المبحث الثاني: النور، المصطلح والمفهوم:
«إن كان في الوجود ما لا يحتاج إلى تعريفه وشرحه فهو الشيء الظاهر،
ولا شيء أظهر من النور، فلا شيء أغنى منه عن التعريف»([1]).
قال في مقاييس اللغة: «النون والواو والراء أصل صحيح يدل على إضاءة واضطراب» وجعل النار مشتركة مع النور لهذه الدلالة؛ فكلاهما سريع الحركة مضطرب([2]). إلا أن النار،كما يوضح الكفوي، ضوؤها «مكدر مغمور بدخان محذور عنه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق، وإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور، ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذوة، ولا تزال تتزايد حتى ينطفئ نورها ويبقى الدخان الصرف»([3])، ويعقد الكفوي مقارنة بين النار والنفس لما بينهما، حسب رأيه، من تشابه في اللطافة ولزوم الحركة، فيلاحظ اتجاه النار الدائم إلى الفلك الأعلى واضطراب النفس، بخلاف ذلك، في كل اتجاه([4])، ومن أصل النور كذلك النَّوْر (بفتح النون) الذي هو نَوْر الشجر سمي بذلك للمعانه وخاصة إذا كان أبيض([5]). والنور، تعريفا بضده، خلاف الظلمة، إلا أن النور من جنس واحد هو النار، والظلمة متعددة «إذ ما من جنس من أجناس الأجرام إلا وله ظل، وظله الظلمة وليس لكل جِرم نور»([6])، وهذا حسب الكفَوي، مثل الهدى والضلال؛ فالهدى واحد (الإيمان أو الدين)، والضلال متعدد لتعدد الاعتقادات الزائفة([7]). وقد تعني مادة(نور) أمورا أخرى تشذ عن هذا الأصل([8]).
تنقلنا إشارة الكفوي السابقة إلى وضع (النور) في مجاله الديني الإسلامي؛ فما أكثر ما وردت كلمة النور في القرآن الكريم وأحاديث الرسولr لتدل عموما على الهدى والرشاد في مقابل الغي والضلال الذي تدل عليه الظلمة على سبيل الاستعمال المجازي؛ لأن النور في كلام العرب هو الأضواء المدرَكة بالبصر، ومن عادتهم استعارته للدلالة على ما لاح لهم من المعاني كقول الشاعر [الكامل]:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نورا ومن فلق الصباح عمودا([9])
ولهذا جاز أن يقال لله تعالى إنه نور من جهة المدح كما يرى القرطبي، فلا يصح جل شأنه أن يكون من الأضواء المدرَكة كما تدعي ذلك المجسِّمة([10])، فإن العلماء وإن كانوا قد اختلفوا في تأويل الآية: ]الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة [([11])؛ فقيل إن بقدرته تعالى أضاءت أنوارها، كما نقول مثلا «هذا الملك نور أهل البلد أي به قوام أمرها وصلاح جملتها لجريان أموره على سنن السداد»([12]) فإن النور في الملك مجاز أما في صفة الله تعالى فحقيقة محضة([13]) «إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نورا هاديا لأن ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصَرات»([14]). وقبل ظهورها كانت في ظلمة يدركها الله تعالى وهي لا تدرك شيئا، وهذا مثل قوله تعالى: ]والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة[([15])، فهذه أنوار يدرك بها الخلق الأشياء([16])، وكقوله تعالى :] يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث[([17])، فالظلمة نسبة عدمية، والخلق إنما وجد بالنور، وكما في الحديث الشريف، فإن «الله عز وجل خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره»([18]) أو قال: «إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل»([19])؛ فلولا ما أصاب الخلق من نوره تعالى ما ظهروا، ولولا ما أصاب المهتدين منه ما اهتدوا، دون أن يعني ذلك نفي الظلمة بالكامل عن الخلق، وإنما يتم ذلك بدرجات، طردا مع نسبة النور الذي يصيب الإنسان «فأنتم في الظلمة فيكم، وأنتم في الوجود فيه، غير أن لكم انتقالات في وجوده وظلمته تستصحبكم لا تفارقكم أبدا؛ ]وآيةٌ لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون[([20])، ولم يقل: نجعلهم في ظلمة، بل زوالُ عين النور الذي هو الوجود، هو عين كونكم مظلمين: أي تبقى أعيانكم لا نور لها، أي لا وجود لها»([21]). فالظلمة عدم والنور وجود، وبالنور ظهرت الموجودات وقد كانت من قبل في حكم العدم وإن لم تكن كذلك بالنسبة للخالق عز شأنه، فإنها «لم تزل ظاهرة له في حال عدمها كما هي لنا في حال وجودها، فنحن ندركها عقلا في حال عدمها، وندركها عينا في حال وجودها، والحق يدركها عينا في الحالين. فلولا أن الممكن في حال عدمه على نور في نفسه ما قبل الوجود ولا تميز عن المحال، فبنور إمكانه شاهده الحق وبنور وجوده شاهده الخلق…فالحق نور في نور، والخلق نور في ظلمة في حال عدمه، وأما في حال وجوده فهو نور على نور»([22]). وقد قيل في معنى كونه تعالى نورا أن حجابه النور، لأن النور جسم وعرض، والباري تقدس وتعالى ليس بجسم ولا عرض([23])، يقول جلال الدين الرومي:
والنور الخارجي يجيء من الشمس ومن السُّها
وأما النور الباطني فمن انعكاس الأنوار العلا
والنور الذي في العين ليس إلا نور القلب
فأنوار العيون حاصلة من أنوار القلوب
وأما النور الذي في القلب فهو نور الله
إنه نور خالص من نور العقل والحس منفصل عنهما
إنك لا ترى اللون بالليل لأنه لا نور فيه
كما أن النور قد تميز أمامك بضده (الظلام).
إن الخفايا تظهر للعين بأضدادها
ولما كان الحق لا ضد له فهو محتجب عن الأبصار([24])
والنور في نفسه «لا تختلف حقيقته لا بالكمال ولا بالنقصان؛ فتعددت الأنوار إلى نور مجرد وغير مجرد، وكان الكمال المحض لنور الأنوار وهو الحي المدرك لذاته بذاته…القاهر لكل شيء…يقهر ما دونه من الأنوار ولا تقهره»([25]). ومن هذا الكلام نفهم لماذا جعل ابن عربي الخالق نورا في نور، والخلق نورا على نور؛ فالحرف “على” الذي يفيد هنا الاستعلاء يدل، وزيادة على ما شرحه من أن الخلق وهو في العدم (الظلمة) له قابلية للنور فقَبِل من ثم إضافة النور عليه حتى صار نورا على قابلية للنور(أو نورا على نور)، بالإضافة إلى ذلك فإنه يدل على إمكان إضافة مزيد من الأنوار التي يمكن أن يسمو بها الخلق في درجات النورانية دون أن يصل إلى الكمال لما يصحبه من ظلمته التي لا تفارقه أبدا كما عبر ابن عربي. ففوق كل نور يصله السالك نور يقهره إلى أن يصل إلى النور الأقرب([26])«لأنه عين الدليل على ربه، وما يحتمل الوصل أكثر من هذا، فإن فيه مكرا خفيا لعدم المثل للحق»([27]). يقول د. محمد الكتاني تعقيبا على الفقرة السابقة من كلام ابن الخطيب موضحا هذه الفكرة: «هذا استنتاج من فقرة طويلة عند السُّهرَوردي؛ فالعالم عنده أنوار جوهرية وأنوار عرضية صادرة في مجموعها عن أنوار مجردة هي فيض عن نور الأنوار، ولكل نور عال منها قهر على السافل، ولكل سافل منها شوق وعشق إلى العالي»([28])، فكان أول نور صدر عنه تعالى هو النور الأقرب ثم تعددت الأنوار القاهرة كالنور الإسفهبد([29]) التي تعني النفس، والأنوار المدبرة للكواكب، والملائكة…([30]). تصيب هذه الأنوار كل جسم بحسب طبيعته فإما أن يكون حاجزا يمنع النور بالكلية وإما أن يكون لطيفا لا يمنعه وإما أن يكون مقتصدا لا يمنعه منعا كليا([31]). والإنسان العاشق لخالقه إنما يسعى إلى قهر شواغل البرزخ([32]) للاتصال بما فوقه من أنوار، لأن النور الإسفهبد عَشِقَه المزاجُ البرزخي واستدعاه من عالم النور البحت إلى قواه الظلمانية التي قد تقهره وتنسيه موطنه الأصل([33]) وإن كان ليهفو إليه باستمرار ولو بطريقة لا شعورية؛ فإن أخس أنواع العشق الحيواني وما فيه من لذة ما هو في حقيقة الأمر إلا تعاشق للأنوار وحرص للنور “الإسفهبد” على الاتصال بالأنوار العليا للرجوع إلى عالمه، وأخلِق بهذه اللذة أن تكون الدليل على لذة فوق التصور لو سلط الإنسان قهرَه على “الصيصة الظلمانية” فيه، فإن «كل لذة برزخية إنما حصلت بأمر نوري رُش على البرازخ»([34])، وما انجذاب الأجسام إلى بعضها ورغبتها في الاتحاد ببعضها ورفع الحجاب البرزخي عن طريق القهر والمحبة كما نجد بين الذكر والأنثى، إلا لطلب النور “الإسفهبد” لذات عالم النور الذي لا حجاب فيه([35]). ولتناسب النفوس مع النور صارت تنفر من الظلمات وتنبسط عند مشاهدة الأنوار كالحيوانات التي تعشق النور في الظُّلَم وتقصده، وكالإنسان الذي يحب الذهب والياقوت لما بها من نور([36])…ولعل عبادة الشمس منذ القديم أن تكون عشقا للنور([37]). فليس غريبا من الصوفي وهو الأولى بمعرفة هذه الأمور أن يسعى إلى عشق الأنوار والسعي إليه بالمجاهدة «فالحق مخبوء في الخلق من كونه نورا فإذا قدحتَ زناد الخلق بالفكر ظهر نور الحق[الرجز]:
النــارُ في أحـجارِها مخـبوءَةٌ لا تـُصطَلى ما لَـم تُثِــرها الأَزنــدُ»([38])
وقد أراد رسول اللهr بدعائه: «اللهم اجعل في سمعي نورا وفي بصري نورا وفي شعري نورا… واجعلني نورا»([39]) أن يدرك بالحس ما أدركه بالإيمان والعقل، لأن النور المعنوي خفي لا تدركه الأبصار ولا يظهر إلا لأرباب المجاهدات([40])، وقد قيل أن أبا ذرt سأل الرسولr : هل رأيتَ ربك؟ فقال: نورٌ، أنى أراه([41]) ! أي هو نور كيف أراه، والمعنى: كيف أراه وحجابه النور؟ أي أن النور يمنع من رؤيته. وفي بعض الروايات ورد الحديث مثبتا الرؤية؛ إذ كان جواب رسول الله r لأبي ذر فيه: “رأيت نورا”([42])، ويرى ابن عربي أن المشاهدة إن حصلت فبتقييد من الرائي؛ «فإنك لا تراه إلا مقيَّدا قيّده عقلك بنظره وتجلى لك في صورة تقييدك…وما جعل الله عز وجل صفة نوره إلا بالنور الذي هو المصباح ورؤيتنا إياه كرؤيتنا الشمس والقمر، أي: كان كالمصباح فإنه يعلو في الرؤية والإدراك عن رؤية المصباح»([43]).
فمصطلح النور محمل بكثير من المعاني التي أغرت الشعراء المعاصرين والقدماء من الصوفية باستعماله في خطابهم الإبداعي؛ ولعل الرجوع إلى هذا المصطلح بالذات وإلى القيم الإيمانية بوجه عام في الشعر المعاصر أن يكون نزوعا إلى تحويل اتجاه المجتمع الإسلامي نحو النور فإن «أي تحول أسلوبي عام في تصوير الضوء لا بد أن يعكس تحولا في الحضارة كلها» كما يقول “إليوت “([44]).
[1] – روضة التعريف بالحب الشريف؛ 565:2.
[2] – مقاييس اللغة؛ (نور).
[3] – الكليات؛ 908.
[4] – نفسه.
[5] – “الاتجاه الاستشراقي في الشعر الحديث”، د. عبده بدوي، – عالم الفكر؛ مج:25،ع:1 يوليو/سبتمبر 1996؛ ص:163.
[6] – الكليات؛ 908.
[7] – نفسه؛ 909.
[8] -مقاييس اللغة؛ (نور).
[9] – الجامع لأحكام القرآن؛ 169:12 عند تفسير الآية 35 من سورة النور. والبيت الذي استشهد به لأبي تمام في ديوانه؛ 413:1. -الأغاني؛ 304:16.
[10] – نفسه؛ 170:12.
[11] – النور 35.
[12] – الجامع لأحكام القرآن(نفسه).
[13] – نفسه. ومشكاة الأنوار؛ 56.
[14] – نفسه.
[15]– النحل؛ 78.
[16] – الفتوحات المكية؛ 61:1.
[17] – الزمر؛ 6.
[18] – المنقذ من الضلال؛ 46.
[19] – الترمذي؛ 2642.- أحمد؛ 27761،27766.
[20] – يس؛ 37.
[21] – الفتوحات المكية؛ 62:1.
[22] – نفسه؛ 392:3.
[23] – اللسان؛ (نور).
[24] – مثنوي؛ 180:1.
[25] – روضة التعريف؛ 566:2.
[26] – لنتذكر هنا فكرة المدارج الهرمسية وتخلي الإنسان السالك فيها في كل دائرة فلك عن بعض عناصره.
[27] – الفتوحات المكية؛ 392:3.
[28] – روضة التعريف عن هامش المحقق؛ 566:2.
[29] – قال د. محمد الكتاني في شرح الكلمة: «الإسفهبد لفظ فهلوي بمعنى قائد الجيش، ولما كانت النفس الناطقة هي مدبرة البدن سميت كذلك اسفهبد؛ أي مدبرة البدن».- نفسه.
[30] – روضة التعريف؛ن.ص.
[31] – نفسه؛ 567:2.
[32] – البرزخ هو الجسم عموما أو المادة بوجه أعم.- د. محمد الكتاني،(عن هامش روضة التعريف)؛ 567:2.
[33] – روضة التعريف؛ 569:2-570.
[34] – نفسه؛ 573:2.
[35] – نفسه.
[36] – 569:2.
[37] – نفسه؛ 573:2. -المفصل في تاريخ العرب؛ 55:6.
[38] – الفتوحات المكية؛ 392:3.
[39] – ينظر البخاري؛ 6316.
[40] – الفتوحات المكية؛ 392:3.
[41] – مسلم؛ 178. واللسان؛ (نور).
[42] – نفسه. ومعناه حسب محقق صحيح مسلم: رأيت النور فحسب ولم أر غيره.
[43] – الفتوحات المكية؛ 392:3.
[44] – نقلا عن، الاتجاه الاستشراقي، د. عبده بدوي، عالم الفكر، م. س؛ 173.
د. المختار حسني