ظلت شخصية أحمد الريسوني تمارس الكثير من عناصر الإثارة، ليس فقط لدى قطاعات مؤرخي المغرب المعاصر والراهن، ولكن –كذلك- لدى العديد من المهتمين من حقول معرفية مختلفة، استهوتهم أبعاد المغامرة والإقدام في شخصية الرجل خلال نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20. لقد قيل الشيء الكثير حول هذه الشخصية، وأنجز حولها فيض من الدراسات الغزيرة، داخل المغرب وخارجه. ومع ذلك، فقد ظل الموضوع يحظى براهنيته الأكيدة، مادامت امتداداته التاريخية لازالت قائمة إلى يومنا هذا، سواء داخل المركز الجهوي بمنطقة الشمال أم بعموم بلاد المغرب. ويعود ذلك إلى تضارب الآراء والمواقف حول حقيقة أدوار شخصية الريسوني بمنطقة جبالة خلال مرحلة تحول تاريخي حاسم كان عنوانه التمهيد الأوربي لإخضاع المغرب للهيمنة الاستعمارية المباشرة. فبين مدافع عن أدواره الجهادية، وبين مدافع عن الوصف الذي ربط الرجل بأعمال اللصوصية والسلب والنهب والابتزاز، تضاربت المواقف، وتعددت الحجج، وتناقضت التأويلات، وقبل ذلك، اختلفت مستويات التعاطي مع الموضوع، إذ تراوح هذا التعامل بين سقف الاندفاع العاطفي المنفعل وغير المتحكم فيه، وبين حدود الصرامة العلمية التي لا ولاء لها إلا لحقائق البحث العلمي الرصين ولأدواته العلمية الرصينة. لذلك، أصبح المجال موضوعا متجددا بامتياز، له رواده وفرسانه، وله مكتسبات وعناصر سقوطه. وبين هذا وذاك، ظل صوت الضمير العلمي يلتمس طريقه، محاولا إعادة طرح الأسئلة المغيبة في تجربة الريسوني بشمال المغرب. فلا خطاب الموالاة والاندفاع العاطفي المنتصر للانتماء العائلي والعرقي ينفع في هذا الباب، ولا التحامل المواقفي المرتبط بإكراهات المرحلة وبالضرر الذي لحق بفئات من السكان بفعل بطش الريسوني، ينفع كذلك. وحده التنقيب العلمي قادر على إعادة فتح ملفات أحمد الريسوني، بعيدا عن كل الأهواء وعن كل المواقف المسبقة وعن الأحكام العاطفية وعن التأويلات غير التاريخية التي تعزل الظاهرة عن سياقاتها التاريخية المميزة.
أصبح مؤرخ الراهن بالمغرب يكتسب كل الجرأة الأكاديمية لاقتحام حقل ألغام الظاهرة الريسونية، فكانت النتيجة عودة الروح للدرس الجامعي المتخصص في تحولات ماضي منطقة الشمال، بخصوصياتها الإقليمية المميزة وبامتدادات هذه الخصوصيات في الكثير من مظاهر الحياة الراهنة. ومعلوم أن الكثير من قضايا الظاهرة الريسونية بشمال المغرب، نالت نصيبها من البحث والتمحيص، وبدأ التراكم العلمي يحقق عناصر تميزه النوعي، تجميعا للمادة الغميسة وتحليلا للسياقات وتفكيكا للحيثيات ونقدا للإسطوغرافيات، ثم استثمارا للنتائج في إطار الجهد الأكاديمي المبذول بهذا الخصوص.
في إطار هذا الاهتمام المتجدد، يندرج صدور كتاب “الشريف مولاي أحمد الريسوني من خلال المقالات العربية المنشورة بالجريدة الإسبانية تلغراف الريف من سنة 1907 إلى سنة 1914″، للأستاذين عبد الله كموني وعبد الوهاب برومي، وذلك سنة 2017، في ما مجموعه 181 من الصفحات ذات الحجم الكبير، ضمن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير. ولقد أوضح الأستاذ مصطفى الكثيري الأفق العام لهذا العمل، عندما قال في كلمته التقديمية: “…سعيا من الباحثين عبد الله كموني وعبد الوهاب برومي إلى استبطان هذه الشخصية وتقديم الجديد بشأنها، باعتماد مادة إعلامية من خلال عرض وجهة نظر الصحافة الإسبانية بمليلية، متمثلة في يوميات “تلغراف الريف”، وتناولها لتصرفات زعيم جبالة الشريف أحمد الريسوني. وقد التزم الباحثان بوضع مضامين المقالات العربية في صحيفة “تلغراف الريف” في سياقها التاريخي العام بغرض فهم محتوياتها، والتي يبلغ عددها خمسمائة مقالة، تتناول وقائع شتى وأحداثا متنوعة تخص شخصية الشريف أحمد الريسوني، وحركة مقاومته. وقد تطلب الأمر من الباحثين تحرير مقدماتها، وتحديد ظروفها التاريخية ثم التعريج على متعلقاتها، وهذا ما حدداه في فصول المدخل العام، وفي معالجتهما لمتن نصوص مقالات “تلغراف الريف”، وتعليقهما عليها. ومن أولى هذه المقدمات التعرف على ظروف نشأة الشريف أحمد الريسوني، والسياق التاريخي لتمرده على المخزن العزيزي ثم رسم مراحل تصرفاته السياسية، ومحدداتها التاريخية…” (ص ص. 5-6).
إنه عمل تجميعي هام، لا شك وأنه يساهم في التعريف بجزء هام من المادة الخام الضرورية للقراءة وللتحليل وللاستثمار. هي مواد متشعبة، تحضر فيها منطقة جبالة ومراكزها الحضرية والقروية بشكل كبير، كاشفة عن الكثير من خبايا الرؤى الإسبانية تجاه الظاهرة الريسونية وتقاطعاتها مع مختلف تغيرات محيطها المحلي والإقليمي الدولي الواسع والمتشعب. وللاقتراب من خصوصيات المتون السردية المعتمدة في مقالات جريدة “تلغراف الريف”، نقترح إعادة نشر جزء مما احتوته هذه المقالات حول مدينة أصيلا، باعتبار دورها المركزي والمحوري في مسار الحركة الريسونية خلال مطلع القرن 20. لقد ورد ذكر المدينة بتسميات مختلفة، أهمها أزيلا، وأرزيلة، وزايل، وأصيلا، وأرسيلا. ففي العدد الصادر يوم 20 يونيو 1908، نقرأ ما يلي:
“أزايلة- تجاهر أهل أزايلة بنصر مولاي عبد الحفيظ بعد أن عزلوا واليهم من جناب السلطان، وأقروا واحدا منهم، يباشر أمورهم، وفعلهم هذا يضيق بأهل طنجة لقرب المسافة بينهم، وقد وجه الوزير الحربي السيد الكباص ثلاثماية عسكريا ليهاجموا أزيلة، ويعيدها كما كانت” (ص. 95). وفي العدد الصادر يوم 15 يونيو 1911، تقول “تلغراف الريف”: “أرزيلة- تبتهج كثيرا النزالة الإصبنيولية بأرزيلة بقرب احتلال العساكر الإصبنيولية لتلك البلدة، أما الأهالي، وعموم الجبالة، فإنهم ينظرون إلى أعمال إصبانيا بعين الرضى، ويعتبرونها من صميم مصالحهم، وفرحوا كثيرا باحتلال العرايش، والقصر الكبير، ويرغبون إنشاء بريد خاص فيها بين هاتين المنطقتين” (ص. 122). وفي العدد الصادر يوم 29 يونيو 1911، نقرأ: “هدد اللصوص بعض رعاة الإصبنيوليين خارج هذه المدينة، والتجأ أوليك إلى الفرار تاركين مواشيهم فوضى، وقد طلبت النزالة الإصبنيولية من حكومتها أن ترسل قوة، تكفل لهم بالأمان في تلك الأنحاء، وتطهرها من أدران الثورة، وأوساخ التلصص” (ص. 129).
وفي عدد يوم 18 مارس 1912، تقول “تلغراف الريف”: “الريسولي- جاء من أرزيلة أن القايد الريسولي، أفصح عن ارتياحه لتركيب المركز التلغرافي الهوايي بقرب تلك المدينة، وصول حامية من العساكر الإصبنيولية هناك، وأن أهالي المدينة، قد تلقوا ذلك بعظيم المسرة، كما برهنوا في عدة أوقات” (ص. 137).
وعلى هذا المنوال، تنساب مواد جريدة “تلغراف الريف”، راصدة الكثير من التفاصيل والجزئيات الخاصة بالتباسات الظاهرة الريسونية. ولا شك أن الانكباب العلمي على تحليل المضامين وترتيب السياقات وتفكيك أدوات الخطاب الإعلامي للجريدة المذكورة، سيقدم قيمة مضافة لجهود البحث في خبايا تجربة أحمد الريسوني، بعيدا عن منطق الولاء النزوعي العاطفي، وبعيدا -كذلك- عن هواجس التحامل الجاهز، وقريبا من سقف التميز العلمي الرصين.
أسامة الزكاري