العرائش !
تنعتها المصادر التاريخية الأجنية، خصوصا الإسبانية، بجوهرة المحيط. تقع جغرافيا على ساحل المحيط الأطلسي، وعلى الضفة اليسرى من مصب واد لوكوس. فهي مدينة مائية تاريخها أشسع مما يمكن تخيله، امتد على عصور سحيقة..فينيقية وقرطاجية ورومانية إلى أن آل بها الأمر في التاريخ المعاصر إلى مستعمرة إسبانية.
احتلت العرائش في المخيال الإنساني مكانة ساحرة بحكم ما حظيت به، طبيعيا وأنتربولوجيا وثقافيا، من موقع آسر. وعرفت سياحيا مجدا منقطع النظير إشعاعيا، انعكس بكل تأكيد على مردوديتها الاقتصدية والاجتماعية.
ساحة التحرير بجمالية بناءاتها المستندة إلى تنوع المرجعيات الهندسية الأوروبية أكسبتها جماليا ملامح خصوصية موريسكية تربطها بأصولها الإسلامية. والساحة متصلة من حيث مدارها الحضري بمعمار المدينة العتيقة الساحرة الآهلة بالسكان وبالمحلات التجارية التي شكلت عصب اقتصاد المدينة.
إذن تاريخيا كانت العرائش مدار اهتمام عالمي سياحيا واقتصاديا، حققت به ترتيبا متقدما في مؤشرات استجلاب المشاريع العائدة بالمردودية على ساكنتها.
غير أن المدينة في مآلاتها الأخيرة تردت على مستوى التأهيل الذي يفترض الذي أن يواكب مكانتها التاريخية. بل إن العديد من مكتسباتها في المجال السياحي، وعلى مستوى غناها في المآثر التاريخية شهدت إهمالا ملحوظا جعل منها مدينة غير مغرية من ناحية جلب السياح أو استيراد المشاريع الخاصة، الوطنية والدولية.
العديد من مدن الشمال عرفت قفزات جريئة من جانب نموها السياحي..أصيلا وطنجة وتطوان المضيق… يشد إليها الرحال صيف كل سنة. وغير خاف على كل متتبع حجم الانتعاش الاقتصادي الذي تخلقه دينامية قضاء العطل الصيفية والمناسباتية بهذه المدن.
شاطئ العرائش بامتداداته الشاسعة وبنموذجيته الإيكولوجية، وباقي مؤهلات المدينة الجمالية والطبيعية والمعمارية :
شاطئ “بليغروسا”.
“الشرفة الأطلسية”، مزار كل وافد على المدينة.
غابة “الأوسطال”، المتنفس الطبيعي.
الموقع الأثري “الليكسوس” بحمولاته الأثرية والأسطورية.. التنين المرمري، التفاح الذهبي…
إقامة “الدوكيسا” التي تثير العديد من اللغط الثقافي حاليا بسبب إمكانية هدمها.
“حصن الفتح” و”برج اللقلاق” و”القبيبات” و”الصقالة”.
معلمة “الكوميدانسيا”، حيث يوجد حاليا المركز الثقافي والمعهد الموسيقي.
كل هذه المدخرات يفترض أن تجعل مدينة العرائش مفخرة مغربية سياحية، وأن تجعل الأنظار من جديد تتجه صوبها تعيد إليها مجدها المتواري.
شاعر فلسطيني أقام طويلا بالعرائش قال في مطلع قصيدة شعرية:
عرائش الكون لا أهوى سواها هي الدنيا وقفر ما عداها
لست أعلم إن كان كل هذا المنجز المسطر في سجل “جوهرة الشمال” يحضر في أذهان المتقلدين لمسؤولية تدبير المدينة محليا ووطنيا. ولست أدري أيضا إن كان هناك أي استشعار للمعاني الأخلاقية والقانونية الذي قد يتحمله هؤلاء تجاه مدينة جلبت إليها سابقا المطامع الاستعمارية، قبل أن تجلب إليها المشاريع الاقتصادية التي شكلت متنفسا اقتصاديا ومعنويا لساكنتها.
لم يحصل الامر، بدون دلالات حضارية، أن يختار اثنان من كبار الأدباء العالمين العرائش للإقامة والموت بها..”جون جونيه” الذي تعايش مع ساكنة العرائش، وأقام بينهم لسنوات، يتقاسم معهم أملهم وألمهم، واستثمر جزء في فضاءاتها في متخيلاته الروائية، وترك وصيته التاريخية يوارى جثمانه بين بسطاء مدينة عظيمة…”وخوان غويتيسولو” الذي الذي كان حلمه الذي يلازمه أن يودع موته أمانة بين يدي العرائشيين.
قبرا الكاتبين العالميين الآن يشكلان مزارا طقوسيا ضروريا للعديد من الشخصيات العالمية التي تقرر المجيء للعرائش لاكتشاف الأسرار الخفية وراء قرار هذين العظيمين لاختيارها ملجأ ومنجى روحيا لهم.
نهر اللوكوس ارتبط رمزيا بملحمة حدائق “هيسبريديس”، الجنة التي كان يحميها التنين المرمري، الذي ليس إلا النهر نفسه، يحميها من الأطماع،ويحرس تفاحها الذهبي الذي ليس إلا المعادل الإستيطيقي لخيراتها المنذورة للنهب.
في ديوان “رماد هيسبريس” للشاعر المغربي محمد الخمار الكنوني نقتبس هذا المقطع الشعري..
“من يد ليد تتنقَّل هذي الحقول ترابا، هواء، وماء.
فهل كان ذلكم قدرا وقضاء؟
أبحرت بالحقول السفين،
إلى أين؟ ليست؟
الأسرار الخفية بسيطة على ما يبدو، بل وجلية لكل زائر للعرائش. فهي مدينة “أسطورية” بكل المعاني والرمزيات الممكنة.