▪ اسمه ونسبه وولادته:
هو العلّامة الفقيه، أديب الوزراء، ووزير الأدباء، الشاعر النّاثر الكاتب، أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد القادر بن محمّد ابن موسى، المراكشي مولدًا ونشأة، العرائشي قرارًا، ثمّ التطاوني دارًا ووفاةً، الجعفريّ الهاشمي، كما كان يكتب ذلك أحيانًا في بعض توقيعاته المغفلة.
وُلِدَ – رحمه الله- بحاضرة مراكش جوار ضريح أبي سُليمان الجزولي، عام 1301هـ حسبما أفاده الأستاذ عبد الله كنون رحمه الله، رواية عن أخيه السيّد امحمد بن موسى الكتاب الخصوصي بديوان سموّ الخليفة.
▪ نشأته ودراسته الأولى:
نشأ العالم الشاعر سيدي محمّد ابن موسى نشأ سليمة، وعاش في أسرة علمية مكينة، فوالده كان فقيهاً وأثيرًا لدى السلطان الحسن الأوّل رحمه الله، وكاتبًا من الطبقة العالية، وجَدّه كان مؤدِّبًا لأبناء الشّرفاء، حسبما وقفتُ عليه في ظهير توقيرهم، وكلاهما –أي: الوالد والجد-، كان من أهل الزهد والعفاف، مع عناية فائقة بالأوراد وسرّ الحروف. وعلى الوالد أخذ مترجَمنا، وتشبّع من المعارف الأساسية، ثمّ قصد علماء بلدته بجامع ابن يوسف، وهناك أولع بحفظ اللغة، فأكبّ على كتاب ابن الخطيب السَّلْماني (ت.776هـ) «ريحانة الكتّاب، ونجعة المُنتاب»، وكاد يستظهر نصوصه، وكلّ هذا فتح له الباب على مصراعيه للذهاب لفاس العالمة لاستكمال الدراسة العليا، وعدم الاكتفاء بما حَصّل بمسقط رأسه.
▪ رحلته لطلب العلم بفاس :
ولمّا قصد فاسًا محضن العلم والعلماء، تحلّق حول أعلامها الكبار، فأخذ منهم جلّ العلوم المعهودة آنذاك، مع العناية الفائقة بكتُب اللغة والشعر، وخصوصًا كتاب الإمام جار الله الزمخشري (ت.467هـ) «أساس البلاغة» الذي اختار منه ألفاظًا وتراكيب للحفظ، حيث جمع تويلفًا يُعَدّ من أجود المختارات اللّغوية.
ومن شيوخه في هذه المرحلة :
- العلّامة سيدي التهامي بن المدني كنون (ت.1331هـ).
- العلاّمة سيدي امحمّد القادري (ت. 1331هـ).
- العلاّمة الشيخ أحمد بن الخياط (ت. 1343هـ).
- العلامة الأديب أحمد بن المامون البلغيثي (ت. 1348هـ)، وغيرهم.
▪ انتماؤه الصوفي:
إنّ المطّلع على شخصية هذا الشاعر العظيم، والمتحقق من آثاره، يجد نفَسَه الصُّوفي في جلّ أشعاره، وخصوصًا ابتهالاته ومدائحه النبوية، وقد وقفتُ له على أنظام في سرّ الحروف، وأورادٍ من إنشائه تدلّ على شفوف سريرته، وتعلّقه بربّه تعلّق العارفين الكبار، لا الشعراء الغاوين. ولا غروَ في هذا، فقد رضع مترجمنا أفاويق الصّفاء من والده الذي كان من الملازمين لضريح الجزولي، وله كتاب في الأوراد والتوسلات من أروع النصوص التي وصلتنا في هذه الآونة، ممّا جعل أحد أعلام مراكش يهتمّ به شرحًا وتعليقًا.
ثمّ إنّ علاقته بأسرة ماء العينين وأبنائه، زادت من اهتمامه بالجانب الصوفي، فعندما كان الشيخ ماء العينين يقصد مدينة مراكش كان ينزل ببيت أصهار ابن موسى، وهم: آل بنيعيش، المعروفون بخدمتهم لملوك الدولة العلوية الشريفة، ووراثتهم لمنصبي الحجابة وقيادة المشور. وفي بيت كبيرهم، وهو القائد الحاج إدريس بن يعيش التقى به الشاعر محمد ابن موسى وأجازه، والشيخ ماء العينين هو الذي أوصى به السيد محمد فاضل بنيعيش باشا العرائش فيما بعد، والذي ظل في كنفه سيدي محمّد ابن موسى مدة طويلة بالعرائش.
▪ إجازاته :
أًجيز الشاعر الوزير محمد بن موسى من قِبَل شيوخه الكبار في مختلف الفنون، وممّا وقفتُ عليه من إجازتهم له:
- إجازة شيخه العلامة سيدي أحمد بن المامون البلغيثي (ت.1348هـ).
- إجازة شيخه ماء العينين (ت.1328هـ).
- إجازة ولده السيد محمد إبراهيم ماء العينين (ت.1361هـ) لما قصد الحج ومرّ على تطوان عام 1932م.
- إجازة سِبْط ماء العينين الشاعر المُفلق ماء العينين ابن العتيق (ت.1376هـ)، أجازه لمّا مرّ مع وفد الصحراء قاصدًا حج بيت الله الحرام، وقد أورد نصّها الكامل في رحلته المسماة: «الرحلة المعينية».
▪ وظائفه :
بعد هذه الجولة العلمية الحافلة التي قضاها سيدي محمد ابن موسى في العلم والتعلّم، اقتُرح من طرف صهره السيد محمد فاضل بن يعيش باشا مدينة العرائش، فلازمه منذ بداية 1912م، وظلّ كاتبًا معه بالباشوية، وخلال هذه المدّة كان يزاول مهمّة التّجارة الحُرّة مع صهره المذكور حسبما وقفتُ عليه في مراسلات تجارية، كما عيّن أيضاً كاتبًا ومترجمًا بدائرة عرباوة.
وفي ظلّ هذه الفترة العرائشية، عُرف بكثرة إنتاجه الشعري، مع ارتياد مجالس الأدب التي كانت تعقد من قِبَل أعيان المدينة، ويعدّ ابن موسى أوّل من أدخل فنّ «البْسَاط» للحضرة العرائشية، وهو لونٌ من ألوان الفُرجة التي لم تكن تُعرف بشمال المغرب.
وفي عام 1927م عُيّن أمينًا للديوانة بميناء العرائش من طرف الصدر الأعظم الوزير محمد ابن عزّوز، الذي كان يعرف مكانته وقيمته. كما عيّن في عام 1937م، من طرف الخليفة الحسن بن المهدي وزيرًا للأوقاف، وظلّ بهذا الوظيف إلى عام 1954م. وخلال مهمّته الوزارية هذه، ضبط أمور الأوقاف، ووضع أسسها، وأنشأ جريدتها الرسمية التي كانت تَنشرُ كلّ ما يتعلّق بالأحباس من ظهائر وسمسرات، وفتاوى، وتعيينات … إلخ، فكانت إلى هذا كله عنوان النزاهة في هذه الوزارة، وقد توقفت عن الصدور بتوقّفه عن مهمة الوزارة.
وهو إلى هذا كلّه كان عضوًا في عدّة لجان، أبرزها اللجنة الاستشارية (المجلس الخليفي) التي عيّنها سموّ الخليفة، وعضوا فخريا بالمجلس الأعلى للتعليم الإسلامي، وعضو لجنة الشعر (جائزة مولاي الحسن) التي كانت تمنح جائزة كلّ سنة للشعراء الشباب.
▪ شعره :
نظم الشاعر الوزير كثيرًا من القصائد، وعددًا من الموشحات والمقطوعات، وشارك في ملتقيات كبرى، وناب عن سموّ الخليفة في لقاءات رسمية، وأجاب عن رسائل العلماء والزعماء على لسان الخليفة، ونظم في مختلف الأغراض الشعرية، والأوزان العروضية. وشعره من الطبقة العالية، وقد عدّه الأستاذ علي الصقلي، رحمه الله، أشعر شعراء المغرب بلا منازع.
ومن شعره في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلّم، هذه الرائعة الرائقة، التي قالها بمناسبة ميلاد سيّد الكون، ولجمالها، ألقاها الفقيه الصدر، السيّد أحمد الحدّاد بالنغمات لجمال صوته، وكان ذلك بالزاوية الريسونية من تطوان، ومنها:
هَلْ لِصَبٍّ أَشْفَى مِنَ الوَجْدِ رَاقِ تَدَّرِيهِ مِنَ المَحَاسِنِ أَشْرَا فَهْوَ مِنْ وَاكِفِ الصَّبَابَةِ فِي يَـ حَذَّرَتْهُ العُذَّالُ مِنْ خِفَّةِ الحِلْـ |
عِيلَ صَبْراً فَجَفْنُهُ غَيْرُ رَاقِ؟ كٌ فَيَهْفُو إِلَى وَمِيضِ التَّلاَقِي ـمٍّ وَمِنْ لاَفِحِ الجَوَى فِي نِطَاقِ ـمِ فَأَغْرَاهُ وَجْدُهُ بِالشِّقَاقِ |
▪ مكانته العلمية :
يُعتبر الوزير الشاعر سيدي محمد بن عبد القادر ابن موسى من كبار المثقفين المغاربة في وقته، فقد جمع إلى معرفته بالشعر، معرفةً عميقة بالفقه ومقاصده، آيةُ ذلك ما خطّه من مقالات عن الأحباس الإسلامية، والحكمة منها، مستحضرًا في ذلك روح الفقه الإسلامي. كما كان له اطّلاع كبير على طبوع الموسيقى الأندلسية، ومن أجل معرفته بها كان يحضر مجالس الطّرب العامّة والخاصة، هذا إلى تمكّن من اللغتين الإسبانية والفرنسية، بشهادة صديقه الشاعر المطبوع عبد الله القباج رحمه الله، الذي قال في حقّه: «كثيرًا ما يسألني وصفائي عن كبار أدباء المنطقة الإصبنيولية وشعرائها الماهرين فيها، وكثيرًا ما تربّصتُ في الجواب؛ إلى أن ثبت لديّ بالبحث والاستقراء وجوب تلك الديار، والوقوف على الآثار، والإمعان والتروّي والتّأمّل، أنّ في صفّهم الأوّل العلاّمة السيّد محمد بن عبد القادر ابن موسى المراكشي، أمين ديوانة العرائش، وصنو وصيفنا الفقيه السيّد أحمد ابن موسى الكاتب بالصّدارة، وابن عمّ الفقيه ابن موسى كاتب الفقيه الحاجب، أقارب أولاد بن يعيش وأصهارهم قديمًا وحديثًا.
أمّا أدبُه فحسب القارئ أن يقف عليه في مجاميع مقالاته، ومقدماته، بخزانته النفيسة، المفعمة بالكتب القديمة والحديثة، والجرائد والمجلاّت على اختلاف أنواعها بين عربية وإفرنجية، لإلمامه الواسع باللّغة الفرنساوية وشغفه بها، وإتقانه للإصبنيولية وتصرّفه فيها.
وأمّا مقدرته الشعرية، ومعرفته بأساليب اللغة العربية، فلا أدلّ عليه من القصيدة التي بعثها لي على يد صنوه المذكور في الاعتذار عن عدم توديعه إيّاي صبيحة مغادرتي للعرائش عند مروري عليها من طنجة في سفري الأخير، ولا غرابة عندي في حمله هناك راية الأدب، وتسميته هناك بالشاعر المطبوع، إذ كان من المتخرّجين من كليّة القرويين بفاس، على أساطين العلماء وفطاحل الأشياخ الراسخين في العلم والأدب. وبيت موسى أحد البيوتات العريقة في المجد بالحمراء المراكشية، أبقاه الله بهم عامرًا زاهيًا باهرًا …».
وهذه الشهادة في حقّ الوزير سيدي محمد ابن موسى، تُوزَن بالذهب، لأنّها صدرت من شاعر مطبوع، وعالم مشهور، عرفَه عن كثب، وكتب عن مشاهدة ومعاشرة، وهي على قصرها تتضمّن معلومات لا توجد في غيرها، وأهمّها اطلاعه على اللغات، وامتلاكه لكبريات المكتبات.
أمّا معرفته باللغات، وتعاطيه لترجمتها، فلا أدلّ عليها من هذا الموشح الفريد الذي سبكه شِعْرًا عربيًّا فصيحًا، وأمّا مكتبته، فالذي تناهى إلى علمي أنّ الوزير رحمه الله كان يُعير لمحبيه أجود الكتب، فيكون آخر عهده بها، والبقية الباقية بقيت بعد وفاته عن ولده البكر، السيد مُحمد ابن موسى الذي كان قاضيًا بحاضرة مراكش، وقد توفّي بعد وفاة والده بسنوات يسيرة، ولا يعرف لها أثر لحد الآن، وفي هذه المكتبة ضاع عدد من كنانيش والده الوزير التي كان يُدَوِّن فيها خواطره وشعره ونثره وزجله وملحونه، ولله عاقبة الأمور.
ولمّا كان رحمه الله ممن اجتمعت فيه هذه المعارف الإسلامية، إضافة إلى تواضعه الجمّ وتنازله للجميع، أصبح مقرّبًا إلى خاصّة الخاصّة، ونورد في هذا الصدد شهادة صديقه العلّامة الأديب سيدي عبد الله كنون (ت.1409هـ) رحمه الله، حيث قال: «كان من أعلام الأدب المتمكّنين في الصناعتين. ولعلّه آخر من كتب النّثر الفنّيّ البديع على طريقة كبار الكتّاب الأندلسيين، ونظم الشّعر الرّصين المثقل بالمحسّنات اللّفظية التي لا تكلّف فيها ولا تصنّع … وكان لا يحبّ أن يتحدّث عن نفسه، ولا يجيب عن سؤال يتعلّق ببدايته ودراسته، تواضعًا منه وإسقاطًا للدعوى. وأوّل ما سمعت به، من الشاعر المطبوع، السيد عبد الله القبّاج، وكان رآه هو لأوّل مرّة بالعرائش حين كان أمينًا بمرساها، وخاطب القبّاج بقصيدة رائعة أنشدنا إيّاها القبّاج في زيارته لطنجة بعد زيارة العرائش، وقال: إنّه عجز عن إجابته عليها …».
▪ وفاته ومقبره :
بعد عمر عامر، وكفاح مستمرّ، وعطاء متجدّد في مجالي السياسة والثقافة، توفّي الشاعر الكبير، والوزير القدير، أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد القادر بن محمد ابن موسى بمدينة تطوان، ليلة الجمعة 12 رجب 1385هـ/ 6 نونبر 1965م، ببيته بسكن الأحباس بساحة مولاي المهدي من تطوان العالمة، ووري جثمانه الثرى بضريح سيدي الصعيدي، بباب السعيدة، وكُتب على قبره شاهد يعرّف باسمه وصفته، من طرف صديقه العلامة المؤرخ سيدي محمد داود رحمه الله.
وقد نعاه صديقه العلامة المؤرّخ سيدي عبد الله كنون المتقدم ذكره فقال: «توفي في تطوان يوم السّبت 6 نونبر [1965م] الأديب الكبير، الوزير محمد بن عبد القادر ابن موسى عن سنّ تناهز 85 سنة، وكان – رحمه الله- خاتمة أدباء المغرب من الجيل الماضي الذي حرص على حفظ تراثنا الأدبي، وخاصة الأندلسي، والنسج على منواله أشدّ الحرص، فكان له قلمٌ بارع في النثر الفنّي، وملكة راسخة في نظم الشعر الجيد … وقد ولّي وزارة الأوقاف في الحكومة الخليفية بتطوان، وهو من أسرة علمية مراكشية اشتهرت بالأدب وخدمة السلطان، وعلى ما كان له من مكانة مرموقة بين أدباء الجيل المحافظ، وعلاقاته الطيبة برجال العلم والأدب، فقد مرّ حادثُ وفاته عاديًا لم يترك صدًى في أيّ وسط من الأوساط، لا في الصحافة ولا في الإذاعة بين عموم المثقّفين، ممّا يبيّن مقام الأديب عندنا، والإهمال الذي يلقاه في حياته وبعد موته أيضًا مع الأسف الشديد».
د. يونس السباح