بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة و السلام على مولانا محمد الصادق الأمين، وعلى أله و صحابته الطيبين الطاهرين.
تعد ملعبة الكفيف الزرهوني أقدم نص عامي مغربي مريني وصلنا على الإطلاق، يقول محقق الملعبة الدكتور محمد بنشريفة: ” من حسن الحظ أن عوادي الزمان ونوائب الحدثان، أبقت على نص شعري البناء، عامي اللهجة، ملحمي المنحى، سياسي المنزع، تاريخي المضمون، يتسم بالطراف ويتميز بالأهمية، ويتصف بالإبداع[1]. وقد أطلق ابن خلدون على هذه القصيدة التي كان يحفظها إسم “الملعبة” وهي فن من عروض البلد وتحدث عن فحول هذا الفن في العصر المريني ومنهم الكفيف الزرهوني الذي يقول فيه : “وكان لهذه العصور القريبة، من فحولهم بنرهون من نواحي مكناسة، رجل يعرف بالكفيف أبدع في مذاهب هذا الفن، ومن أحسن ما علق له بمحفوظي قولة في رحلة السلطان أبي الحسن وبني مرين إلى افريقية يصف هزيمتهم بالقيروان، ويعزيهم عنها، ويؤسيهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غَزَاتهم إلى افريقية، في ملعبة من فنون هذه الطريقة، يقول في مفتتحها ، وهو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام وافتتاحه، ويسمى براعة الإستهلال:
ونواصيها في كل حين وزمان | سبحان مالك خواطر الأمرا |
وأن عصيناه عاقب بكل هواني | إن طعناه عطفهم لنا نصرا |
إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص:
فالراعي عن رعيته مسؤول | كن مرعي قال ولا تكن راعي |
وبعد أن سرد قسما من هذه القصيدة قال : “ثم أخد في ترحيل السلطان وجيوشه الى أخر رحلته، ومنتهى أمره مع أعراب إفريقية، وأتى فيها بكل غريبة من الإبداع”.[2]
وكل ما يمكن أن نستفيده من كلام إبن خلدون أن الشاعر “الكفيف الزرهوني” كان شيخا ضريرا في عهد السلطان أبي الحسن المريني ، وأنه كان مقيما بزرهون . وأن عصره كان عصر ازدهار الزجل في المغرب المريني دون منازع، فقد عاصر الكفيف الزرهوني ” ابن شجاع التازي”[3] من المغرب المريني ، و “خلف الغباري” و”إبراهيم المعمار” من العهد المملوكي بالمشرق، وكان “ال برقوق وغيرهم من المماليك يقربون الزجالين ويثيبونهم، كما كان بنومرين يقيمون المباريات للإنشاد الشعبي ويمنحون الجوائز للفائزين”[4]
ولم أرد أن أطيل في هذه القضايا، وهنا أحيل على مؤلفات مؤسس الأدب الشعبي الدكتور عباس الجراري، ولاسيما مؤلفه “القصيدة”، وكذاك على مؤلفات عميد الأدب الأندلسي الدكتور محمد بنشريفة ، ولاسيما معلمته ” تاريخ الأمثال والأزجال في الأندلس و المغرب بحوث ونصوص” في خمسة أجزاء ضمن منشورات وزارة الثقافة.
أما بخصوص المؤثرات الأندلسية في ملعبة الكفيف الزرهوني فإن الذي يستقري هذه الملعبة يرى أن الطابع الأندلسي غالب عليها، وبارز فيها، سواء من حيث الشكل ، أم من حيث المضمون، فهي أندلسية مغربية من جهة الشكل لأن مفرداتها و تراكبها مما عرفت به اللهجة الأندلسية في القرن الثامن الهجري، وهي مغربية من حيث المضمون لأنها تتصل بشاعر مغربي وأحداث وقعت في المغرب، يقول ابن خلدون في مقدمته: “إن لغة أهل الأندلس لغة قائمة بنفسها، مباينة للغة أهل المغرب وإنها متأثرة بعجمة الجلالقة”[5].
ويرى المستعرب الفرنسي “كولان” أن جميع الأزجال المغربية التي ترجع إلى العصر المريني، قد نظمت باللهجة الأندلسية التي كانت بفضل أزجال “ابن قزمان” وغيره لغة الزجل “الكلاسيكية” ويبدو أنه استند في إطلاق هذا الحكم على نماذج الأزجال المغربية التي أوردها ابن خلدون في المقدمة عقب سرده أزجال الأندلسيين و المغاربة فقال: “واعلم أن الذوق في معرفة البلاغة منها ( أي من الأزجال) كلها إنما يحصل لمن خالط تلك اللغة، وكثر استعماله لها، ومخاطبته بين أجيالها ، حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية ، فلا يشعر الأندلسي بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب ، ولا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس و المشرق، ولا المشرقي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس و المغرب، لأن اللسان الحضري وتراكيبه مختلفة فيهم، وكل واحد منهم مدرك بلاغة لغته وذائق محاسن الشعر من أهل بلدته.[6]
ومهما يكن، فإن ملعبة الكفيف الزرهوني تستعمل فعلا لغة الزجل الأندلسي وتشتمل على ألفاظ معروفة في هذه اللغة، ولعلها كانت من الألفاظ المشتركة بين عامية الأندلس وعامية المغرب، فقد ذكر بعضها ابن هشام اللغوي الأشبيلي السبتي (ت557ه) في كتابه “لحن العامة” وهذه نماذج منها:
-“بلج”: أي أغلق الباب بالبلج أي المغلاق، وهذه الكلمة مازالت يستعملها لحد الأن سكان الجبال القريبة من مدينة شفشاون.
-“شابل”: اسم سمك معروف إلى اليوم في المغرب، يصطاد من الأنهار، ومنطقة ازمور معروفة به لحد الأن.
-“شاشية”: وهي القلنسوة، وهي شائعة بالمغرب.
-“فدان” : للموضع الذي يحرت أي الحقل، وهي معروفة لحد الأن.
-“قيطزن” : بمعنى خيمة، استعملها الشاعر ابن قزمان وهي معروفة في المغرب
-“الزكروم”: القفل و المغلاق وما تزال مسموعة في المغرب لحد الأن.
-“برح”: بمعنى نادى، والبراح المنادي، وهي كلمة شائعة في النصوص الأندلسية و المغربية، وما تزال مسموعة عندنا في المغرب لحد الأن.
ومما هو مشترك بين لهجة الملعبة واللهجة الأندلسية أيضا ما يلي:
– المحافظة على كسر عين اسم الفاعل من الثلاثي مثل :
عادِل ، فارِس ، طائِل ، سائِس ، جافِل ، فاتِح إلخ… ، وهذا معروف في العامية الأندلسية وعامية منطقة جبالة في المغرب وإليها ينتمي صاحب الملعبة.
– المحافظة على صيغة اسم الموصول ، الذي، فاستعمالها هكذا متكرر في الملعبة ، وهي المستعملة في أغلب النصوص الأندلسية.
– استعمال “إكان” بمعنى لو ، وأصلها إن كان.
– استعمال “بْحَلْ” للتشبيه ، وهو استعمال ما يزال جاريا بسكون الباء في اللهجة المغربية إلى اليوم.
– استعمال “هول” أي هؤلاء ، وترد كذلك في الأزجال الأندلسية.
-استعمال “ذوك” بمعنى أولئك.
وقد وردت في الملعبة أمثال عامية توجد عند الزجالي وابن عاصم ومنها:
-اش دعانا لراس الاقرع.
– العمش في حضرة العُمْيا.
– لا مكان ولا إمكان.
-إذا نزل القضا عمت الأبصار .
وبعضها ما يزال مسموعا إلى اليوم.
إن هذا التداخل بين ملعبة الكفيف الزرهوني وبين النصوص الأندلسية من حيث الإستعمال يمكن تفسيره بما يلي :
تأثر الزجال المغربي القديم بمحفوظه من الأزجال الأندلسية.
-اشتراك لهجتي الأندلس و المغرب في عدد كبير من الألفاظ التي تعتبر ألفاظا مغربية بالمعنى الواسع.
-تأثر لهجة منطقة جبالة التي ينتمي إليها الكفيف الزرهوني باللهجة الأندلسية بحكم التلاقح و القرب و الجوار ، ولأن أهل جبالة أو غمارة كانوا يقومون دائما بفرض الجهاد في الأندلس ويتطوعون لدخولها من أجل ذلك ثم يعودون إلى ديارهم، ثم إن عددا كبيرا من الأندلسيين استقروا بمنطقة جبالة في أفواج متعاقبة، فرارا من الفتن التي كانت تنشأ بالأندلس، وخلال فترة الجلاء عن القواعد و المدن المفقودة ثم بعد الخروج الأخير من مدينة غرناطة.[7]
ومع ما ذكرناه من مؤثرات أندلسية في الملعبة ، فإنها تحتفظ بخصائص محلية ، ومن أبرزها:
– حذف الهاء من ضمير الغائبة في مثل قول الكفيف: منا أي منها.
– ما أصعبا أي ما أصعبها.
-شرقا أي شرقها ، ومثل هذا كثير في الملعبة.
وفي بغض الحالات نجد الشاعر الكفيف الزرهوني يقف على الهاء المذكورة بالسكون ويفتح ما قبلها كقوله:
– ماشراها مليك و لاباعه ( أي باعها ).
ومثل هذا الاستعمال معروف في لهجة أهل تطوان استعمال “فاه” من الأسماء الخمسة ولا يوجد هذا الاستعمال في اللهجات العامية في حين أنه ما يزال موجودا في لهجة جبالة.[8]
ويبدو أن الكفيف الزرهوني كان يعرف الأمازيغية ، فقد استعمل جملة من كلماتها واستعان بها في بعض قوافيه، وها هي الكلمات الواردة في الملعبة :
-“إيسان” أي الخيل.
-” أسردان” أي البغال.
-“إنزران ” أي المطر.
-“إيمزذغت” أي السكان.
– “تيسدنان” أي النساء[9].
ومن المعروف أن شيخ الزجالين “ابن قزمان” استعمل في أزجاله بعض الكلمات البربرية مثل أشكد…
وهناك مستوى أخر في الملعبة وهو المستوى الفصيح ويتجلى في طائفة كبيرة من الألفاظ المعجمية مثل : الرزق- القطعان – الشعراء وغيرها.
كما يتجلى في التراكيب العربية التي لا ينقصها إلا الاعراب. ولاشك أن هذا يدل على ثقافة الشاعر وتمكنه من اللسان العربي المبين.
ان هذا التداخل و التفاعل و التلاقح بين الزجل الأندلسي و الزجل المغربي المريني هو الذي أعطى للملعبة قيمتها الخاصة على الرغم من اشتمالها على خصائص خاصة ومحلية، وبذلك صارت الملعبة مصدرا ومرجعا لكل من تعامل معها ونجد ذلك بوضوح في تصريحات ابن خلدون في مقدمته.
و السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.[10]
-ملعبة الكفيف الزرهوني،تحقيق:د.محمد بنشريف.[1]
-مقدمة إبن خلدون،ج الرابع ص:1470،تحقيق:د علي عبد الواحد وافي.[2]
– أزهار الرياض : أحمد المقري، ج الأول ، ص:123[3]
– الأدب العامي في مصر في العصر المملوكي: أحمد صادق الجمال،ص:35 وملعبة الكفيف الزرهوني،ص:11،تحقيق،د.محمد بنشريفة.[4]
– المقدمة:ابن خلدون،ص: 555- تاريخ الأمثال و الأزجال : محمد بنشريفة،ج الأول ، ص:345[5]
– تاريخ الأمتال و الأزجال في الأندلس و المغرب: د محمد بنشريفة ، ج الأول ص:410-411[6]
-تاريخ الأمثال و الأزجال : د محمد بنشريفة، ج الأول ص:414-415[7]