- الكمامة الأولى
الکمامة : لم نكن نراها إلا في المستشفيات عامة، في قاعات العمليات أو في مصالح المستعجلات خاصة، أو بشكل نادر عند بعض المهنيين، كما أخذنا نراها مؤخرا خارج مكانها المعهود أي في الشوارع والحواري عندما تحركت السياحة الصينية. كانت تبدو لنا غريبة وبعيدة لم نكن نعتقد أنها في يوم من الأيام ستتخلى عن دورها الثانوي وتتقلد دور البطولة….
الكمامة: هذه القطعة الصغيرة المصنوعة من مواد مختلفة، والتي تستر كاللثام الوجه وتغطي الفم والأنف والتي تتنوع استعمالاتها حسب معايير التصنيع والحالات بهدف وقاية الشخص الحامل لها أو وقاية الناس من دائه؛ اعتلى صداها في زمن كورونا المنابر السياسية والإعلامية فما بالك بالأوساط الطبية. زادت قيمتها وعلا كعبها حينما قلت أو ندرت وكثر طلابها كالحسناء التي يتهافت عليها الخطاب…
الكمامة: لم تكن منظمة الصحة العالمية عند بدايات تفشي الوباء تدعو إلى تعميم حملها، وقد سارت أغلب دول المعمور على هدي ما تدعو له هذه المنظمة إلا دول شرق آسيا التي تعود الناس فيها على حمل الكمامة في مواسم الأمراض التنفسية لكي لا يتعادوا، وفي ظروف جائحة كورونا عم حمل الكمامة عندهم واستطاعوا بذلك أن يحدوا من تفشي الفيروس والخروج من الحجر الصحي مبكرا و ممارسة الحياة العادية ما أمكن ولم يكن ذلك متاحا إلا بحمل حميع الناس للكمامة…
هكذا حازت دول شرق آسيا ميزة المثال الذي يحتذى، لذلك تبعتها كثير من البلدان، بل إن منظمة الصحة العالمية تراجعت عن فتواها التي ترددت على الألسن كالببغاء في البدايات، وانصاعت إلى القول بالفعالية الجيدة لحمل الكمامات في مواجهة تفشي داء كوفيد١٩ …
حينما تغيرت المعطيات بخصوص الكمامة وقيمتها الوقائية؛ البلدان الذي عانت من خصاص في الكمامات لم تفلت من المناوشات والتفكهات بسبب تقاعس الدولة أو إهمالها أو إغفالها القيام بالمحافظة على المخزون الاستراتيجي للكمامات، بل لما امتد النقص في الكمامات إلى المستشفيات و الأنشطة الأخرى الأساسية في الحرب ضد الفيروس التاجي دخلت الحكومات إلى قفص الاتهام. الناس في هذه الحالة تصرفوا بغريزة البقاء فاستعملوا حيلهم وما خفي من علاقاتهم ونباهتهم وحذقهم في البحث عن الكمامات وصناعتها لتوفيرها لأنفسهم، وللمقربين والأصدقاء والمحتاجين…
الكمامة: في بلادنا التقط المسؤولون الحكوميون ما وقع من مطبات وأزمات وتجاذبات حامية واتهامات قوية في بلدان أخرى صديقة ومجاورة فساعدتهم نباهتهم الاستشرافية إلى إبداع كمامة مغربية(ديال البلاد) غير طبية ولكنها على الأقل حامية سيزداد دورها وقيمتها في فترة ما بعد الحجر الصحي…الكل صفق لهذا الإبداع بل سمعنا خطباء في فرنسا يعطون المثال للحكومة الفرنسية بالمغرب….حفظ الله بلدي وحفظ الله أهل بلدي فالكمامة للوقاية لا توضع على العنق ولا ترمى في أي مكان، فكلنا محظوظ بوجودها فغيابها تقام من أجله الدنيا وتقعد في بلدان متقدمة علينا في العلم والتكنولوحيا والبخث والصناعة بعشرات السنين إن لم نقل بعقود أو قرون، فعلينا أن نحسن معاملتها رحمكم الله…ففي الليلة الظلماء يفتقد البدر…
- الكمامة الثانية
الكمامة: كل العالم يتفق على أهمية الكمامة الصحية في التغطية والستر والشد أي الوقاية والحماية، ولكن لا يتفق على أهمية الكمامة المجازية في الإسكات والمنع والإخفاء أي في التقييد والتضييق والمصادرة والغميق. فبقدرما يمدح الناس الكمامة الأولى ويطلبونها بقدرما يهجون، إلا النغمة النشاز، الكمامة الثانية ويمقتونها كما يمقتون الفيروس التاجي…
حكومتنا نجحت بامتياز في درس الكمامة الأولى و إن طال بعض فقراته بعض الارتباك والاهتزاز، لكنها على ما يبدو سقطت في درس الكمامة الثانية الذي ..جاء حامضا بل بئيسا في إخراجه ومضمونه.
من سرب إذن مشروع”الكمامة” الثانية كما أطلق عليه مستعملو الفايسبوك وهو مشروع، لعبث الأقدار، يهم تقنين التعبير في شبكات التواصل الاجتماعي ومنها الفایسبوک وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة لذلك فهو بمثابة كمامة “للتواصل الرقمي”…
المشروع، حسب القصاصات الرسمية، صودق على نسخته الأولى المقترحة أي صودق عليه من “الناحية المبدئية” يوم ١٩ مارس الماضي، على أن يخضع لمشرح لجنة تقنية ووزارية من أجل المراجعة أي التعديل بالحذف أو الزيادة، والتدقيق وإعادة الصياغة إلخ. قبل طرح صيغته النهائية على البرلمان…
المشروع في حد ذاته في تقديري لا يثير العجب حيث إن وسائل التواصل الرقمي تحتل حيزا يتسع يوما بعد يوم في حياة الناس، وكلما تطورت الممارسات والخدمات زادت الإشكالات والمرتبطة بها وتشابكت، كما طرحت في نفس السياق أسئلة بخصوص حدود الحريات في التعامل مع هذه الوسائل في ارتباطها بحقوق الأشخاص والجماعات والمؤسسات…
وكما يبدو لم تنفع المواثيق التي تنظم التواصل الرقمي والتي على المستعمل أن يسترشد بها أو يخضع لها في وقف زحف الممارسات العنيفة والمنافية للأخلاق، ولحرية التعبير والرأي والتي قد يصل بعضها إلى حد الجريمة..بل إن وسائل التواصل الرقمي تحولت أحيانا كثيرة إلى مرتع لأعداء الحرية والاختلاف، و نشر الكراهية وقمع المخالفين والقذف والسب والترهيب الفردي والجماعي، ووسائط تستعمل بالتواء من طرف بعض المرضى الذين ينفثون سمومهم في وجه الآخرين، مما يحتم تقنين استعمال هذه الوسائل… وفتح نقاش عمومي واسع حول ذلك…فحرية التعبير هي جزء لا يتجزأ من منظومة الحريات التي ما زلنا نتعامل معها بانتقاء وبرغماتية وحرص شديد على عدم الوضوح…
الحرية هي الأصل؛ لذلك فكل قانون يتعلق بتقنين الحريات هو بمثابة المشي على الزجاج، فالتناقضات التي يحبل بها المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا تنعكس على كل نقاش عمومي ينصب على هذا الموضوع الشائك في ظرفية تاريخية ما، ولنا عدة أمثلة في بلادنا تدل على هذه التناقضات التي احتدت ووصلت إلى الباب المسدود حتى خضعت لعملية التحكيم، كما تم في هذا الإطار التخلي عن بعض المشاريع أو تأجيلها…فالتشريع للحريات والحقوق يؤشر على طبيعة الدولة والمجتمع الذي نريده…ويخلق اصطفافات حدية في مجتمعات منقسمة ولم تنجز ثورتها الثقافية والفكرية بعد…
إن ما يروج من تناقضات، إن لم يكن الشرخ داخل أطراف الحكومة، في موقفها مما سرب من مشروع قانون “الكمامة” لا يناسب جو الثقة و التضامن الذي ارتفع منسوبه في ظرف الجائحة، بل يؤشر على نزق سياسي لا نحتاجه حاليا، بقدر ما نحتاج إلى رص الصفوف و توحيد الجهود وخلق جو الانفراج والأمل في مواجهة وباء يحصد أرواحا إنسانية في طريقه وسيخلف ندوبا وارتدادات قوية وحارقة على المستوى المتوسط والبعيد لن نواجهها بالألاعيب السياسوية و التسرع و حجز المعلومة… بل بالحكمة والصبر وبعد النظر…
إخراح قانون ينظم شبكات ووسائل التواصل الرقمي ويقنن استعمالها…ضرورة في ظل اتساع استعمال وتأثير هذه الشبكات والوسائل، وظهور انحرافات وممارسات تناقض مبدأ حرية التعبير والرأي وحريات وحقوق أخرى أساسية ضرورية لبناء دولة الحق والقانون ومجتمع المواطنة …لكن هذا الإخراج من الضروري أيضا أن يكون إخراجا سليما شفافا يشرك أوسع قوى المجتمع وفعالياته وعقلائه…
- عبد الحي مفتاح