صدر كتاب “القصر الكبير: تاريخ ومجتمع ووثائق” لمؤلفه عبد السلام القيسي الحسني سنة 2006، وذلك ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي، مؤكدا على صحة الرهانات التي اختارتها الجمعية كخط أصيل في عطائها الثري الذي تميزت به باعتبارها إطار ثقافيا مبادرا، أساس نجاحه مشروع فكري متكامل، وسلاحه نبش متواصل في ذاكرة مدينة القصر الكبير، وسقفه تسليط أضواء كاشفة على مختلف جوانب ماضي هذه المدينة العريقة في العلم وفي العطاء وفي الجهاد، وآفاقه ربط الماضي بالحاضر وإزالة طبقات التكلس التي هيمنت على المشهد العام للمدينة لتحول راهنها إلى صورة مشوهة طمست الإشراقات الحضارية التي عرفت بها مدينة القصر الكبير على امتداد تاريخها الطويل. والحقيقة إن كتاب عبد السلام القيسي قد احتوى على العديد من النقاط التأسيسية التي يمكن أن تشكل مرتكزات للبحث التوثيقي الرصين الذي يجب أن يتصدى له أبناء جمعية البحث التاريخي والاجتماعي، تجميعا للوثائق وتحليلا للسياقات وتركيبا للوقائع وتوظيفا للمعطيات في سياق دراسات مونوغرافية مجهرية ترصد تحولات الفضاء العام للمدينة وإبدالات نظمها الثقافية والدينية والسلوكية الجزئية.
ويبدو أن أعضاء الجمعية قد اكتسبوا الكثير من الخبرة في هذا الباب، بالنظر للتراكم الهام من الإصدارات المتتالية التي أشرفوا على إنجازها بكثير من الصبر والمعاناة، وبكثير –كذلك- من الأمل في ترسيخ أسس ممارسة جمعوية راشدة، تمتح منطلقاتها من عبق التاريخ، وترتكز في عملها على رؤى مجددة ومبادرة، وتتوخى في تطلعاتها خدمة الذاكرة المحلية بما يمكن أن يساهم في إعادة كتابة تاريخ المدينة وفي إعادة الحياة للوجه الإبداعي والثقافي والعلمي الذي اشتهرت به مدينة القصر الكبير، قديما وحديثا.
وبخصوص سياق مبادرة المؤلف بتجميع مضامين الكتاب موضوع هذا التقديم، فقد لخصتها الكلمة التقديمية للجمعية عندما قالت: “أما مؤلف الكتاب فهو من الأعضاء المؤسسين للجمعية، شغفه بتاريخ المغرب لا حد له، قارئ نهم للمصادر والمراجع المتعلقة به، وليس من المبالغة أن نقول أنه من بين القلة القليلة من الباحثين المغاربة الذين يملكون هذه المعرفة الواسعة لتاريخ المغرب، وهو في جميع الأحوال جندي مجهول في محراب هذا التاريخ رغم أنه من صانعيه على المستوى المحلي والإقليمي، إذ كان من العناصر الهامة في هياكل الحركة الوطنية بشمال المملكة إبان فترة الحماية. والكتاب… يعتبر باكورة إنتاجه، وهو يضم أبحاثا سبق للمؤلف أن نشر بعضها في عدة دوريات. تتناول هذه الأبحاث زوايا من تاريخ مدينة القصر الكبير، وكذا بعض المظاهر الاجتماعية التي طبعت ساكنتها، إضافة إلى وثائق هامة تساعد الباحثين على إماطة اللثام عن حقب متلاحقة من تاريخ المدينة…” (ص ص. 7-8).
تتوزع مضامين الكتاب بين ما مجموعه 294 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، غطت مضامينها مجموعة متراتبة من الدراسات القطاعية التي جمعت بين البعد التركيبي في إعادة قراءة تاريخ مدينة القصر الكبير، وبين البعد المنقبي الهادف إلى التعريف بأعلام المدينة، ثم بين البعد الوثائقي والبيبليوغرافي القائم على التعريف بالرصيد الدفين من الوثائق ذات الصلة، وبأمهات المصادر والمصنفات التأريخية الخاصة بمختلف جوانب الدراسة. في هذا السياق، انطلق المؤلف من تقديم موجز تاريخي عام حول تاريخ مدينة القصر الكبير، مركزا بحثه على توضيح خصائص موقع المدينة واسمها وساكنتها وتطورات أحداثها خلال عصر ما قبل الإسلام. وفي المادة الثانية، انتقل إلى النبش في بعض المظاهر الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية بالقصر الكبير، وذلك من خلال البحث في تاريخ المدارس والتعليم والكتاتيب القرآنية والمساجد والزوايا الموجودة بالمدينة، والمسلكيات اليومية المرتبطة بالعادات وبالتغذية وباللباس وبالحفلات وبالولائم وبالمآتم وبالأعياد وبالمواسم الدينية وبالحرف الصناعية والتجارية والفلاحية. وفي المادة الثالثة، اهتم المؤلف بالتوثيق لظروف بناء الجامع السعيد بالقصر الكبير، خلال عهد السلطان مولاي إسماعيل، كما خصص المادة الرابعة لإدراج تحليل تركيبي لأحداث ووقائع عرفتها القصر الكبير خلال عهد السلطان مولاي سليمان. أما في المادة الخامسة، فقد نشر المؤلف نص بيعة القصر الكبير وقبائل الغرب للسلطان مولاي الحسن الأول، مع تقديم تاريخي لمضامين هذه البيعة. وفي المادة السادسة، تتبع المؤلف مسار زيارة السلطان الحسن الأول لمدينة القصر الكبير ضمن رحلته لشمال المغرب سنة 1306ه، وعاد في المادة السابعة لنشر نص بيعة أهل القصر الكبير للسلطان مولاي يوسف، مع توطئة تاريخية تمهيدية. وفي المادة الثامنة، قام المؤلف بجميع ذكريات وشذرات عن زيارة الملك محمد الخامس لمدينة القصر الكبير يوم 10 أبريل من سنة 1956، وخصص المادة التاسعة للتعريف بالشيخ أبي الحسن علي بن خلف بن غالب باعتباره أحد أشهر أعلام مدينة القصر الكبير. وعلى نفس المنوال، اهتم في المادة العاشرة بالتعريف بسيرة الشيخ القطب مولاي عبد السلام بن مشيش. وعلى مستوى آخر، جاءت المادة الحادية عشر غنية بمضامين ملحق خاص بالوثائق والصور والنصوص التاريخية المتعلقة بمدينة القصر الكبير. وختم المؤلف كتابه بإدراج قائمة بيبليوغرافية ثرية بأهم المصادر والمراجع التي تعرضت لذكر مدينة القصر الكبير، جمعها من بين أمهات كتب التاريخ والتراجم المكتوبة باللغات العربية والإسبانية والبرتغالية والفرنسية.
وبذلك، قدم البحاثة المنقب عبد السلام القيسي خلاصات تجربته مع عالمي البحث والكتابة حول تاريخ مدينة القصر الكبير، مساهما في نفض الغبار عن عدة جوانب تاريخية وحضارية ظلت منسية في ذاكرة هذه المدينة التليدة. ولعل من عناصر القوة في آليات اشتغال المؤلف، عدم ركونه إلى الأحكام المستنسخة من الكتابات الكلاسيكية الحدثية، مقابل الحرص على الانفتاح على نتائج التنقيب العصري في المظان المصدرية التي أصبحت حجر الزاوية للبحث بالنسبة للمدارس التاريخية المعاصرة، وعلى رأسها رصيد الأبحاث الأركيولوجية الميدانية وركام الوثائق المخزنية والأجنبية ذات الصلة بموضوع البحث، ثم عطاء الرواية الشفوية باعتبارها أداة مساعدة يمكن أن توجه عمل الباحثين نحو قضايا كثيرا ما افتقدت تفاصيلها في سياق تدافع الأحداث والوقائع أو تحت وقع صمت الكتابات الإرسطوغرافية الكلاسيكية. وبالنسبة لجمعية البحث التاريخي والاجتماعي، فالمؤكد أن هذا العمل لم يكن نهاية خط السير، بل ظل مجرد إضافة لمجال تراكم إصداراتها، باعتبارها واجهة أمكن من خلالها فتح جسور مديدة للتواصل بين المهتمين ولتلقيح التجارب الجمعوية الرائدة، لكي توفر المواد الخام الضرورية بالنسبة للبحث الأكاديمي المتخصص، ولكي تعيد تأسيس علاقاتها بهذا المجال على أساس الاغتناء المتبادل والدائم.
أسامة الزكاري