يعتبر كتاب “الطريق لمعرفة القصر الكبير” للأستاذ محمد بوخلفة من أهم المصنفات التاريخية الوطنية التي حاولت تقديم المعطيات الأساسية المرتبطة بماضي مدينة القصر الكبير، بدءً من مرحلة التأسيس الرومانية ومرورا بالعصور الوسطى والحديثة، وانتهاءً بالفترات المعاصرة الممتدة إلى يومنا هذا. ولقد صدر هذا العمل سنة 1972 في ما مجموعه 154 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، واحتوى على العديد من المعلومات والوقائع التي يمكن اعتبارها مداخل أساسية لفهم خصوصيات التطور البشري والحضاري لمدينة القصر الكبير، سواء في إطارها المحلي الضيق أم في امتداداتها الجهوية والوطنية. ولا شك أن الأستاذ محمد بوخلفة قد بذل مجهودا هاما لجمع كل هذه المعلومات وتصنيفها وترتيبها، ولا أدل على ذلك من احتفاظ مضامين الكتاب بقيمتها التنقيبية إلى الآن، وذلك على الرغم من تقادم بعض معطيات الكتاب ومن افتقاده لبعض الأدوات التحليلية/المنهجية الضرورية في حقل الكتابة التاريخية العلمية المعاصرة، وكذا على الرغم من محدودية توظيفه للوثائق وللمصادر الأساسية في موضوع نبشه.
يتوزع الكتاب بين مجموعة من المواد المسترسلة والمتداخلة مع بعضها البعض، بشكل يكاد يصبح من الصعب التمييز بين وحدات المتن. فبعد المقدمة التمهيدية التي لخص فيها المؤلف السياق العام الذي أثمر هذا الكتاب، انتقل الأستاذ بوخلفة إلى تدقيق النظر في إشكالية اسم المدينة وذلك في أصليه الروماني المرتبط بموقع أبيدوم نوفوم، والعربي الإسلامي المرتبط بتباين الروايات التاريخية حول الأسماء الثلاثة الدالة على نفس الموقع، وهي قصر كتامة وقصر عبد الكريم والقصر الكبير. بعد ذلك، انتقل المؤلف إلى تحديد الموقع الجغرافي للمدينة وإلى التعريف بتطور ساكنتها على مر العصور والأزمنة، مع التوقف للتعريف بالعادات والأعراف السائدة بالمدينة وذلك على مستوى التغذية واللباس والحفلات والولائم والمآتم والأعياد والمواسم الدينية. وقد ختم الأستاذ بوخلفة هذا العنصر بالحديث عن أهم الحرف والمهن التقليدية المنتشرة بالمدينة، مع ترتيبها حسب أهميتها الوظيفية بالنسبة للسكان.
وبعد هذا المدخل العام، توقف الأستاذ بوخلفة لتفصيل الحديث عن التطور التاريخي للمدينة، بدءً من العهد الروماني ومرورا بالفترات الإسلامية وانتهاءً بالمرحلة الراهنة. في هذا السياق، ركز كثيرا على وضعية المدينة خلال عهد الأدارسة والموحدين، مقدما ومعرفا برجال العلم والتصوف الذين عاشوا بمدينة القصر الكبير أو الذين كانوا ينحدرون منها، من أمثال الشاعر أبو علي القصري والعالم أبو الحجاج السقطي والقطب مولاي عبد السلام بن مشيش. وفي نفس السياق كذلك، تناول وضعية المدينة خلال عهد المرينيين، ودورها في إعلان الثورة على حكام العصر وعلى فساد الأخلاق وفي الدعوة للجهاد لتحرير الثغور التي احتلها كل من الإسبان والبرتغاليين، كما قدم –في نفس الإطار- تراجم رجال التصوف والزوايا التي كانت موجودة بالمدينة وبنواحيها خلال هذه الفترة من أمثال سيدي الغزواني وسيدي مخلوف بن جابر الطليقي.
وقد استفاض الأستاذ بوخلفة كثيرا في تسليط الأضواء على معركة وادي المخازن من خلال الوثائق الديبلوماسية الأجنبية، ومن خلال الوصف الذي خلفه الطبيب اليهودي الذي كان مرافقا لعبد المالك السعدي، ومن خلال –كذلك- الوصف الذي خلفه السفير “دوك مدينا” والذي نشره الباحث الفرنسي دي كاستري. وامتدادا لنفس المسار التطوري العام، انتقل المؤلف إلى رصد وضعية المدينة خلال عهد العلويين، مركزا على دورها الجهادي الذي توج بتحرير مدينة العرائش من قبضة الإسبان سنة 1689. وقد تتبع مختلف التطورات التي عرفتها المدينة على عهد السلاطين العلويين منذ مطلع القرن 17 وإلى بداية القرن 20، ثم ليصل –بعد ذلك- إلى مرحلة الاستعمار الإسباني، ليعرف بمسارات الحركة الوطنية بالمدينة وبأبرز رموزها وأقطابها الذين تركوا بصماتهم الزكية على الوجه الجهادي للمدينة. وبخصوص مرحلة الاستقلال، قدم الأستاذ بوخلفة نظرة عن التطور العام الذي عرفته القصر الكبير خلال عهد المرحومين محمد الخامس والحسن الثاني، مع التركيز على ظروف إنشاء أول مجلس بلدي للمدينة وعلى الجهود التي بذلت للتحكم في ظاهرة الفيضانات المهولة التي كانت تصيب المدينة وذلك قبل بناء سد وادي المخازن. وختم المؤلف عمله التجميعي بتقديم معلومات قيمة حول وضعية المدارس والتعليم بالمدينة قبل الحماية ثم خلال فترة الاستعمار وبعد حصول البلاد على استقلالها السياسي، مدرجا جداول إحصائية مهمة حول المدارس والثانويات والكتاتيب القرآنية والمساجد والزوايا الموجود بالمدينة، وأنهى كل ذلك بالتعريف بعلماء المدينة وبخطباء مساجدها وبرجال زواياها، بالإضافة إلى رجال القضاء ورجال السلطة الذين تحملوا مسؤولية تسيير شؤون المدينة بعد الاستقلال. كما تناول الأستاذ بوخلفة موضوع الحركة الثقافية المعاصرة بالقصر الكبير، معرفا بأطباء المدينة وبمهندسيها، مع التركيز على الشعراء والكتاب والفنانين. كما قام بالتعريف بالقبائل المجاورة لمدينة القصر الكبير وخاصة قبائل الخلوط وأهل سريف وبني يوسف وبني زكار. وكان آخر ما ختم به المؤلف كتابه، جرد لتعاليق الصحف الوطنية على صدور كتاب “الطريق لمعرفة القصر الكبير”، وهي التعاليق التي تبين قيمة الكتاب، باعتباره “حدثا ثقافيا” نجح في تغطية العديد من الثغرات التي اكتنفت ماضي المدينة وحاضرها.
وبكل هذه المواصفات، يمكن القول إن الأستاذ بوخلفة قد نجح في رهانه وقدم للباحثين وللمهتمين مادة خام يمكن أن تشكل أرضية للاشتغال وللانطلاق. وإذا كنا نسجل عدة ملاحظات على صحة بعض الوقائع وعلى طريقة عرضها وإدراجها في سياق عمل تأريخي محلي، فالمؤكد أن هذه الملاحظات لا تنقص في شيء من قيمة المجهود الذي بذله الأستاذ بوخلفة، بل أكثر من ذلك، يمكن أن نقول إن هذه الملاحظات شكلت –بكل تأكيد- خير محفز لأبناء المدينة على استكمال البحث والتقصي والتنقيب في ماضيهم العريق وفي رصد انعكاسات هذا الماضي على تقاطعات الحاضر. ولعل هذا ما انتبه إليه الأستاذ بوخلفة، عندما قال: “وقصدنا من هذا كله هو الطريق لمعرفة هذه المدينة المجاهدة ودورها عبر التاريخ معتمدين في ذلك على المراجع القديمة والحديثة تاركين لشبابنا البحث والتنقيب والزيادة…” (ص. 4).
هذا هو الرهان المطروح على الباحثين المحليين، وهو رهان لا يقبل التأجيل ما دمنا لازلنا نعتمد في كتابة تاريخ المدينة على حوليات قديمة أصبح جزء منها متجاوزا، أو على كتابات استعمارية كانت لها وظائف غير بريئة وجسدتها –بشكل خاص- كتابات الباحث الفرنسي ميشو بلير ومعه رواد البعثة العلمية الفرنسية بطنجة. إنه عمل صعب لكنه ليس بمستحيل إذا ما أطلقنا المبادرات الوطنية في هذا الاتجاه، وإذا ما تضافرت الإرادات الحسنة وتكاثفت النيات الصادقة قصد الاضطلاع بهذه المهام النبيلة.
أسامة الزكاري