. استقطاب الفضاء
عندما يتشكل الفضاء، فإنه يُستقطَب من لدن الكلام ومن لدن الرأي. إن مدار الكلام في الفضاء وسهولة استيعاب الآراء لهما تأثير في صيغة المداولة.
- استقطاب الفضاء من لدن الكلام
إن الاستقطاب الفضائي من لدن الكلام يتمثل في التثبيت القوي لوجهة الإرسال ) المنصة( ووجهة الاستقبال، فهما معا، تتميزان جيدا، الواحدة منهما عن الأخرى.
- المـُعِدَّاتُ المسرحيَّة والمنصة
إن هذا الاستقطاب يشكل أحد المعدات ذات النمط المسرحي الذي يعطي لكلام النواب مصداقيته، ولكنه يضر بالنقاش. هذا كله، يشبه تواجد ممثل –مبدئيا- ليمثِّل شخصية، يكتسب فيها الخطيب من المكون المسرحي نفسه شرعية للتعبير باسم الفريق الذي يمثله.
ولكن هذه العدة تسلط الضوء على الفضاء في نقطة محددة، تضفي قيمة على مكان إرسال الكلام، وتثير كلاما على جهة واحدة يكون المتكلمُ واثقاً من نفسه. وعلى العكس من ذلك، ترغم كل شخص يرغب في التعبير للانتقال إلى ما سبق ذكره، وتمنع الأجوبة الشفوية المباشرة، وتعارض تبادل الحجج، وتكسر العلاقة بين المداخلات المتتالية. فالمنصة لها تأثير ثلاثي: الصدق، وأحادية الصوت، والتوقف.
- الصدق
بارتفاعها البارز، فإن المنصة تدعو إلى الكلام بصدق. إننا لا نتكلم بصوت مرتفع إلا إذا كنا نقول الصدق. فالمكان الوحيد للكلام يرمز إلى فرادة الصدق. لا يوجد مكان للتناقض. وهذا ما وضحه جوستاف لوبون[1]Gustave Le Bon بسخرية في وصفه للخطيب البرلماني في بداية القرن الماضي:
“عندما أخذ مكانه في المنصة، شرع يسحب من محفظته ملفا بسطه أمامه بعناية فائقة وهو واثق من نفسه. وانتابه شعور بالزهو وهو ينقل القناعة التي تحركه إلى أشخاص المتلقين. لقد وزن وأعاد وزن حججه. إنه محشو بالأرقام والأدلة؛ وهو متأكد أن الحق معه. إن كل مقاومة، أمام الوضوح الذي يحمله، ستكون هباء، ولا طائل منها. إنه يبدأ، وهو واثق في حقه وفي مقاصد زملائه أيضا، الذين لا يطلبون بكل تأكيد إلا الانحناء أمام الصدق. إنه يتكلم، وفي اللحظة نفسها، سيفاجأ بحركة القاعة، وسينزعج قليلا من الضوضاء التي ترتفع فيها. كيف لا يسود الصمت؟ ولماذا هذه اللامبالاة العامة؟ وفي ماذا يفكر إذن أولئك الذين يتبادلون الحديث فيما بينهم؟. ينتقل القلق إلى جبينه، فيقطب حاجبيه، ثم يتوقف. ويستأنف كلامه، بتشجيع من الرئيس، رافعا صوته. ولن يُسمع كلامه إلا قليلا. ويعلي من نبرة صوته، ويرتجف: ويتضاعف الضجيج من حوله. ولا يسمع هو أيضا كلامه. فيتوقف مرة أخرى: وبعد ذلك، يتخوف من أن صمته سيتسبب في الصراخ المزعج: انتهاء! فيعيد الكرة بما هو أفضل.ويصبح الضجيج غير متحمل.”[2]
تؤدي المنصة إلى كلام أحادي وحاسم وإلى توالي خطاب بدون جواب، ولا تؤدي إلى نقاش جماعي مثمر.
- أحادية الصوت
إن الخطيب الذي يعبر من منصة، يكون مفصولا عن أولئك الذين ينصتون إليه عبر فراغ كبير يقضي قبليا على الاتصال الذي كان من الضروري أن يحصل بشكل طبيعي، وبطريقة اتصال يكاد أن يكون جسديا بين الذي يتكلم وبين متلقيه.
وعلاوة على ذلك، فإن مسير الكلام في الفضاء ينكر كل تبادل وكل حوار: إنه وحيد وحتمي، ينطلق من نقطة محددة لكي ينتشر بعد ذلك في الاتجاه الواحد نفسه.
كيف يمكن الحصول على حوار متبوع بحجج، إذا كان من اللازم، في كل مرة، أن نذهب إلى المنصة لأجل التعبير؟ ولتتخيل أنك تنصت إلى خطاب. فتعاكسك حجة وأنت تريد أن تجيب الخطيب. فتجابهك عوائق كثيرة. يلزمك بادئ ذي بدء أن تنتظر نهاية مداخلته، التي، ولتتذكر ذلك، يمكن أن تتناول نقطا مختلفة تمام الاختلاف عن ذلك الأمر الذي كان يحفز طلبك للكلام. هل سيكون من المناسب، إذن، الرجوع إلى قضية بعيدة في الزمن منسية آنفا. ولكن لنستأنف. يلزمك بعد ذلك أن تصعد إلى المنصة، ومن هنالك، تجيب محاورك. ولكن أين هو؟ لقد اختفى عن نظرك، وذاب في الجمهور الغفير الذي يقابلك. ماذا ستفعل حينئذ؟ إذن، ستقوم أنت أيضا بتقديم خطاب متكامل شكلا ومضمونا ، مع جلب انتباه المتلقي، وختم الكلام ب: من فضلك، وهو خطاب يتوخى الصدق مثل الخطابات الأخرى، إذن لا يمكن بدوره أن يدحض.
ج. التقطع. الخطابات المكتوبة
إن للمنصة تأثيرا إضافيا يحمل، بوجه من الأوجه، الضربة الرحيمة لكل فكرة الحوار والنقاش: إنها تشجع الخطابات المكتوبة.
يتذمر بنجامين كونسطانBenjamin Constant قائلا: ” عندما يحصر الخطباء خطبهم في قراءة ما كتبوه في هدوء مكاتبهم، فإنهم لا يناقشون أبدا، إنهم يضخمون: إنهم لا ينصتون قط، لأن ما يستمعون إليه لا يمكنه أن يغير أي شيء في ما سيقولونه؛ إنهم ينتظرون أن الذي يجب تعويضه، يكون قد أنهى كلامه؛ إنهم لا يفحصون الرأي الذي يدافع عنه، بل يحتسبون الوقت الذي يستعمله، والذي يبدو لهم أنه طال أكثر من اللازم. عندئذ لن يكون هناك أي نقاش قط، وكل واحد ينتج اعتراضات سبق دحضها؛ كل شخص يترك ما لم يتوقعه، وكل ما يضايق دفاعه الذي انتهى مسبقا؛ ويتعاقب الخطباء على المنصة من دون أن يلتقوا. وإذا عقَّبوا، كان ذلك بالصدفة؛ إنهم يشبهون جيشين يقومان باستعراض في اتجاه معاكس، الواحد جنب الآخر لا يكادان يلمح أحدهما الآخر، ويتجنبان أيضا تبادل النظرات، خوفا من الخروج عن الطريق المرسوم نهائيا.”[3]
- تكوين الحكم المحظور
إن المنصة تلزم المتفرج بقوة على ربط العلاقة مع الخطيب. فهو لا يستطيع أن يتخلص من المسح البصري والخطابي لهذا الخطيب. إن هذا الالتزام يضر بالحكم، حيث يتمثل شرط من شروط الممارسة في القدرة على الانسحاب من كل مشاركة مباشرة، وفي التموضع خارج اللعبة. “إن المتفرج وحده، وليس الممثل أبدا، من يعرف ويفهم الفرجة المقدمة”[4]، لأن وجهة نظره ليست مطلوبة من الحدث، وهو يتخذ وضعا ينظر من خلاله المسرحية بكاملها. ويمكنه إذن أن يصل إلى وجهة نظر عامة، ويصل إلى الحياد.
[1]غوستاف لوبون: 7) مايو_ 1841 13ديسمبر1931 (
طبيب ومؤرخ فرنسي، عمل في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، كتب في علم الآثار وعلم الأنثروبولوجيا، وعني بالحضارة الشرقية. من أشهر آثاره: حضارة العرب وحضارات الهند و”باريس 1884″ و”الحضارة المصرية” و”حضارة العرب في الأندلس“و”سر تقدم الأمم” و”روح الاجتماع” الذي كان انجازه الأول. هو أحد أشهر فلاسفة الغرب وأحد الذين امتدحوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية. لم يسر غوستاف لوبون على نهج معظم مؤرخي أوروبا، حيث اعتقد بوجود فضلٍ للحضارة الإسلامية على العالم الغربي. )المترجم(
[2]جوستاف لوبون، نفسية الجماهير، باريس، بوف، 1947، ص.117-118.
[3]Benjamin Constant, “De la discussion dans les assembléesreprésentatives”, in De la liberté chez les Modernes; Paris; Hachette-pluriel, 1980, p. 325-327.
[4]HannatArendt; La vie de l’esprit, t.1:La pensée, traduit de l’américain par L. Lotringer, Paris, PUF, 1982, p.110
د. عبد الواحد التهامي العلمي