منذ عقدين من الزمن تقريبا كان الدكتور محمد عابد الجابري قد نشر كتابا تحت عنوان “المثقفون في الحضارة العربية”. وكان أهم ما تميزت به أطروحة الكتاب هي محاولتها تأصيل مفهوم “المثقف”، أي البحث عن المعادل الدلالي الثقافي العربي لهذه اللفظة في مناخنا التداولي المعرفي، ولربما حتى السياسي.
يؤكد محمد عابد الجابري على أن لفظة “مثقف” بمفهومها المعروف حاليا لا أصل “معرفي تداولي” لها في تراثنا العربي الإسلامي، وأنها دخيلة على معجمنا العربي، وأن لفظة “العلماء” هي المفهوم الدقيق الذي يمكن أن يقابلها تداوليا.
غير أن سياقات الانفتاح المعرفي سمحت بولوج كلمة “المثقف” إلى مجالنا التداولي العربي من الثقافة الغربية، وصار استعمالها جاريا، بل وأصبحت تؤدي الدور الذي لعبته لفظة ” العلماء” من قبل.
ما يهمنا في هذا السياق هو أن مفهوم “المثقف” في الحضارة الغربية، وبالضبط في فرنسا، كان قد نشأ في ظروف سياسية حادة، ارتبطت بقضية ” دريفوس”، الضابط الذي اتهم بالخيانة العظمى وحكم عليه ظلما بالإعدام.
هذه الواقعة ستدفع شرائح متعددة من المجتمع الفرنسي إلى النزول للتظاهر بالشوارع تضامنا مع ” دريفوس”، وستظهر لأول مرة لفظة ” المثقفون” على لافتات مرفوعة وسط الجماهير، وهي الواقعة نفسها التي ستدفع ” إميل زولا” إلى نشر مقاله التاريخي ” إني أتهم” “J accuse”.
ما يهمنا أكثر، ونحن نعيد إثارة هذا الموضوع، هو الإشارة إلى الدور العضوي والحيوي الذي يمكن ان يلعبه المثقفون في الحياة السياسية لبلادهم. وإلى الدور المصيري الذي يتحملونه في الإعانة على توجيه سياسات بلادهم نحو الأفضل. والأكيد ان الانتخابات تأتي على رأس الانشغالات التي ينبغي للمثقفين أن يحيطوا أنفسهم بها.
منذ ما يزيد تقريبا عن ثلاثة عقود ونحن نلاحظ تواري المثقف المغربي عن التواجد في الواجهة الأمامية للانتخابات التي شهدتها بلادنا. وأقصد هنا بالتواجد المباشر عبر الترشح في لوائحها، وخوض غماراتها، والطموح إلى تمثيل الجماهير الشعبية في مؤسساتها.
منذ ما يزيد تقريبا عن ثلاثة عقود ونحن نعيش على إيقاع تشكيلات انتخابية جماعية وتشريعية يغيب عنها الحضور العضوي للمثقفين. وهو ما يصيب اغلب المغاربة بإحباط سياسي مضمونه أن الحال لاتزال على حالها، أن لا أمل في حلم نرى فيه نخبنا الوطنية تحدد في اختياراتنا ومصائرنا السياسية والاقتصادية والثقافية.
هل سيكتفي المثقف بتوجيه النقد من داخل مكتبه المتعالي، أو التعبير عن حسرته ومراراته من داخل تواريه، إن لم نقل هروبه.
انتخابات 2021، وما آل إليه الوضع بالبلاد من انكشاف لحقائق مهولة متعلقة بالفشل في سياسات تدبيرية طالت تقريبا كل المجالات الحيوية بعد “جائحة كورونا”، يحتم على المثقف المغربي أن يعيد النظر في حساباته السياسية، وأن يقطع مع مرحلة التنظير المتعالي، وأن يعمل على النزول إلى ساحات تدبير السياسات العمومية يختبر فيها قدرته على إفادة وطنه بما يذخره من علم وعمل.
• عبد الإله المويسي