اللوجوس والجدل
إن الخطباء سادة أنفسهم حين يتكلمون من أماكنهم وحين يتوجهون إلى رئيس الجلسة. إنهم يتخلصون من ضغط المنصة ويتكلمون بدون شكليات. ويمكن للمداخلات أن تتوالى بإسهاب، وتتسلسل الحجج الواحدة تلو الأخرى. ويصبح للتوجه الجدلي للنقاش أفضلية.
اختزال الإيطوس والباطوس
بواسطة هذا الاستعداد، يتخلص الخطيب جزئيا من إكراهات الإيطوس والباطوس. إن مكونا مسرحيا يشجع على ظهورها: فالخطيب يكون مدفوعا إلى الظهور على الخشبة، وإطراء المتلقي، والابتعاد بذلك عن الهم الوحيد المتمثل في كلام عقلاني.
إذا توجه المعبر عن رأيه بمداخلته إلى رئيس الجلسة، فإنه يكون أقل اهتماما بنظرات الآخرين إليه، وهو في الحالة التي يظهر عليها. وعلاوة على ذلك، وبما أنه لا يركز نظره على المتلقي، يكون أقل نزوعا إلى محاباته. إنه يركز أكثر على حجاجه. إن منع الشخصيات يعني أن الحجج المرتبطة بالشخص تحثه على ذلك أيضا.
منع الشخصيات
إن تقنين التجمعات البرلمانية يمنع اعتبارات الشخص لأجل تجنب أن يكون الحوار بين المواقف لا ينحصر في معركة بين المتحاورين.
لكي ننبه كل شخصية، يقصى القانون الإنجليزي مناداة النواب بأسمائهم. إن كل عضو يشار إليه بناء على الوظيفة التي يزاولها، والدائرة الانتخابية التي يمثلها. «أثناء المناظرات، كما يقول بنطهام Bentham، فإن ذكر الاسم هو استدعاء قوي جدا للكبرياء أكثر من أي إشارة أخرى . إن الأمر يكون أقل صدمة عندما نقول: ” إن العضو المحترم الذي تكلم قبل آخر متدخل وقع في خطإ فادح” من أن يُشَار إليه باسمه. وكأننا نضفي عليه صفة مجردة لكي لا نعتبره إلا صفته السياسية فقط.»[1] إن أهمية منع الشخصيات مثبت على نقيض ما سبق بــــــ”العقاب القاسي” المتمثل في إحداث عضو لاضطراب كبير في نظام الجلسة، أن يُذَكَّرَ بالنظام وحينها ينادى عليه باسمه.
موضوع الكلام، من يتكلم وعلى ماذا ينصب نقاشه؟ اختيار الخطباء: التطابق ضد المساواة وسلبية لوائح الخطباء المحددين سلفاً:
لقد منحت فرنسا امتياز مساواة الخطباء بناء على اختيارهم حسب المناقشة. فبمجرد أن يكون المرء ممثلا للشعب يمنحه ذلك الحق في الكلام، بدون أي اعتبار لتطابق تدخله مع المناقشة. إن التحديد القبلي للائحة الخطباء ينكر المبدأ نفسه للمداولة، والذي يكمن في تسلسل الحجج، كل مغالطة يجب أن ترفض على الفور، وكل حجة تُتبع بعرض الحجة المضادة؛ ولا ينبغي لأي حيز زمني أن يندرج بين فرضية الواحد والفرضية المضادة للآخر. إن هذه الفورية ضرورية في الخطاب الشفوي: فالحجج تأخذ معناها الكامل الواحدة في علاقتها بالحجج الأخرى؛ وبعد ذلك تمر الكلمات فتُنْسَى. إن لائحة الخطباء المثبتة سلفا، تحل محل متتالية عقيمة لخطابات تفتقر إلى رابط بينها أثناء المداولة. إن اختيار الخطباء يلزم إذن أن يكون معتمدا على التسلسل المنطقي للحجج.
يلزم أن يتعلق اختيار الخطباء بسير النقاش
في مجلس العموم، يتم اختيار المتدخلين أثناء النقاش. فلا وجود ألبتة للوائح للخطباء، ولا وجود لأسبقية. لأخذ الكلمة يجب جلب نظر الخطيب ( to catch the speaker’s eye)، والحصول على الإذن منه للتعبير. فهذا الخطيب كما هو متعارف عليه يقوم بمناداة الأعضاء من جانب من الغرفة بالتناوب، الموالين والمعارضين. فهذه الطريقة تمنحه نوعا من حرية الاختيار. ويمكن الاَّ يرى الخطباء الرديئين…
من جهة أخرى، وفي مجلس العموم دائما، يتوقف الخطيب بسهولة عن الكلام لكي يسمح لأحد زملائه أن يبدي ملاحظة، أو أن يضيف توضيحا، أو أن يعلن رفضا. إنها إحدى خصائص الجدل الذي ينبني على الأسئلة والأجوبة، فإنه بالضرورة يقطع الخطابات. فهذه التَّقَطُّعَات المثمرة هي ، كما رأينا ذلك سابقا، تكون غير مناسبة للكلام من المنصة.
موضوع المناقشة: قضية محددة تجاه موضوع عام
في “اللعبة” الجدلية، لا تطرح إلا أسئلة يُمكن الإجابة عنها بنعم أو بلا. فلا يُسْأَلُ، مثلا، عن: “ما هي المتعة؟”، ولكن: “هل يتحول الخير إلى متعة؟”. لأسباب تداولية، أكثر منها نظرية، يتبنى مجلس العموم هذه الشكلانية. ويُطَبَّقُ منهج عام على جميع أجناس القضايا من قبيل: مشروع قانون، أزمة عالمية، الخ. كيفما كان موضوع النقاش، فإن هذا الموضوع يجب أن يأخذ شكل اقتراح، ويجب أن يصاغ بسؤال أمام المجلس، على سبيل المثال: “هل تريدون تبني مثل هذا التعديل؟”. كل مشكل معقد يفكك إلى اقتراحات بقدر ما هناك من نقاط تؤخذ بعين الاعتبار، بحيث لا يطرح أبدا أكثر من سؤال واحد، في الوقت نفسه، أمام المجلس.
وعلاوة على ذلك، يلزم المعبر عن رأيه أن يكون مرتبطا الموضوع، وإلاَّ سيذكره الخطيب بذلك. فهذه القاعدة تسبق الفصاحة المطنبة. وبالفعل، فإن عضوا ما، إذا قام باستطرادات مستمرة، أو كرر الحجج نفسها في أغلب الأحيان، فإن الخطيب يلزمه على التوقف عن كلامه. إذن، ألا تتمثل الفصاحة في توجيه حجة جيدة بتكرارها مرات عديدة وبأشكال مختلفة؟
إن نتيجة القاعدتين، هي أن الأسئلة تتسلسل بشكل منطقي. فكل جواب عن سؤال يفضي إلى سؤال جديد. المناقشة هي تسلسل مترابط ومكثف من الاقتراحات المتداخلة الواحدة في الأخرى. فالخطابات المكتوبة التي تقسِّم وتجزئ المناقشات هي إذن ممنوعة بصفة مطلقة.
الحالة الفرنسية: مناقشة منتشرة و متقطعة
لا يوجد في فرنسا تشكيل نوعي لجدول الأعمال قبل مناقشته. فهذا يتمثل ببساطة في النقاش الحر لموضوع ما وليس في اقتراحٍ معبَّر عنه بدقة. فلا يطرح أي سؤال قبل أن يتكلم كل الخطباء المسجلين: أي إن السؤال يتبع النقاش، ولا يسبقه أبدا، فيختفي التأثير الذي يبني الأسئلة والأجوبة المتسلسلة، وبذلك يصبح النقاش كثير الانتشار وقليل الفاعلية.
الخاتمة
يمكننا تلخيص العلاقات المثالية بين الفضاء والكلام في وصفة بسيطة: يجب كتابة الكلام في فضاء مُوَحَّد وتجريده من فضاء معَرِّف . إذا كان من السائغ لنا تعريف حقوق الشخص المتداوِل، سنبدأ إذن ببند أولي صِيغ على هذا النحو: “الناس يتحررون من الفضاء، ويتساوون في داخله .”
[1] Jeremy Bentham, Tactique des assemblées législatives, traduit par Etienne Dumont, Paris, Bossange Frères éd, 1822, p.166.
د. عبد الواحد التهامي العلمي