“إن شكل قاعة اجتماعاتكم هو المكون الذي يتوقف عليه النظام والكرامة والتيسير وتسيير مداولاتكم، وهذا ما لم يكن يخطر على بال أولائك الذين لم يفكروا فيه، وعليه أيضا تتوقف فائدة وفاعلية نتائجها.”[1]
الكونت دو ساد.
الفضاء والكلام مترابطان. فالمكان الذي نتكلم فيه يؤثر في ما نقوله وفي الطريقة التي نقوله بها. إنه يحدد جزئيا صيغة وجَوَّ المداولة التي تجري فيه.
فالفضاء يعني المعمار الداخلي لقاعات الاجتماعات، وإنارتها، وكذلك ترتيب المستمعين ووضع الخطيب فيها.
لدراسة هذه العلاقات بين الفضاء والكلام، سنتناول مثال الجمعية الوطنية في فرنسا (أي البرلمان الفرنسي) ، ومثال مجلس العموم في انجلترا (أي البرلمان الإنجليزي)، فهما ذات صبغة مختلفة جدا تتيح تناول التفاعلات الأساس بين تشكيل الفضاءات والمناظرات التي تقام فيها. وسنرى بعد ذلك ما هي الشروط “المثالية” للنقاش.
I.تشكيل فضاء المداولة
يتحدد فضاء المداولة بادئ ذي بدء بحجمه، وشكله، وإنارته. في مجلس العموم كما في الجمعية الوطنية، يخضع كل عنصر من هذه العناصر لغايات محددة، ويخلق تأثيرات نوعية في المداولة.
- تأثيرات الحجم والإنارة
إن المثالين الإنجليزي والفرنسي يوضحان، بالإثبات للأول، وبالنفي للثاني، أن الاعتدال في الحجم، وبدرجة أقل في الإضاءة، يساعد في النقاش.
كلما كانت الإنارة قوية، هيمن النظر على السمع، وكلما أمعنا النظر، قل سمعنا. وعلى العكس من ذلك، كلما كانت الإنارة خافتة، ضعفت الرؤية، وزاد تركيزنا على الموضوع المطروح للمناقشة. في اليونان القديمة، وفي أثينا كان قضاة محكمتها يستمعون إلى المحامين في الظلام لأجل ألَّا يضعوا نصب أعينهم سوى قوة حجاجهم. وفي إنجلترا، بقيت قاعة المجلس البلدي لمدة طويلة ضعيفة الإضاءة للأسباب نفسها.
أما بالنسبة إلى الحجم، إذا كانت مصممة في بريطانيا لأجل تسهيل المناقشات، فإنها في فرنسا تخضع لاعتبارات رمزية خارجة عن اهتمام المداولة.
- إيجابيات قاعة ذات حجم مقيد: المثال الإنجليزي
إن قاعة جلسات مجلس العموم صغيرة جدا إلى درجة أن عدد المقاعد فيها غير كاف في نظر عدد من الممثلين. فهذا الاختيار متعَمَّد.”والأهم هو الحديث بنبرة المحاورة، والقدرة على التدخل، والرد بسرعة، من دون بهرجة كمــــا قــــــال تشيرشيــل Churchill في حديثه إلى مجلس العموم. . وعليه، عندما نتكلم بنبرة المحاورة، يلزم أن تكون القاعة غير كبيرة. )…( نحن نرغب في أن يكون برلماننا أداة قوية، وسهلة، وطَيِّعَة لمناقشات حرة. ولأجل هذا يلزم توفير قاعة صغيرة وتوفير جو من الحميمية”[2]
إن أبعادا مقيدة، تتيح سماع كلام ما بكل يسر بنبرة معتدلة، محبطة للاندفاعات الخَطابية.
- سلبيات القاعات الكبيرة: المثال الفرنسي المضاد
إن القاعة الكبيرة تضر بالمداولة بواسطة تأثيرها المضاعف في التشتيت الفردي وفي التشجيع على الفصاحة.
- النزعة الفردية
عند الحديث عن القاعة الفسيحة لمجلس النواب في الولايات المتحدة الأمريكية، بيَّن وُودْرو ويلسُن Woodrow Wilson جيدا عيب القاعة الواسعة التي لا تناسب المداولة. توجد، كما كتب وُودْرو ويلسن، “أسباب مادية ومعمارية التي تجعل من نقاش فعلي أمرا مستحيلا حول الشؤون العمومية في مجلس النواب. )…( ويكون من الطبيعي أن ننتظر إلى أن تجتمع هيئة في جلسة علنية لأجل المناقشة والمداولة، تعقد جلساتها في قاعة صغيرة جد الأجل إتاحة تبادل سهل لوجهات النظر، والوصول إلى اتفاق سريع حول الموضوع، حيث يكون أعضاؤها في اتصال قريب وودي؛ ومن المدهش أن نرى قاعة المداولات تمتد على طول الأماكن الشاسعة لقاعة مثل بهو مجلس النواب؛ ولا يوجد، بالفعل، طاقم مساعد في صفوف ضيقة؛ وعلى العكس من ذلك، فإن لكل عضو منضدة واسعة، وأريكة فخمة متحركة؛ وجنبات واسعة تمتد وتتسع؛) …( إنها قاعة شاسعة، فسيحة، ممتدة الأبعاد.”[3]
إن نقاشا مثمرا يتطلب انتباه ومشاركة كل فرد. والقاعة الكبيرة تشكل عائقا لذلك. فهي تسهل الانعزال وتساعد على الفردانية: كل واحد يمكنه أن يتوجه لقضاء حاجياته بلا حرج؛ وقد يكون فيها أيضا بشكل من الأشكال مشجعا، إذا كان يتوفر، كما في الجمعية الوطنية، على منضدة تتيح له قراءة الجرائد أو الاطلاع على مراسلاته. إن توفير مكان شخصي لكل فـرد يأتي لتدعيم هذه النزعة الفردانية.
ب.استدعاء البلاغة
كلما كانت القاعة واسعة، وكان التجمع غفيرا، وتطلبت القاعة صوتا قويا، كان لها تأثير، وتدعيم الكلام بالحركة. فالعدد يَحُثُّ على الفصاحة. إن الخطيب يتوخى إيقاظ الأهواء بدل إقناع العقل.
ب. أشكال قاعات البرلمان
إن العلاقات بين شكل قاعة المداولات، وشكل المقاعد فيها، وبين صيغ المداولة، تستطيع أن تلخص في النماذج الثلاثة الآتية:
1.النموذج الجدلي أو الوضع وجها لوجه
في قاعة مجلس العموم، ترتفع المقاعد إلى مدرجات من الجانبين ويتوسطها ممر واسع. هذا الوضع المتقابل، له تأثير مضاعف في القرب، ملائم للحوار والمواجهة، ويستدعي التضاد. فهذا الوضع يماثل كثيرا الممارسة الجدلية التي تفترض التعاون بين المتحاورين والعنف ضد أقوال كل واحد منهم ) راجع الفصل 10(
- النموذج البلاغي أو الوضع الدائري مع المنصة
كما سنرى لاحقا، فإن الشكل نصف الدائري المتمركز حول منصة تجعل شخصا بمفرده، وجها لوجه، مع تجمع غفير. إنه وضع ملائم للخطابة وغير ملائم لا للنقاش ولا للحوار.
3.النموذج البيداغوجي أو وضعية التراتب
على العكس من ذلك، فإن ترتيبا “مدرسيا” لمقاعد في صف مستقيم تجاه المنصة، لا يساعد لا على التناظر ولا على النقاش ولكن يستدعي التلقي السلبي لكلام لا جواب له. إنه يماثل كلاما بيداغوجيا، أحاديا: فالخطيب يقدم حقيقة ينصت إليها المجلس كله باسترسال.
كذلك كان تشكيل قاعة مجلس السوفييت الأعلى في الاتحاد السوفياتي: حيث كانت تناسب جيدا لغة الخشب المتداولة التي تجعل خطاب الزعماء وخطاب النواب المــُدَعِّم في وضعية نقاش غير واقعي.
[1] Archives parlementaires, 11 août 1830, p.112.
[2]Winston Churchill , discours à la Chambre des communes le 28 octobre 1943, in En avant vers la victoire . Discours de guerre de Winston . Churchill , traduit par G .Francis , Londres , éd.P.Zsolany, 1952 , p .250-252.
V.Giard et E. Brière éd Woodrow, Le gouvernement congressionnel. Etude sur la politique américaine.
1900, p. 96-101.
د. عبد الواحد التهامي العلمي