أسدل الستار يوم 13 من يونيو الجاري عن المعرض الدولي للنشر و الكتاب في نسخته السابعة و العشرين والذي احتضنت فعالياته مدينة بالرباط مدينة الأنوار و عاصمة الثقافة الإفريقية والإسلامة,، وقد استمرت هذه الفعاليات عشرة أيام وقعت خلالها كتب جديدة و نظمت لقاءات و ندوات… في مواضيع مختلفة لها راهنية من الناحية الفكرية والأدبية والقانونية و العلمية والسياسية.
و بداية هذا المعرض كانت سنة 1987؛ حيث منذ ذلك الحين أخذ مكانه كموعد ثقافي و حدث و طني له رمزيته، وقد نظمت كل الدورات السابقة بمدينة الدارالبيضاء العاصمة الاقتصادية للملكة، إلا أنه بعد “إغلاق قوس” مرحلة كوفيد و إكراهاته الصحية في ربيع هذه السنة و الذي نأمل أن يكون إغلاقا تاما، تم نقل فعاليات المعرض إلى مدينة الرباط لاعتبارات تتعلق بإشعاع المدينة الثقافي على المستوى القاري و الإسلامي والعالمي، فاحتضانها لهذا الملتقى الثقافي الضخم أعطى لها، كما كان منتظرا، قيمة مضافة.
و لا شك أن مصالح الوزارة ستزود في الأيام المقبلة المهتمين بالحقل الثقافي عامة و بالنشر والكتاب خاصة بالأرقام ذات الأهمية المتعلقة بهذه الدورة وما دار فيها و الرواج الذي عرفه الكتاب و تسويقه خلالها إلخ، و ذلك حتى تكون للمؤسسات كما للأشخاص العاملين في مجال النشر والكتاب خاصة رؤية واضحة عن واقع المجال ومستقبله لتبنى على ذلك الاستراتجيات و البرامج الملائمة و ترسم الأهداف وتحدد الأولويات تفاديا لهدر الوقت و الطاقة والمال.
و رغم الانتقادات و التخوفات التي عبر عنها البعض قبل انطلاق المعرض، فيكاد يجتمع الرأي بعد افتتاح أبوابه أن دورة هاته كانت أحكم تنظيما من سابقاتها بل ذهب رأي البعض إلى أن مدينة الرباط برهنت أنها الأنسب لتنظيم هذا المعرض لموقعها في خريطة البلد، و كذا لصواب اختيار المكان الذي نظم فيه المعرض، حيث علق البعض في هذا السياق أن تنظيم المعرض في الدارالبيضاء كان يسير به إلى فقدان مغزاه كملتقى ثقافي ليتحول إلى سوق أو موسم يكثر فيه الهرج والمرج “الكتبي”، و من باب الإنصاف علينا التأكيد أن نجاح دورة هذه السنة، بعد استراحة المحارب المفروضة، لم يأت من فراغ و إنما جاء على خلفية التجربة المتراكمة و الدروس المستفادة من تنظيم الدورات السابقة بالدارالبيضاء والتي كانت لها، بالـتاكيد، إيجابيات كثيرة و نجاحات مثلما كانت لها سلبيات و إخفاقات.
لكن المهم الآن هو ما الذي سيحدث بعد هذا المعرض، فالكتاب و نشره يحتاج إلى دعم متواصل لمن يستحقه و ذلك للتشجيع على البحث والتأليف و الإبداع و الكتابة والنشر ثم القراءة.
و في ظل ارتفاع أخبار عن ارتفاع سعر الورق؛ و الذي قد ينعكس، لا قدر الله، على ثمن الكتاب كيفما كان نوعه، فإن الدولة من خلال مؤسساتها المختصة عليها الحفاظ على سعر مناسب للكتاب ليكون في متناول القراء كما عليها دعم الطلبة والتلاميذ في اقتناء الكتاب و الولوج إلى الخدمات الثقافية عامة، إذ أن أغلب الطلبة والتلاميذ المنحدرين من الأسر المعوزة والمتوسطة الدخل، يقف ثمن الكتاب يفوق قدرتهم الشرائية، فلا يستطيعون غالبا تجاوز خط اقتناء كتب المقرر المفروضة إلى اقتناء كتب مرتبطة بمجال دراستهم أو بالثقافة العامة او بالحقول المعرفية التي لها ارتباط بتخصصاتهم.
إن التشجيع على النشر و دعم الكتاب و التحفيز على القراءة أساسيات لبناء جيل قارئ، و من صميم سياسة الدولة أن تكون هذه الأساسيات من أولوياتها، فرواج الكتاب الرصين، المفيد والممتع…، علما و فكرا و أدبا، لا يمكن إلا أن يكون مؤشرا على عافية المجتمع، إذ المجتمع الذي لا يقرأ، ولا تتداول فيه الأفكار و تروج فيه الفنون و يزدهر فيه الإبداع مجتمع معطوب لا يبشر بخير، فاالبديهي أن الفنون الراقية و الأفكار النيرة تساعد على الانفتاح على العالم و استخدام العقل و تهذيب الذوق و تربية الحس، و تقي من الوقوع في الانغلاق و السقوط في الدوغمائية…
إن مكانة الكتاب والاحتفاء به في المجتمعات المتحضرة ليس ضربة نرد، و إنما هو نتيجة لتقاليد مرعية تبرز بوضوح في بناء المكتبات الكبرى الجامعية وغير الجامعية التي تندرج ضمن المعالم البارزة، وفي صيانة المخطوطات و الحفاظ على الكتب القديمة و جلب الثمين منها من شتى أنحاء العالم، و في تكريم الأقلام الموهوبة و الجدية الجديدة و في تنظيم مباريات للكتابة و للقراءة للكتاب الكبار و الشباب و الأطفال، و في اهتمام الإعلام المكتوب والمسموع والمقروء و الإلكتروني بالدعاية للكتب و أشهارها، و في احتضان الكتاب من جميع االتخصصات والحساسيات…
و لا يغيب عنا جميعا أن المدرسة ثم الجامعة هي الوسط الأنسب للتأسيس لجيل قارئ إذ إن ضعف تداول الكتاب و الاهتمام بالقراءة في هذين الوسطين ينذر بالكارثة، إذ من المفروض خلق نشاط مواز فيهما يشجع على قراءة الكتب و يطور كفاءة قراءة و استثمار ما تحتويه الكتب، حيث يمكن، على سبيل المثال، احتساب الكتب المقروءة و الملخصة بأسلوب شخصي؛ و التي يتم تقديمها في حلقات يشرف عليها أساتذة ضمن الأنشطة التي يثاب عليها التلميذ و الطالب بشكل من الأشكال حين تقييم مجهوده السنوي….
كما أنه من المستحب أن تكون الجوائز المهداة للتلاميذ والطلبة عبارة عن كتب ملائمة لقدراتهم بدل حواسيب أو هواتف…، فقد تكون الكتب المقروءة سواء المهداة أو المقررة في النشاط الموازي حافزا لبعض التلاميذ على اكتشاف مواهبهم؛ و لما لا التعاطي للكتابة مستقبلا بعد أ يكونوا قد تشبعوا و تأثروا و استفادوا مما قرأوه في المراحل المبكرة لحياتهم…
و أخيرا فلتكن هدايانا لأبنائنا في أعياد ميلادهم أو عند تفوقهم فيها كتب، فخلق جيل قارئ بعد أن كادت القراءة تصبح عملة نادرة، جهد تتلاقى فيه الأسرة بالمدرسة بالدولة- بمؤسساتها الأكاديمية و العلمية والثقافية و إعلامها- بالمجتمع المدني و القطاع الخاص، فلا يكفي أن نتباكى على ضعف القراءة بل من العقل أن نضع شروطا إرادية، إن لم تكن الشروط العادية متوفرة، لجعل الكتاب في ارتباط مع القراءة ضرورة وفي قلب اهتمام الفرد والجماعة كالاهتمام بالملبس و المأكل والمشرب في المقام الأول، أو على الأقل كالولع بكرة القدم والموسيقى و السفر و الموضة و باقي المتع، .
عبدالحي مفتاح