خبا ذلك الشغف كما بدأ فجأة أول وهلة. انتهى زمن البدايات المخملية التي لا تتجاوز ردهات خيالية تسكن في الأعماق وتقبع هناك حبيسة …هكذا فكرت وهي تلملم جزءا من اللاشيء تماما … و تتجرع ذلك الشعور بالغبن والعجز كلما تحسست تلك الجروح الغائرة التي تسطع كما النجوم في مواضع شتى من جسدها الذابل حقا …
انتهى ذلك الزمن دونما رجعة ودون أن تتحسر عليه حتى …
تتهيأ اليوم لتنثر ما تبقى في جرابها من أيام لتحيا يومها الأخير بسلام.
عندما تفكر في ذلك اليوم تمرر أصابع يدها اليسرى فوق خديها بشكل دائري لتتلمس التجاعيد المحفورة كالأخاديد وتتأكد أن ذلك اليوم قد اقترب.
اقتربت منها نحلة كبيرة وبدأت تحوم فوق رأسها مباشرة، ثم انتصبت على ناصيتها وتجمدت هناك .
لكنهما ظلتا ساكنتين هادئتين ..تنصت الواحدة منهما لسكنات الأخرى بحميمية غريبة…
– عجبا، أحس أن هذه النحلة تعرفني …أكاد أحضنها وأقبلها…
– عجبا، أحس وكأن هذه السيدة تشبهني …أكاد أتعرف عليها ….
في حركة لا إرادية أغمضت عينيها ولما فتحتهما من جديد كانت النحلة قد ابتعدت عنها …
تلك الشجرة الوارفة الضلال ..المثمرة والمقاومة لنوائب الدهر ..خارت قوتها أمام جبروت النار الملتهبة ….ظلت تقاوم إلى آخر رمق …لكن قوة النيران تمكنت منها بمساعدة الرياح ….
فكرت في حياة تلك الشجرة بجدية أكبر وهي تحس بدوار خفيف يجتاح رأسها …أخذت فوطة بيضاء ودفنت وجهها بها وهي تمسح العرق المتصبب فوق جبينها …
تذكرت تلك القطة الصغيرة التي وجدتها ذات يوم تقف ببابها ….تسللت إلى الداخل وكأنها صاحبة المنزل …ولم تمر إلا شهور قليلة جدا حتى تمددت في زاوية من المطبخ وقد أضحت مبللة بالكامل وهي تتنفس بصعوبة لتمنح الحياة لقطط مختلفة ألوانها وتسهر على إرضاعها دفعة واحدة تارة وبالتناوب تارة أخرى …
في الواقع، سبق لها أن حضرت لحظة المخاض والولادة لبقرة وماعزة وكلبة، وكانت دائما تغمض عينيها وتتنفس باضطراب واضح وهي تشاهد تلك اللحظات العصيبة والمؤلمة ….كما سبق لها أن حضرت مرتين على الأقل لحظة ولادة امرأة، وسمعت ذلك الأنين المتصل والمتقطع، و ذلك الصراخ المرتفع والمنخفض، وشاهدت العرق يتصبب بغزارة فتسمع أخيرا صراخ المولود، بعد ملاحم خارقة …لتحس وكأن جائزة ما قد قدمت نظير كل ذلك.
استسلمت للا عايشة بشجاعة كبيرة، وأرخت جفونها، لتتوقف عقارب ساعتها المزعجة التي كانت تحدث صراعا مقيتا بدواخلها.
حميدة جامع