العشق:
العشق: نبدأ بهذا النموذج متخذينَه في الوقت نفسه مثالا عن اشتغاله خطابا مثل باقي المصطلحات الأخرى. يقال إن الحب إذا تجاوز الحدود سمي عشقا «والعَشَقُ والعَسَقُ بالشين والسين المهملة: اللزوم للشيء لا يفارقه، ولذلك قيل للكلِف عاشق لِلُزومِه هواه»([1]). وقيل إن العاشق إنما سُمي كذلك لأنه «يَذبُل من شدة الهوى كما تذبل العَشَقَة إذا قُطعت، والعَشَقة شجرة تخضر ثم تَدِقُّ وتصْفرُّ…هي عند المولدين شجرة اللَّبْلاب»([2]). وهو في مجاله البشري مرض من الأمراض كما يقول ابن قيم الجوزية لأنه «لا يعرض في شيء من أنواع المحبة من الوسواس والنحول وشغل البال والتلف ما يعرض من العشق»([3])، وما يقال من أن رسول الله rحدَّث بقوله: «من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة» أو«من عشق فعفَّ فمات فهو شهيد»؛ فحديث باطل «لا يصح عن رسول الله r ولا يجوز أن يكون من كلامه فإن الشهادة درجة عالية عند الله مقرونة بدرجة الصديقية»([4])، لأن العاشق قد يعشق عشقا يستحق عليه العقوبة([5]). غير أن الصوفية جعلوا العشق الدنيوي سبيلا إلى العشق الإلهي على نحو؛ «وقد هدتنا التجارب-يقول د. زكي مبارك-إلى أن المحبين في العوالم الروحية كانوا في بدايتهم محبين في الأودية الحسية. والهيام بالجمال الإلهي لا يقع إلا بعد الهيام الحسي…»([6])؛ كما وقع لابن الفارض([7])، وكما حكى ابن عربي عن نفسه في ترجمان الأشواق([8])، وفيه يفرق بين الهوى والحب والود والعشق فيقول: «والهوى عندنا عبارة عن سقوط الحب في القلب في أول نشأة في قلب المحب لا غير، فإذا لم يشاركه أمر آخر وخلص له وصفا، سمي حبا، فإذا ثبت سمي ودا، فإذا عانق القلب والأحشاء والخواطر لم يَبق فيه شيء إلا تعلق القلب به سمي عشقا، من العَشَق، وهي اللبلابة الْمَشُوكَة»([9]). وبهذا يرتقي إلى معنى الاتحاد بين ذات المحب وذات المحبوب «اتحادا يوجب غفلة المحب شغلا بشهود محبوبه في ذاته بذاته، ولذا قيل إنه أقصى مقامات الذهول والغيبة»([10]) حيث تفنى ذات المحب في ذات المحبوب ويقع لها الكشف والمشاهدة والإخبار بالغيب. فلا بد للعاشق من المرور بالغرام فالافتتان فالوله فالدهش ليصل إلى العشق/الفناء([11]). وهكذا نقف على الطريقة التي حَمّل بها المتصوفة لفظة العشق معاني جديدة لم تكن معروفة من قبل، وبهذه المعاني الصوفية اكتسبت اللفظة شعريةً خاصة، لأن بها “مسافة توتر” بين معنيين؛ معنى قديم هو العشق “الحسي”، ومعنى حديث هو العشق الإلهي، أي أن الكلمة في حد ذاتها خطاب، بحسب المفهوم الذي عرَّفه به “باختين”؛ إذ هي تحتوي على هذا الصوت المزدوج، أو ما يسمى الحوارية، بين معنيين متنافرين على أكثر من صعيد، متشابهين على صعيد آخر، يقول باختين: «إن الكلمة المفردة ذاتها قد تتضمن علاقات حوارية إذا اصطدم فيها صوتان اصطداما حواريا»([12]). وسواء تعلق الأمر بمصطلح العشق أو بغيره من مصطلحات التصوف ورموزه فإن ما يستهوي المتلقي بصفة عامة، والشعراء بصفة خاصة، في تلك الكلمات هو هذا الجانب من الحوارية الذي يغدو ذا سلطة قضائية يفرض شرائطه للاسترسال في الحوار([13]).
وفيما يلي بعض قصائد المتن التي ورد بها مصطلح “العشق” واشتقاقاته لكل شاعر على حدة:
1-بنعمارة:
القصيدة المصدر والصفحة
أ-وأقرأ كفك ثانية نشيد الغرباء؛ 39
ب-غنائيات النوارس الحزينة ……….؛ 32.
ج-هذا وقت تختار صلاتك فيه مملكة الروح؛ 16-18.
د-كنا مقتولين أمامهما آخر العمر ………..؛ 43.
هـ-أسفار داخل إيقاع الموج ………..؛ 54.
و-أسلافي ………..؛ 56.
ز-باب الجسد حرفك أسرار الدنيا ………..؛20-22.
ح- مملكة الروح ……….؛ 31،36.
ط-هذه البساتين تناجيك السنبلة؛ 31.
ي- الإيقاع الخامس ……؛ 39.
ك- المحراب ……؛ 75.
ل- شيخوخة هذا البحر ……؛ 11،13.
م- إيقاع الآتي ……؛ 85.
ن- وللسنبلة نشيدي ……؛ 83.
س- في معنى الجسد …..؛ 20.
فظاهر من خلال هذا الاستعراض أن بنعمارة أكثر استحضارا لكلمة “العشق” ومشتقاتها من صاحبيه. وإذا نظرنا إلى مجموع إنتاجه للتأريخ لهذه الكلمة في شعره لاحظنا بجلاء وجود هذه الكلمة في أشعاره التي نظمها قبل الاتجاه إلى الإسلامية، نجد ذلك على سبيل المثال في قصائد(الكوخ والقصيدة والجدار([14]) /الغاضبة([15]) /آه يا بيروت([16]) /قصيدة متمردة([17]) /الجدران ولون الصبر([18]) / قبل ولادتنا كانت أعوامك رحلة([19]) /موال جرح الوردة([20]) / الليلة ما بعد الألف عند أقدام شهرزاد([21])…)؛ هذه النماذج تبين ولع بنعمارة بهذه الكلمة في هذه المرحلة، إلا أن استعمالها لم يكن إلا في المعنى المألوف مع بعض الانزياحات التي لا تخرجها إلى المعنى الصوفي. كقوله مثلا في قصيدة “الكوخ والقصيدة والجدار” حيث الاستعمالُ العادي الذي قد يخرجه ذكره للموقد والنار إلى الاشتهاء الجسدي([22]):
أعشق لا شيء…أحب الموقد والنار
وفي قصيدة “الغاضبة” حيث صورة “ارتعاش الأوصال” الموحية بنفس الدلالة السابقة:
جربتُ العشق الغاضب فارتعشَت أوصالي
حيث نلاحظ هذا الانزياح في نعت العشق بالغضب وإن كان لم يَحِد عن معناه الأصلي أي في ارتباطه بالأنثى.
وفي قصيدة “آه بيروت”:
بيروتُ سنبلةٌ تتحرك في صدر العشاق
بيروت العذراء يبادلها العشقَ الأزرقَ ملاحٌ مخمور
ودون أن تنفلت الكلمة “العشق” من معناها المرتبط بالمرأة كما هو بَيّن في تشبيه الشاعر بيروت بالعذراء، أو بالأحرى فإن الشاعر هو الذي قيّد بيروت بهذا التشبيه حتى يُخضعها لكلمة “العشق”، دون أن تنفلت؛ ينعتها الشاعر بنعت غير مألوف وهو الزرقة، تنفيرا من هذا النوع من العشق، فقد قيل في تفسير “زرقا” من قوله تعالى:]ونحشر المجرمين يومئذ زرقا[([23])؛ بأن معناها “عطاش”، أو معناها: ازرقَّت عيونهم من شدة العطش. ويكفي أن تكون الزرقة مرتبطة بالمجرمين لتؤدي تلك الوظيفة في التنفير من هذا الضرب من العشق الذي اكتشفه الشاعر. وقد ربطها بدوره ب”ملاح مخمور” لن يقود سفينتها إلا إلى الغرق؛ في إشارة منه إلى الفتنة التي اشتعلت بلبنان سنة 1975.
(يتبع).
[1] – اللسان؛ (عشق).
[2] – نفسه.
[3] – زاد المعاد؛ 271:4. -روضة المحبين؛ 153.
[4] – نفسه؛ 4: 275. وفي روضة المحبين؛ 193-194.أسباب تضعيف هذا الحديث.
[5] – روضة المحبين؛ 194.
[6] – التصوف الإسلامي؛ 217.1.
[7] -نفسه.وينسب إليه شعر(مواليا) قاله في عشق غلام: وفيات الأعيان455:3.
[8] – ترجمان الأشواق؛ 8-9.
[9] – نفسه؛ 14.
[10] – معجم مصطلحات الصوفية؛ 184.
[11] – نفسه.
[12] – شعرية دوستويفسكي؛ 268-269.
[13] – عن السلطة القضائية والاسترسال في الحوار يستحسن الرجوع لكتاب المؤلف المذكور سابقا: مفهوم التناص وخصوصية توظيفه، مطبعة النجاح الجديدة، ص: 36-39.
[14] – العشق الأزرق؛ 90.وهي مؤرخة في المجموعة ب:15 ماي 1974.
[15] – نفسه؛ 114،118.
[16] – نفسه؛ 123،127،132.
[17] – نفسه؛ 134-135.
[18] – العلم الثقافي؛ 16 يوليوز 1976.
[19] – – نفسه؛ 1 أكتوبر 1976.
[20] – نفسه؛ 22 أبريل 1977.
[21] – نفسه؛ 1 أبريل 1977.
[22] – النار كما يقول “باشلار” مرافقة لرغبة الحب منذ ما قبل التاريخ. يقول و«في اللغة الدارجة تُستعمل كلمة”ملتهب”…تجنبا لاستعمال كلمة غير مهذبة متضمنة لمعنى جنسي». – النار في التحليل النفسي؛ 53-55.
[23] – طه؛ 102.
د. المختار حسني