ب.استقطاب الفضاء بواسطة الرأي
1.أشكال وأنماط التسييس
لقد ظهرت الجغرافية السياسية وتسميات من قبيل “اليمين” و “اليسار” إبان الثورة الفرنسية: في مثل ذلك، يجلس النواب في الشكل نصف الدائري ليصبح الجلوس مندمجا مع وجهة النظر تلك. إن هذا الاستقطاب هو على الأرجح مختلف حسب التنظيم الداخلي لقاعات البرلمان.
في بريطانيا العظمى، أسهم وجود سلسلتين من المدرجات المتقابلة، مع الاقتراع في دورة واحدة، وفي ثنائية قطبية جامدة للحياة السياسية. ومن كل جانبي الممر الأوسط، وضعت المقاعد في الصف نفسه: بحيث يكون من الصعب تشكيل اختلاف في الرأي لدى الفريقين. إن تواجد الخصم في الواجهة الأمامية يستدعي الوحدة حينئذ.
أما في فرنسا، يضاعف الشكل نصف الدائري أقطاب الآراء. إن الزاوية الخفيفة التي يشكلها كل مقعد مقارنة مع الذي يليه أو يسبقه يبدو وكأنه دعوة إلى تباين وجهات النظر، وكأن المكان يطلب من الرأي أن يتوافق معه. وهكذا نستطيع إن نرى قناعات سياسية بقدر وجود صفوف المقاعد في الشكل نصف الدائري! “إن الغرفة نصف الدائرية، كما يقول تشيرشيلChurchill تتيح لكل فرد أو لكل مجموعة من الأفراد أن يتحركوا بشكل دائري حول المركز ويحتضنوا مختلف تدرجات اللون الوردي حسب تقلبات المناخ السياسي. )…( إنه لمن السهل بالنسبةإلى النائب البرلماني أن يمر عبر التدرجات التي لا تكاد تدرك من اليسار إلى اليمين، ولكن فعل اجتياز البرلمان يتطلب منا التفكير بعمق.”[1]
- الكلام غير المسموع والانسحاب المناوئ
إن استقطاب الفضاء من قبل الرأي مضر بالنقاش بصفة خاصة. إنه يحكم مسبقا على آراء معبر عنها، ولا يحثإذن أبدا على الاستماع: ويُستَنْتَجُ على الفور توجيه أقوال كل شخص من المكان الذي يحتله. ويُمْحَى الرأي الفردي؛ إنه غارق في الرأي العام للمجموعة التي ينتميإليهاالخطيب.
إن هذا الاستقطاب الفضائي يسهم في تأجيج الصراعات: يُرْفَضُ سماع الشخص الذي يجلس في مكان يُعَرّفُهُ بوصفه خصما.
وفي النهاية، يعاكس الاستقطاب الانسحاب الضروري من ممارسة الحكم، لأنه كيفما كان المكان الذي تجلس فيه، فإنك تشعر أنك ملتزم سياسيا.
III. فضاء المداولة المثالي: التكلم من المكان في فضاء دائري
ما هي الشروط الفضائية والتنظيمية المثالية للمداولة؟إنها تتوقف على الفضاء، وعلى مسير الكلام، وعلى تنظيم المناقشات.
- الفضاء المنسجم: المساواة والحياد الفضائيين
إن عيوب الاستقطاب والتسييس تتميز كلها بواسطة تداخل الفضاء في الكلام. يكون للتبادل الخطابي فعاليته التامة – باعتبار صفة الفاعلين مفترضة- إذا كان في استطاعة الكلمات أن ترتفع خالصة بكل حزم بواسطة الفضاء.
وبصفة ملموسة، هناك ثلاثة شروط مطلوبة: التطابق بين مكان الإرسال ومكان تلقي الكلام، وبين المساواة والحياد السياسي للمقاعد. إنها مرضية إذا توفر الفضاء البرلماني على شكل دائري كامل وإذا تكلم كل شخص من مكانه.
- المساواة: كل شخص يتكلم من مكانه
- تصوير ما لا يختزل و التعددالضروري لوجهات النظر حول الواقع
بصفة عامة، كل سؤال يكون موضوع وجهات نظر متعددة، ولمواجهتها يتم الجواب عنه. والحال أن جعل شخص يتكلم من مكانه، يعني تصوير هذا التعدد؛ وهو ما يعني أيضا أن شرعية ما يقوله شخص ما يأتي من فرادة ونوعية وجهة نظره؛ وهو في الأخير، إظهار أن الرأي نسبي ويلزم أن يسجل في إجراء جماعي للبحث عن القرار الأحسن.
إن مسير الكلام في مجلس العموم يصور جيدا هذا الفضاء العام: فكل شخص معبر برأيه متوجها من مكانه إلى الميكروفون، فالكلام ينبعث في كل مكان في القاعة ليتلاقى في نقطة وحيدة، مما يرمز إلى الموضوع المشترك الذي يشغل الجميع. وعلى العكس من ذلك، وفي مكون مسرحي، تنطلق كل المداخلات من نقطة مركزية لكي تنتشر بعد ذلك في القاعة كلها. في مجلس العموم، لدينا وحدة لاحقة، بواسطة البحث الجماعي للمحتمل والمفضل؛ وفي الجمعية الوطنية، تصادر وحدة منذ الانطلاق بواسطة الإلزام المنفرد لحقيقة قبلية. فالحديث من منصة ، يعني استبدال عالم مشترك، ناتج عن واقع متعدد، بعالم أحادي الأبعاد، حيث يظهر الواقع من وجهة نظر واحدة.
- إتاحة تكوين وجهة نظر محايدة
إن النظر إلى كل شخص والاستماع إليه وهو يتكلم من مكانه يشكل أيضا سيرورة تكوين الرأي الفردي. ولتكوين رأي مقبول حول موضوع معين، يلزم اعتبار هذا الرأي من وجهات نظر مختلفة، ولتكوين هذا الرأي، يلزم أن يضع المرءُ نَفْسَه محلَّ أصحاب الفكرة. إن التساوي في المقاعد تسهل شمولية الحضور الثقافي. إنها مع ذلك لا تكون كافية. ويلزم أيضا أن يكون الفضاء غير متميز سياسيا.
- يلزم أن يكون الفضاء محايدا “سياسيا”
إن تسييس الفضاء يكشف هوية الخصم حتى قبل أن يتكلم. إنه يحُثُّ على رفض رأيه قبل الاستماع إليه. وهذا الأخير يشعر أنه ملزم بالإعراب عن رأيه في الاتجاه المرسوم له من قبل المكان الذي يتكلم منه. ولكي يعالج ذلك، يلزم المعبر عن رأيه الاَّ يكون معروفا سياسيا، وألاَّ يكون المتلقي الذي يُلْزِمُ نفسه بوجهة نظر ما تبعا للمكان الذي يجلس فيه.
إن فضاء دائريا مكتملا لا يمنح من ذاته أي وسيلة للتعرف على الآراء السياسية لأعضائه. بشرط، طبعا، أن تختفي كل إشارة ويختفي كل تقطع. لا ينبغي للمرء أن يشكل شعاعا بالنسبة إلى الدائرة، وإلا فإننا نرى آراء متعارضة تتوزع من جانب إلى آخر.
توجد عدة وسائل لمقاومة تسييس الفضاء. إذ يمكن منع البرلمانيين من التجمع حسب انتمائهم الحزبي، أو إجبارهم على تغيير المقاعد بصفة منتظمة، أو أيضا أن نجلسهم في مقاعدهم عن طريق الاقتراع، أو عن طريق الترتيب الأبجدي.
وفي العصر الحاضر، لا يجلس المشرعون في كثير من الدول حسب انتمائهم الحزبي. يوزع أعضاء الكورطيس (البرلمان الإسباني)، وأعضاء الغرفة الأولى للبرلمان في هولاندا بناء على الترتيب الأبجدي. ويجلس البرلمانيون في النرويج والسويد حسب الدوائر الانتخابية. وكان أعضاء الكونجرس في الولايات المتحدة الأمريكية، قبل سنة 1913، يُوَزَّعُون عن طريق الاقتراع على المقاعد: وكان أعضاء الحزبين السياسيين منتشرين في الأركان الأربعة لمجلس النواب، ومجلس الشيوخ. إن التأثير السياسي لهذه التوزيعات كان موضوع دراسة للبرلمان السويدي، حيث يختلط أعضاء الأحزاب. وحسب مؤلفه[2] فإن سياسة التوافق في السويد تفسر بالعلاقات الشخصية التي عقدها المشرعون بفضل هذا التنظيم للمقاعد غير المعتمد على التنظيم الحزبي.
[1]Winston Churchill. Discours prononcé à la chambre des communes le 28 octobre 1943; op.cit., p.250-252.
[2]DanKwart A. Rustow, The politics of Compromise, Princeton, NJ,1955.
د. عبد الواحد الهامي العلمي