اختارت هذه الورقة لنفسها نمط القراءة التي تمتاح من مرجعيات مختلفة ومتنوعة،ومنها المرجعيات التأويلية، التي تقرأ النص من زاوية كونه معطى لغوي،إنساني،انسيابي، توهجي،له معنى ظاهر ودلالة مبطنة، وبالتالي فالتعرف على دلالة النص الموغلة في التواري عن أفهامنا البسيطة، تستدعي قراءة خاصة أي القراءة التي تُكابدُ من أجل تعبيد الطريق لفهمه،وتحمل مشاق الوصول إلى كنهه،إن كان له كنه نهائي.
إن معولًنا في تعبيد طريق فهم النص، هُو معولُ محبته ومحبة الروح الشاعرة الكاتبة،وما محبة النص إلا جزء من محبة صاحبه. إذن فعلاوة على المرجعيات التأويلية المختلفة، سنعتمد على المعرفة الدقيقة بالذات الشاعرة.
الشيخي يفك قيود الحصار ويسير وحيدا يشق عباب البحار ويرتاح في عش ذاك العبق الفواح،وهو بذلك في عشقه لغرناطة والفردوس المفقود كان دائما راحلا إلى غياهب الحلم في الوصل والحنين ليقضي مسامراته وسفرته التي لانهاية لها في هذا المكان،كأنه نورس لايسعد أو يهنأ له بال حتى يحوم في بحر يقطف منه فاكهة الشمس وينشر ألوانه في زحام الشوارع، ثم يمضي بعيدا في مجرى شهوة ذاك العالم،شاعر سبعيني،انطلق و تألق شعريا منذ أوائل السبعينيات،و لكن كانت بوادره الأولى تعود إلى أواخر الستينيات،من خلال النصوص التي كان ينشرها بين الحين و الآخر.
“والشيخي” شاعر ملتزم بالشعر، هذا العشق الصوفي المدنف للشعر، ظاهر في لغة الشيخي الشعرية، المنخلة المكثفة،المقطرة،كما هو ظاهر في صوره و أخيلته الشعرية و في طريقة بنائه و توليفه لجسد القصيدة كما جاء على لسان الناقد نجيب العوفي.
وسنحاول من خلال هذا العرض وضع تصور دلالي حول ما قدمه الشاعر محمد الشيخي في ديوانه وردة المستحيل حيث قال :حقيقة أن الديوان الاخير” وردة المستحيل” يحملني نحو فضاء مثل غرناطة، ولكن ليس هذا الفضاء على المستوى المكاني والسياحي، وإنما كفضاء ثقافي، لذلك تجد في الديوان “لوركا” و”آلبرتي” وأماكن معينة في غرناطة مثل :ساحة كارمن،ساحة الحمراء ،إلى غير ذلك… أما بالنسبة لتطوان فهناك حضور الذاكرة والماضي و الطفولة، إذا صح التعبير، هناك “باب الصعيدة” الذي كتب فيها قصيدته الأولى، وكذلك هناك فضاءات غابت عندما عاش ربع قرن في مدينة الدار البيضاء وهذه المدينة هي التي شكلت الفضاء المكاني بالنسبة لشعره في الديوانين السابقين.
نجد الشيخي يفتتح ديوانه كما يفتح المحارب الأندلس حيث رائحة الاماكن وذكر الأخلاء والوفاء لهم،حيث أشار الى أحمد الجوماري الذي يخصص له الشاعر قصيدة كاملة مهداة وفي الصفحة السادسة عشر أيضا يذكر بعض أصدقائه الأصفياء القريبين إلى قلبه و العازفين على وتره،أقلهم ضيوفا شرفيين في ديوانه الجديد. فهم أشقاء روحه تجمعه و إياهم آصرة الهم الشعري،آصرة الهم الشعوري.آصرة الهم الإنساني النبيل، حيث قال الشيخي : أتذكر الشاعرالراحل أحمد الجوماري،وقد أهديته قصيدة في ديوان وردة المستحيل ،وكذلك الشاعر أحمد المجاطي، والمرحوم عبدالله راجع و الشاعر احمد بنميمون الذي عاش معي فترة في الدار البيضاء، وكذلك شعراء آخرين مثل إدريس الملياني، وغير ذلك من الشعراء ،هؤلاء طبعا ينتمون الى النقد الصحافي (جيل الستينات والسبعينات) ولكن في الواقع لم يكن هؤلاء نسخة واحدة فـ :عبدااله راجع ليس هو احمد بنميمون ولهذا فان النقد هو الذي صنف هذه الفئة كأنها تشكيلة. وأردف قائلا:هناك هم سياسي،لكن هذا غير صحيح،و عندما أعود أنا شخصيا كقارئ إلى شعري ” حينما يتحول الحزن جمرا ” لاأجد شعارات، والشعرية لم تختف،كل ما هناك أننا كنا نريد تغيير الواقع لذلك كان يجب أن نناضل بتشكيل حداثة جديدة،وصور جديدة و لخلق التعدد في إطار ما يسمى بالحداثة الشعرية المعاصرة، وكان من الأجدر أن لانتحدث عن انتمائنا إلى جيل واحد،وإنما إلى خصوصية الفردية التي يجب أن نلمسها في اللغة و الايقاع وتشكيل الصورة والفضاء والرؤيا.
الديوان الذي بين أيدينا (وردة المستحيل) هو الديوان الثالث للشاعر بعد ديوانيه الاشجار وحينما يتحول الحزن جمرا.والنص الإبداعي كما هو معلوم، رهين سياقه و مرحلته و أنه، بقدر ما هو متجاوز و متعال على قيود الزمان و المكان،فالمناسبة شرط كما يقال،و سياق النص جزء أساس من كيمياء النص.
و نصوص (وردة المستحيل) تمثل النصوص الأخيرة و الجديدة التي أنتجها الشاعر في غضون التسعينيات من القرن الفارط.ومرحلة التسعينيات، بداهة، تغاير إلى هذا الحد أو ذاك، مرحلة السبعينيات و الثمانينيات. إنها مرحلة الجزر و الإحباط لكل الأحلام و الأشواق العراض الحرار التي التهبت بها الجوانح و الصدور إبان السبعينيات و الثمانينيات. إنها مرحلة الإنكسارات و الإنهيارات على أكثر من مستوى،لذلك كان طبيعيا أن يتغير الحقل الدلالي و الشعوري في هذا الديوان عن سابقيه. كما كان طبيعيا أن يتغير،تبعا، إيقاع اللغة الشعرية و المعجم الشعري، دون أن يعني هذا بالضرورة تغييرا في “الأسلوب الشعري” الذي عُرف به الشيخي سابقا في ديوانيه،و الذي ظل وفيا له في هذا الديوان،و إن بصيغة جديدة، منقحة و مزيدة و”المستحيل” هو عمق هذا الديوان و معينه الدلالي، و هو مبتدأه و خبره. و لا يكاد يخلو نص من نصوصه من حضور هذه الكلمة المهيمنة/المفتاح بصيغ نحوية-إضافية مختلفة ومؤتلفة في آن واحد وهذه نماذج فقط من هذه الصيغ:
– للمساء الذي يتدلى بين الأصابع
يشرب قهوته.. فوق أرصفة المستحيل.
ص، 13.
تزرع أبياتا
في زحام الظهيرة
تحصد سنبلة المستحيل. ص، 20
يحلو لك أن تتعرى
في أعراس القصيدة
أو تمتطي صهوة المستحيل
هو الحلم يقفز من وحشة المستحيل
تتفتح في دهشة المستحيل
تمهلي
وأنت تهبطين في درج المستحيل
ص، 36
يلعب لعبة العريس و العروس
في فراش المستحيل.
ص، 37
قد تتساقط أقلام الحلم المستحيل
هذا الحضور المهيمن لكلمة (المستحيل) كلازمة دلالية و شعرية و إيقاعية متكررة و متجردة، يدجل من ديوان (وردة المستحيل) نشيدا شعريا متلاحما موزعا إلى وقفات أو معزوفات شعرية مختلفة و مؤتلفة في الآن ذاته.
يسري بينها و عبرها خيط شعري و شعوري ناظم و لاحم. ولعل هذا ما حدا بالشاعر إلى أن يسم ديوانه بهذا العنوان الدال،الجامع المانع، (وردة المستحيل). إن الديوان منذور، من ألفه إلى يائه، لمجابهة هذا المستحيل و منازلته و لو بوردة.
الشعر و سنبلته ! وماذا يكون الشعر يا ترى إن لم يكن مجابهة للمستحيل و تحديا له،و استشرافا لتلك الأماني القصية العصية التي تأتي و لا تأتي؟
ماذا يكون الشعر يا تُرى، إن لم يكن نشيدا للحياة،و صيحة ضد الموت؟
و مهما يدلهم الأفق بالسحب السود، و تتراكم النوائب و الخطوب على الطريق، فإن ثمة بارقة أمل تلمع في الأفق. ثمة لمعة ضوء تقاوم الظلمة و تواجه اليأس و الانكسار،و تعيد الدفئ إلى القلب المقرور ولهذا تكثر في الديوان كلمات أخرى مفاتيح تشكل تنويعات على ذلك الوتر الرئيس، وتر المستحيل : الحلم و العشق و الشوق.. و هي الكلمات المفاتيح التي تزرع لمعة الضوء و سط الحلكة الداكنة
الشيخي محب ومقدس للشعر لكن في مقابل هذا الاحتفاء الجميل بالشعر و الإشادة بأعراسه و مباهجه، يحمل الشاعر على كل شعر يداجي الحقيقة، كما يسخر لاذعا من الشعراء الذين يخذلون رسالة الشعر و لا يحترقون بجمرته، كما فعل في قصيدته المشحونة أندلس المحال …
يقول عبد الكريم الطبال : إن القصيدة تمشي كما الظلال، كما الغيمات، وكما شجرة اللوز التي أزهرت حينما قال لها الشاعر: “أريني كيف أرى الله”.
وكما قلبا إلى قلب، لا يلويان على أية جهة. كأنهما واحد في اثنين، أو اثنين في واحد، يقطعان الطريق السحري الغامض عبر اللاجهة واللامحدود. ودائما كانت هذه الطريق تعج بالسائرين الحالمين المهووسين بالمستحيل.
وفي الطريق هذه،يمشي محمد الشيخي في صحبة قصيدته، وكأنهما واحد لا شريك له.
ذ. خالد الهيتوت