الراغبين في احتلال المناطق الساحلية الاستراتيجية للمغرب، مما دفع بعمل الزوايا إلى التصدي لكافة أشكال الاحتلال والتوسع الأجنبيين، كما عملت الزوايا الصوفية في هذه الفترة التاريخية الدقيقة على رفع منسوب قيم التضامن والتكافل الاجتماعيين، وفي هذا الإطار كان لحاضرة الشاون ومناطقها عمل طليعي جهادي ضد الغزاة الإيبريين. وقد حول الجهاد الصوفي مدينة الشاون وقبائلها المجاورة إلى حصن جهادي منيع.. في ظل هذه الأوضاع تحولت منطقة تازروت إلى رباط وقلعة لتجمع القبائل وتدريبها من أجل مواجهة الحملات الصليبية على يد هذا الشريف باقتراح من القطب مولاي عبد الله بن حساين صاحب تمصلوحت بمراكش وسط جبال شاهقة سنة 975 هـ ،فشارك هذا الرباط مشاركة فعالة ضد البرتغاليين في أهم وأخطر معركة عرفها التاريخ المغربي.
والجدير بالذكر أن الزاوية الريسونية تصدرت الأعمال الجهادية في الزمان والمكان المذكورين دونما رغبة أو طموح سياسي،بل انصرف عملها إلى صد العدوان الإيبيري بسلاحين؛ سلاح مقاوم في الميدان وسلاح مدعم للمجاهدين على أساس روحي خالص، ولعل ما قامت به الزاوية الريسونية في معركة وادي المخازن إلى جانب قبائل غمارة وبني زيات وبني يدر شاهد على ما قلناه.
أ- عمل اجتماعي:
تشير كتب المناقب والتراجم إلى طبيعة العمل الذي تقوم به الزوايا الصوفية في مجالات علمية وتربوية، وفي إشارة إلى ما قامت به الزاوية الريسونية يذكر صاحب فتح التأييد في مناقب الجد وأخيه والوالد عن الشيخ الصالح الولي أن سيدي امحمد بن علي بن عيسى بن ريسون كان”كهف الأرامل والأيتام ومأوى الضعفاء لمن جاوره من الأنام “[iv]
ومن خلال هذه الإشارة يبرز جانب من جوانب العمل الولوي في النطاق الاجتماعي؛ حيث يعد الشيخ مقصدا لمغالبة ما يتعرض له الناس وما يحتاجون إليه من رعاية خاصة في فترات اضطراب ومجاعات وأوبئة.. فالشيخ يسد حاجات ويقدم مساعدات، كما يسعى إلى إنصاف ورفع مظالم من جهات مختلفة.
ب-عمل سياسي :
كانت تازروت قلعة جهادية مجمعة لقبائل غمارية وجبلية منذ زمن السعديين، وكانت الزاوية الريسونية تعمل بتنسيق مع السلطة السعدية لتأطير قبائل الخلوط وسماتة وبني يسف وبني زكار والسواحل الغربية وبني يدر وجبل الحبيب وبني منصور وودراس وبني حسان وبني زجل وبني زيات[v]..كما كان ضريح مولاي عبد السلام بن مشيش فضاء للتعبئة الجهادية بإشراف الزعامات الريسونية..ومارس المجاهدون ضغطا على القوات البرتغالية مما اضطرها إلى إخلاء مدينة أصيلة.
وأما موقعة وادي المخازن فكانت شهادة عملية على قوة المجاهدين الغماريين والجبليين.. ولم ينس السلطان أحمد المنصور السعدي ما قامت به الزاوية الريسونية من تعبئة وتجهيز الحملات وخوض المعارك ضد البرتغاليين..وردا لجميل هذا العمل منح الريسونيين أراضي شاسعة ممتدة من مشارف القصر الكبير إلى أحواض الوادي جنوبا وشمالا، وشرقا وغربا ثلاثاء ريصانة..
ج- عمل ديــــني:
إذا كانت الزاوية مؤسسة دينية تربوية تعمل من أجل تحفيظ القرآن الكريم، والمتون الشرعية وتلقين االأوراد والأذكار المرتبطة بمنظومة التصوف..فإن الزاوية الريسونية قامت بهذا العمل التنويري المحتكم إلى أساس شرعي موجه إلى إصلاح النفوس وبنائها بناء سويا.. وفي هذا الصدد ندب الشيخ سيدي امحمد بن علي بن ريسون نفسه للقيام بالدعوة إلى التمسك بمبادئ الشريعة الإسلامية والإصلاح، قال عنه أحمد بن عرضون:” ما رأينا في زماننا هذا من سلك طريقة مثل سيدي امحمد بن علي “[vi].
ختم..
ظلت الزاوية الريسونية بعيدة عن كل مطمح سياسي، وكان عملها لامعا في المجالات المذكورة بفضل شيوخها ورجالاتها، وكان لها حضور قوي في إحياء وإنعاش الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد.
دة. فدوى أحماد
إحالات:
[i] ـ محمد حجي : الزاوية الديلائية، المطبعة الوطنية بالرباط ، ص 21
[ii] ـ أبو العباس أحمد الرهوني: عمدة الراوين في تاريخ تطاوين، ج 5 ،تحقيق د جعفر ابن الحاج السلمي،ص4.
[iii] لمزيد من التفاصيل حول فوائد هذا اللقاء العلمي ينظر كتاب أبطال صنعوا التاريخ علي بن الغالي الريسوني ،ج 1 ص 23-24.
[iv] ـ الحسن بن ريسون: فتح التأييد في مناقب الجد وأخيه والوالد ، صححه ونشره، علي الريسوني، طبعة نطوان، 1985، ص
[v] ـ محمد بن عزوز حكيم : مساهمة رباط تازروت في معركة وادي المخازن، ص43
[vi]- الحسن بن ريسون : فتح التأييد في مناقب الجد وأخيه والوالد ، صححه ونشره، علي الريسوني، طبعة تطوان، 1985، ص 85.