سلسلة مقالات حول القيم والنموذج التنموي المغربي
الحلقة الأولى : القيم وأسئلة التنمية
بقلم: ذ. حسن الطويل
أستاذ باحث
يكتسي موضوع القيم راهنية بالغة و ملحة ، تتجلى في دور التربية على القيم في تكوين الرأسمال البشري باعتبارها مرتكزا أساسيا من مرتكزات الحياة الإنسانية في جانبها الفردي والاجتماعي ، وعاملا أساسيا في دينامية المجتمعات وتحولاتها ، ذلك أن آثار التربية على القيم تمتد إلى عمق التنمية البشرية والبيئية ، وهو ما تؤكده التقارير الوطنية والدولية حول التنمية البشرية حينما تعتبر أن تعزيز المنظومة القيمية بكامل أبعادها الأخلاقية والسياسية والحقوقية والبيئية لدى الأفراد والجماعات والمؤسسات الاجتماعية ، يشكل أحد المسارات القوية والوازنة في الرفع من مؤشرات النمو الاقتصادي وتحسين أوضاع الأفراد والارتقاء المستمر بمؤشرات التنمية البشرية والبيئية [1] .
كما تكمن أهمية موضوع القيم باعتباره مدخلا أساسا لتحقيق التنمية الشاملة المستدامة ، تضمن لها استقرارها واستمرارها عبر تعزيز الرأسمال البشري وتقويته باعتباره محددا حاسما لنجاح أي نموذج تنموي ، ذلك أن الاهتمام والعناية بالاستثمار في الرأسمال البشري يعد حجر الزاوية ومفتاحا لتطوير الكفاءات البشرية كخيار استراتيجي لتنمية وتطوير قدرات ومهارات ومواهب البشر في مختلف المجالات التنموية التعليمية والصحية والاقتصادية ، كما يعد الثروة الحقيقية لتحريك عجلة النمو والتنمية، إن تم بناؤه بمنظومة قيمية محكمة ،منسجمة مع هويته وثقافته وتطلعاته .
ولعل منظومة القيم مرتبطة أساسا بعمق الإنسان وجوهره من جهة، وبمجال البناء الحضاري من جهة أخرى، ذلك أنها صنعت الإنسان المسلم وحضارته طيلة حقبة زمنية افتخر بها المسلمون في مسارهم التاريخي والحضاري، فنظمت علاقة الفرد بالبيئة والصحة والتواصل والإعلام وحقوق الإنسان والفن والجمال، واليوم، أضحت الحاجة ماسة إلى نبش أغوارها وإدراك طرق وكيفية استثمارها في نموذج تنموي وحضاري واعد لأمة ذات عمق تاريخي وحضاري ضارب في القدم.
إن الحديث والكتابة في موضوع القيم والتنمية حساس في وقتنا الحاضر اعتبارا لمركزيته في اهتمامات المدارس والمؤسسات والدول ، حيث انتبه العالم إلى أن المنظومة الفكرية المبنية على قيم وقناعات محددة تشكل عاملا حاسما في التعامل مع القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، وقد تؤدي إلى توافق، كما قد تؤدي إلى صدام الحضارات، ولهذا إذا اعتبرنا أن التنمية هي دفع قيم وكفايات الفرد نحو الأفضل ، فإن عمليات الدفع ينبغي أن تشمل كل الأبعاد والجوانب الحضارية للأمة ، دون إهمال جانب على حساب جانب آخر ، فالرخاء الاقتصادي قد يكون فرصة عظيمة لشعب من الشعوب كي يؤسس بناءه الحضاري ، لكنه بالنسبة لشعب آخر قد يصرفه عن توظيف واستثمار الجوانب القيمية في شخصيته وكيانه الحضاري .
إن التنمية المنشودة ترتبط أساسا بالقيم، حيث يقتضي تحقيقها تقديم العناية والاهتمام بكل مجال من مجالات الحياة المختلفة، الروحية والمادية والثقافية والعمرانية برؤية واحدة ومعايير دقيقة متكاملة ومتزنة، تستجيب للمطالب الملحة وللحاجيات المتزايدة للمواطنين محققة العدالة الاجتماعية ومتطلعة للتطورات العالمية.
في هذا السياق، دعت العديد من الخطب الملكية السامية إلى بلورة رؤية تنموية جديدة، تستجيب لحاجيات المواطنين وتحد من الفوارق والتفاوتات المجالية وتحقق العدالة الاجتماعية، وتشكل لبنة جديدة في المسار التنموي المغربي حيث يؤكد جلالته حفظه الله:
” إذا كان المغرب قد حقق تقدما ملموسا، يشهد بـه العالم، إلا أن النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم، غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغيـر قـادر عـلـى الحـد مـن الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجاليـة، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وفـي هـذا الصـدد، ندعـو الحكومة والبرلمان، ومختلف المؤسسات والهيئات المعنية، كل فـي مجـال اختصاصـه، لإعادة النظـر فـي نموذجنا التنموي لمواكبة التطورات التـي تعرفهـا الـبـلاد”[2].
كما قال جلالته : ” لقد دعوت، مـن هـذا المنبر، في السنة الماضية، إلى إعادة النظر في النموذج التنموي الوطني، وبلورة منظور جديد، يستجيب لحاجيات المواطنين، وقـادر عـلـى الـحـد مـن الفـوارق والتفاوتات، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية ومواكبة التطورات الوطنية والعالمية (…) لذا قررنا تكليف لجنة خاصة، مهمتها تجميع المساهمات، وترتيبها وهيكلتها، وبلورة خلاصاتها، في إطار منظور استراتيجي شامل ومندمج، على أن ترفع إلى نظرنا السامي، مشروع النموذج التنموي الجديد، مع تحديد الأهداف المرسومة له، وروافد التغيير المقترحة، وكذا سبل تنزيله ” [3].
ويتابع جلالته بالقول: ” وإننا ننتظر منها أن تباشر عملهـا، بـكل تجـرد وموضوعية، وأن ترفع لنا الحقيقة، ولـو كـانـت قاسية أو مؤلمة، وأن تتحلى بالشجاعة والابتكار فـي اقتراح الحلول. إن الأمر لا يتعلق بإجراء قطيعة مع الماضي، وإنما نهدف لإضافة لبنة جديدة في مسارنا التنموي، في ظل الاستمرارية.
ويبقى الأهـم هـو التحلي بالحـزم والإقدام، وبـروح المسؤولية العالية، في تنفيذ الخلاصات والتوصيات الوجيهة، التي سيتم اعتمادهـا، ولـو كـانـت صعبة أو مكلفة “[4].
ولبلورة التصور التنموي المنشود أحدث جلالة الملك محمد السادس نصره الله في نونبر 2019 لجنة خاصة بالنموذج التنموي مدشنا بذلك ورشا للتشخيص والبناء المشترك للمستقبل الذي يتعين تناوله ” بالشجاعة والابتكار ” و ” المصلحة الوطنية العليا ” [5]
وقد انكبت اللجنة الخاصة بهذا الملف، على رسم معالم نموذج تنموي جديد بناء على الثقة المولوية السامية التي حظيت بها، وبحماس وبروح وطنية عالية، معتمدة على منهجية الإنصات والمشاورة الوطنية الموسعة لصياغة رؤية ذات مصداقية وقابلة للتحقيق تسعى لبناء مجتمع قوي منفتح وقوي بتعدده، يضم نساء ورجالا جديرين، ويتحلون بروح المسؤولية، ويشكلون أمة تجتمع حول دولة قوية عادلة بامتدادها التاريخي.
لتقدم أعمالها على أنظار جلالة الملك يوم الثلاثاء 25 ماي 2021 بالقصر الملكي بفاس. وفيما يلي بلاغ الديوان الملكي حول مراسيم تقديم التقرير العام للنموذج التنموي.
“ترأس صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، يومه الثلاثاء 25 ماي 2021، بالقصر الملكي بفاس، مراسيم تقديم التقرير العام الذي أعدته اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، واستقبل بهذه المناسبة، السيد شكيب بنموسى، رئيس هذه اللجنة، الذي قدم لجلالته نسخة من هذا التقرير.
ويشكل تجديد النموذج التنموي مرحلة جديدة في توطيد المشروع المجتمعي، الذي يقوده جلالة الملك؛ ويشمل أيضا تعزيز الارتباط بقيم المواطنة الإيجابية والفاعلة، وتقوية الشعور بالانتماء إلى الأمة، وتأكيد الشخصية التاريخية والثقافية المغربية، الغنية بتاريخها العريق، والمتميزة بالانفتاح، وبتعدد مكوناتها.
وطبقا للمهمة الموكلة إليها، فقد اعتمدت اللجنة مقاربة متعددة الأبعاد، وقامت بتأطير جيد لأعمالها. وقد تمكنت على الخصوص، من استكشاف وتدارس التحديات والتغييرات الجديدة التي نتجت عن جائحة Covid-19، في العديد من المجالات الاستراتيجية، مثل الصحة والفلاحة والأمن الغذائي والطاقة والتنمية الصناعية والسياحية.
وخلال الاستقبال الذي خص به جلالة الملك، حفظه الله، السيد شكيب بنموسى، هنأ جلالته رئيس وأعضاء اللجنة، على الجهود المبذولة، وجودة العمل الذي تم إنجازه، والذي يعتبر نتاج مقاربة تشاركية واسعة، من الاستماع والنقاش والابتكار الجماعي، حول تجديد النموذج التنموي المغربي.
كما أشاد جلالة الملك، أعزه الله، باحترام اللجنة الكامل للنهج التشاركي، الذي كان جلالته قد دعا لاعتماده في هذا الشأن، وشكر بهذه المناسبة، جميع المساهمين في هذا العمل الوطني، من أحزاب سياسية، وهيآت اقتصادية واجتماعية، ومنظمات غير حكومية، ومراكز للتفكير، وكذا جميع المواطنين الذين شاركوا، عبر التراب الوطني، في جلسات الاستماع التي نظمتها اللجنة.
وبهذه المناسبة، دعا جلالته إلى التفاعل الجدي مع خلاصات هذا العمل، وجعلها في خدمة تنمية بلادنا ورفاهية مواطنيها.
كما أمر جلالة الملك بنشر تقرير اللجنة الخاصة للنموذج التنموي، ووجه اللجنة لإجراء عملية واسعة لتقديم أعمالها، وشرح خلاصاتها وتوصياتها للمواطنين ومختلف الفاعلين، بكل جهات المملكة.
وفي هذا الإطار، فإن الحكومة ومختلف الفاعلين والمؤسسات، مدعوون، كل في مجال اختصاصه، للمشاركة والمساهمة الفعالة في تنفيذ التوصيات الوجيهة الواردة في هذا التقرير، من أجل خدمة هذا الطموح والأفق التنموي الجديد، والارتقاء به لمستوى تطلعات جلالة الملك والشعب المغربي”.
انطلاقا هذا، تظهر جليا أهمية وثيقة ” النموذج التنموي الجديد ” باعتبارها تجسد تطلعات المغاربة، وبادرة أمل وثقة في المستقبل تقوم [6]على إقامة علاقات متوازنة بين الدولة والمجتمع، تكرس المكانة المركزية للمواطنين في حقوقهم وواجباتهم. مستندة على الدستور المغربي كإطار مرجعي وكذلك على مفهوم جديد للتنمية التي تأخذ في الاعتبار لزوم تثمين الموارد والحفاظ عليها للأجيال القادمة.
ومن دون شك، فإن منظومة القيم تشكل رافعة أساسية في التنمية البشرية بأساليب علمية صحيحة، بما يحفظ للمجتمع هويته ويحافظ على خصوصيته وقيمه، فيسهم في قضايا التطور والنهوض بالواجب الواطني في مختلف القطاعات.
v فما هي الإمكانات المرجعية والقيمية التي يتيحها النموذج التنموي المغربي من أجل تحقيق تنمية وطنية شاملة؟ وإلى أي حد تستجيب منظومة القيم المتضمنة في التقرير العام للنموذج التنموي للمطالب التنموية الحقيقية؟
وكيف ينظر النموذج التنموي للتنمية البشرية؟ وما موقع القيم في النموذج التنموي المغربي؟ وماهي الرافعات التي اعتمد عليها لتعزيز وتجسيد القيم في مؤسسات المجتمع؟ وهل يستطيع النموذج التنموي بحمولته القيمية تحقيق الأهداف المنشودة والمتمثلة في تحقيق أهداف التنمية وبناء مغرب الغد؟
أسئلة وأخرى سنسعى للإجابة عنها في المقالات القادمة.
الهوامش:
1) تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول التنمية البشرية (2010) بعنوان الثروة الحقيقية للأمم: مسارات إلى التنمية البشرية.
2) مقتطف من خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية العاشرة 13 أكتوبر 2017
3) مقتطف من خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية العاشرة 12 أكتوبر 2018
4) مقتطف من خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس عيد العرش -29 يوليور 2019
5) وثيقة التقرير العام للنموذج التنموي الجديد ص: 13 ـ اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي ـ المملكة المغربية ـ أبريل 2021.
6) وثيقة تقرير النموذج التنموي المغربي الجديد، المرجع نفسه. ص. 13 .